اليسار والميراث الديني
من الآراء التي تمخضت خلال الحوارات حول الثقافة العربية الإسلامية ضرورة نشر الآراء الديمقراطية الجديدة حول تاريخنا وتراثنا مع الجماعات الدينية والليبرالية لمزيد من تعميق هذه الآراء ونشرها وتصويبها.
وهو قولٌ وجيه وضروري ولكن الأمر يحتاج إلى خطوة أكثر ضرورة وهي تثقيف اليسار نفسه بهذه الآراء، فتكاد الجماعات اليسارية أن تكون منخلعة من فهم إرثها العربي الإسلامي، وقبل أن يذهب المرء للحوار مع الجيران من الضروري أن يرتب بيته الداخلى.
والصورة السائدة عن الإرث في الماضي تكاد أن تكون مشتركة في كل التيارات باختلاف توجهاتها، ما عدا الاتجاهات المتطرفة التكفيرية التي لا تتزحزح عن شعرة من نصوصيتها.
وهذه الصورة المشتركة هي العموميات المذهبية السياسية، أما الحفر تحت هذه الصورة المشركة، فهو أمر صعب. وهي ثوابت كرستها عدة قرون سابقة، وهى تتجذر في عادات شعبية واسعة، وطرق تفكير منمطة أشبه بالصخور!
ونجد أنه حتى المجددين في الفكر الديني لا يحظون بأهمية تذكر في صفوف طوائفهم، مما يؤكد صعوبة اختراق المؤسسات الدينية التقليدية، التى عاشت على طرق تفكير مقننة عبر المذاهب الرسمية المتواشجة مع الأنظمة السياسية الشمولية في المنطقة.
بل انه حتى الأنظمة التقليدية وهي تحاول بعض الإصلاح الطفيف فى الأنظمة الدينية التقليدية التى عفى عليها الزمن تواجه بمقاومة شرسة داخل بلدانها، في حين تقود السيطرة المتزمتة في أنظمة أخرى، وكذلك تفاقم العمليات الإرهابية والمذابح، بعض الجمهور إلى الكفر بكل شيء!
ولهذا فإن الأزمة الفكرية/السياسية في العالم الديني التقليدي مستفحلة بكل ضراوتها . في حين أن المجددين في الفكر الديني نفسه والمعزولين عن تيارات التأثير، هم أنفسهم يعجزون عن الوصول إلى سر هذه الأزمات، نظراً لرفضهم وجهات النظر المادية الجدلية والتاريخية والمدارس الجديدة في الفكر والتحليل!
وهكذا فإن اليسار يواجه ضحالة فكرية تراثية في صفوفه، ويواجه أزمة فكرية دينية في الحياة العامة، معتبراً المسائل الفكرية الرفيعة وقضايا الجذور التاريخية للفكر والأديان، مسائل ترفيهية ومضيعة للوقت الثمين المكرس للشعارات!
ولهذا لا يصبر أعضاء الجماعات اليسارية والليبرالية على قراءة المسائل التراثية، ويريدون فقط مناقشة المسائل اليومية، والتركيز على سطوح الظواهر، تدفعهم في ذلك الرغبة في تأجيج التطور والإسراع بحل المشكلات، دون أن يتحقق لهم شيء من ذلك فييئسون!
لأن حل المشكلات الجماهيرية لا يتم دون وجود جبهات سياسية واسعة تضم أوسع القطاعات الشعبية، وهو أمر لا يتحقق في وجود انقسام مذهبي سياسي واسع وتفكك فكري، ومن هنا يحتاج الأمر إلى ركائز فكرية مشتركة واسعة بين الناس، وبين الكتل الاجتماعية المختلفة، وهذه الركائز تعتمد على فكر النهضة والجذور الإسلامية والأفكار التقدمية المعاصرة معاً!
وهذه ليست خلطة طعام سريعة، بل هي رؤى منفتحة عند الجماعات السياسية الفكرية المؤثرة، تدفعها للقسمات المشتركة في الإسلام والفكر التقدمي الحديث، وقد تجاوز الاثنان الأشكال الشمولية وتخلصا من شبكات السيطرة، سواء على مستوى سيطرة الدول القديمة العربية وشكلنتها للإسلام، أم على مستوى الدول التقدمية المعاصرة وشكلنتها للفكر التقدمي وتحويله إلى شبكة للهيمنة الأدارية.
وفي الفكرين تتوارى الأجهزة الشمولية ويتجسد تحنيط النضال والوحدة الكفاحية الديمقراطية المعاصرة تتطلب نقدهما على مستوى الحاضر أو الماضي، وعلى مستوى الدين أو على مستوى السياسة !


