زكي الأرسوزي
زكي الأرسوزي من كبار المنظرين العرب للفكر القومي، وقد بدأ كتاباته فى أوائل القرن العشرين، وناضل لتأسيس الحركة القومية واعتبرت أفكاره رائدة للبعث.
لكنه يواصل إنتاج الوعي القومي الغيبي مثل الحصري وقسطنطين زريق، يقول:
«إن ظهور الأمة على مسرح التاريخ مماثل لظهور الإلهام في الوجدان أول لظهور النوع الحيواني ذي الطابع البديء على مسرح الطبيعة… وكما أن الإلهام ينجمُ في الوجدان كاستجابةٍ تجيبُ بها النفسُ على جملةِ رموز مرتسمة صوراً في الدماغ، وكما أن النوع يبدر على مسرح الطبيعة كاستجابة تجيبُ بها الحياة علي انقلاب في البيئة، فكذلك تظهر الأمةُ في تاريخ الإنسانية كعقيدة. إن الامة تجربة رحمانية في الوجود أجابت بها النفوس على ظروف طبيعية اجتماعية مشتركة، وإنه على عمق هذه الإجابة تقاس أصالة الأمة»، (رهانات النهضة، ماهر الشريف، ص ٢١٨).
يعرض الأرسوزي تكون الأمم بطريقة تجريدية عامة، خارج التكوينات الاقتصادية – الاجتماعية، فتظهر له بشكلين مختلفين، أحدهما أن يكون ظهور الأمة كإلهام، وهو عملٌ إبداعي ذاتي منقطعٌ عن الممارسة التراكمية الإبداعية وشروطها الموضوعية وهو يعيد الإلهام هنا إلى الموروث العربي السحري، وكأنه لقاء مفاجيء بالسماء وبالأرواح والشياطين، وبهذا فهو يدمغ تشكل الأمة هنا بلحظة ذاتية خيالية سحرية.
ثم يحول هذا الإلهام إلى لغة إيهامية بالعلم حين يقول بأن «الإلهام استجابة للنفس على رموز مرتسمة في الدماغ»، وتتحول النفس الموحدة هنا إلى جملة نفوس، فهناك النفسُ التي تستجيبُ وهناك الرموز التي في الدماغ، أي أن النفسَ تستجيب لنفسها، لكن الرموزَ هي انعكاساتٌ لأشياء في الوجود. وبهذا فإن العلاقة الموضوعية بين النفس والخارج تنسد لأن الأرسوزي حوّل النفس والرموز إلى شيء واحد.
والجانب التشبيهي الثاني يستعين بالنوع الحيواني في ظهوره على الطبيعة، كأن ظهورَ الأنواع الحيوانية هو نفسه ظهور الأمم على مسرح التاريخ، وهو يفسرُ ظهور الأنواع الحيوانية بشكل سحري كذلك، فالنوع يظهر كاستجابةٍ «تجيبُ بها الحياةُ على انقلاب في البيئة»، فهو يجعل الحياةَ قوةً مفارقة سماوية هى التى تبث عناصرنا في الوجود المادي. وهذه الحياة تقوم بطرح إجابة على أسئلةٍ فوق مسرح البيئة الذي شكل الأرسوزي أكسسوراته المجرد. فحين يحدث انقلاب في هذه البيئة تقوم الحياة بالإجابة وتخرجُ النوعَ.
وهنا يتقاطع الأرسوزي مرة أخرى مع العلم، فالنوع لا يتشكل كاستجابة مفاجئة، بل يقومُ بخلقِ تراكم عضي طويل داخله لكي يتكيف مع تبدل شروط البيئة الخارجية، التي تغيرت رغماً عنه، أو حين ذهب هو إلى بيئة جديدة، وتكونُ النوعِ هو هذا التكيفُ الطويلُ مع تحولاتِ الطبيعة، ويتحددُ بقدرةِ الأجسام على هذا التكيف وعلى التغلب على صعوبات البيئة.
لكن هذا التكيف للأنواع الحيوانية وظهور أنواع جديدة من رحم القديمة هو غير ظهور الأمم، فظهور الأمم يعودُ إلى مستوى تكون أخر هو التطور الاجتماعي، والتطور الاجتماعي له قوانينه المختلفة عن تكون الأنواع الحيوانية، فالأخير هو مستوى بيولوجي والآخر مستوى اجتماعي، وكلاهما من طبيعة نوعية مختلفة، ودمج النوعين يعود لشكل من الوعي الإيديولوجي الذي يُسقط مقولاته على الظاهرات.
فالأمة تكونُ تكويناتُها الأولى هى القبيلة والفخذ والشعب، وهذه التكوينات تكون أقرب للتكوينات الحيوانية ثم تتطور تبعاً للسيطرة على البيئة، وذلك عبر عملية صراع طويلة تفشل فيها جماعات وتنجح أخرى حسب تنامى قدراتها، ولكن حتى هذه العملية تعود لما قبل تكون الأمم، أي لعمليةِ تكونِ أسسها وقواعدها الإجتماعية التي تتمظهرُ في لغةٍ ووسطٍ تاريخي تتواجدُ فَيه وتشكلُ وعياً يميزها كجماعةٍ قومية عن أخرى، وهذا الوعي القومي الطالع الجديد لا بد أن يكون وعياً لا دينياً ، لأن الوعي الديني يوحدها ويذوبها في الجماعات القومية الأخرى التي تشترك في دينٍ واحد معها، وهذه العملية الانشقاقية التكوينية تحتاج إلى تغيير شروط البنية الاجتماعية، أي لا بد أن تتكون سوقٌ موحدة لهذه القومية كي تتجسد مصالحها الموحدة من بين الأمم الأخرى المحيطة والداخلة ربما فيها الخ..
خلافاً للوعي الموضوعي بالتاريخ يشكل زكي الأرسوزي لوحة شعرية إلهامية سحرية، بدلاً من أن يقوم بدرس تكوّن الأمة بصورة تاريخية موضوعية، فيستخدم تشبيهات واستعارات لا تتطابق والموضوع المدروس، ليصل من ثم إلى استنتاجات أيديولوجية مسبّقة:
«تظهر الامةُ على مسرح الطبيعة كعقيدة».
لا توجد قبائل تظهر على مسرح التاريخ بدون عقائد، فالعقيدةُ هي شكلٌ محددٌ لعلاقتها بالطبيعة ولعلاقاتها الداخلية، ومن هنا فكون العقيدة سحرية — أسطورية — دينية — قومية نهضوية — قومية تعصبية عدوانية، الخ، كلها تعبرُ عن صيرورة الجماعة في حالات تحولها من شكل ابتدائي إلى شكل متطور.
ولكن اللغة التجريدية للأرسوزي تجعل كيان الجماعة المتحولة إلى قومين متداخلاً مع تكوينات أخرى، سواء كانت تكوينات ما قبل القومية أم تكوينات قومية، أي تقوم بالخلط العشوائي ما بين أشكال وعيها السحرية والأسطورية والدينية والحديثة.
«الأمة تجربة رحمانية فى الوجود أجابت بها النفوسُ على ظروفٍ طبيعية مشتركة، وإنه على عمقِ هذه الإجابة تُقاس أصالة الأمة».
إن استخدام مصطلح تجربة رحمانية يشير إلى أثرٍ صوفي، فصلةُ الرحم الولادية تتحولُ إلى ما يشبه النشوة الكونية، وكأن تكون الأمة هو انبثاق غيبي إلهي، شكلته النفوسُ الروحانية تلك فكونت الامة. وعلي عكس ( العمق ) المراد يتشكل هنا التسطيح. ويستهدف الأرسوزي عموماً خلق مشاعر قومية فياضة، لكن مثل هذه المشاعر يستغلها بعد ذلك السياسيون الانتهازيون لصالح تكوينات الأحزاب القومية الحماسية التعصبية التي تنتجُ عكس ما كان يبتغيه الأرسوزي . فتصير الإجابةُ السياسية القومية المتجسدة على الأرض معيقةً لوعي الأمة وتطوره، لكون التأسيس الأيديولوجي كان مضاداً للعلم وللتطور الموضوعي.
وبطبيعة الحال فبما أى الأمةَ العربية جوهرٌ خارج الزمان والمكان وقادمٌ من الغيب، فإن أي أوشاب وأدران تكون ليس من جنسها الطاهر المقدس، بل من القوميات الأخرى التي اختلطت بها:
«لما طغى الدخيل والهجينُ على بيئتنا تقلصت مشاعرنا الرحمانية، وعميت بصائرنا في الشؤون الإنسانية.. واختل نظام القيم في مجتمعنا».
تغدو الآراء الشمولية الإيديولوجية المعاصرة برفض الاختلاف والتعدد الاجتماعي والتي تقود القومَ المسيسين المعبأين مُسقطةً على الماضي التعددي الاختلافي، الذي تطور عبر صراعاته واختلافاته، وقد عجز الماضون عن مواصلة التقدم، لأسباب مركبةٍ تعودُ إلى طبيعة علاقات الإنتاج، لكن علاقة الإنتاج الماضية التي عرقلت ذلك التطور تعودُ للنمو في عصر الأرسوزي، ولكنه لا يقرأ مجمل البنية الاجتماعية وتاريخ تطورها، بل يُسقط دعوته السياسية الحماسية على الماضي والحاضر، فيرى التدهورَ بسبب مجيء الأغيار غير العرب، وكأن العرب ليسوا هم الذين اقتحموا تلك البلدان غير العربية وسيطروا عليها وتحكموا في تاريخها، فتشكلت مجموعاتُ الشعوبِ الإسلامية غير القومية، وكانت سيطرة شعب على شعب مظهر لسيطرة طبقة على الشعوب المختلفة، ومن هنا ففي عالم «الأغيار» أي في نتاجات الشعوب الأخرى الإسلامية ما هو إيجابي وما هو سلبي، وقد سببت تلك السيطراتُ الاجتماعية للأقلية المميزة دفن الآثار الإيجابية لمختلف الأمم الإسلامية التي لم تكن في حالةَ اممٍ واعية لتميزها، وهي في الشكل السياسي الإمبراطوري، ولكن هذا الوعي ( القومي ) أخذ يظهر حين راحت الامبراطورية تتفكك، ولكن العرب خضعوا مرةً أخرى للإمبراطورية العثمانية التي دفنت ذلك التململ.
وحتى ذلك التململ القومي العربي كشكل من أشكال التجليات القومية للأمم الإسلامية، لم تتح له الظروف أن يظهر بشكل قومي بيّن، فظهر بشكل ديني مناطقي ومذهبي عبر المذاهب السنية والمقاومة للقوى الصليبية الغازية حينذاك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
■ انظر عبــدالله خـلــيفة: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الرابع، تطور الفكر العربي الحديث , وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة , 2015.


