القراءة والزنزانة

يعيشُ الناسُ في الزنزانة ويتصورون أنهم أحرار، لكنهم ليسوا كذلك، لأنهم لا يقرأون الكتب.
إن غياب القراءة هو غياب الإنتاج، والعجز عن تطوير قوى الإنسان وإمكانياته الداخلية ومواهبه. ولكن من الممكن كذلك أن تكون القراءة فعلاً غيرَ مجدٍ، إذا لم ترتبط بالإنتاج، كالمثل الذي ضربه الإنجيلُ عن الحمار الذي يحمل الكتب الكثيرة (الأسفار) ولكن لم ير سطراً داخلها.
فالقراءة ليست خاتمة المطاف، ولكنها بداية الفعل، وهي التي تؤسس عملية التراكم للإنتاج الفكري والصناعي العام، ولهذا فإن قراءة الصحف وحدها لا تسمى قراءة، لأنها قراءة للخبر والرأي السريع والانطباع، وهي أمر لا يكون وحده رأياً، ولا يشكل وعياً، بل يكون ردود فعل سريعة ومتابعة خبرية.
تعني قراءة الكتاب القدرة على الجلوس في مكان لساعات، وبالتالي الصبر والانضباط وتحريك خلايا العقل باتجاه موضوعٍ واحد، أي خلق تركيز فكري وتوغل والاتجاه نحو التحليل وتجاوز الانطباعات وخلق رأي.
ولهذا تراهم في الدول المتخلفة التي لم تتشكل فيها معركة الكتاب الحضارية، يسحبون الكتاب من الأسواق، والمطار والميادين العامة وملتقيات السياح وأمكنة الآثار ومن المقاهي والفنادق، ليظل الناس عمياناً، غير مبصرين في زنازينهم الواسعة، معشيين عن أنظمتهم وأجورهم وتاريخهم وطبقاتهم وجذورهم وتياراتهم الفكرية والسياسية!
ولهذا لا ينظمون لقاءات واجتماعات وندوات لتدارس الكتب وتجذير فعلها في حياة الجمهور، لتغدو عادة القراءة مرادفة للذين يضيعون أوقاتهم وأموالهم وعقولهم في أشياء لا تنتج فائدة وتحرف العقول عن مكانتها الفارغة السامية.
لهذا يغيبون الكتب الكبيرة الثورية في تاريخ البشرية عن أن تكون فعلاً معرفياً في الجامعات، وهي كتب مثل (رأس المال) و(أصل الأنواع) و(الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية) و(تفسير الأحلام) ويوجهون الطلبة إلى كتب الموضة الفكرية التي هي مثل ملابس الفصول المتقلبة.
في السابق لعبت الكتب الدينية الكبيرة دور فتح الأبواب للثورات، وغدت المجتمعات (كتابية) بمعنى أنها كتاب معين، مما يشير إلى دور الثقافة في الانعطاف بالمجتمعات من حال إلى آخر، والآن لم يتغير الوضع، فالمجتمعات التي بلا كتاب لا تزال أمية حقيقية، في حين لدى الغرب تعددية الكتب، فضربت عادة القراءة في أحشاء الجموع، بحيث يغدو من لا يقرأ الكتب أشبه بحيوان.
من هنا عبرت الكتب الدينية في الزمن القديم عن دورها في تشكيل اهتمام واسع بالكتاب، فبعد ظهورها خلق تيارات اجتماعية وقرائية حولها وحول مختلف الظاهرات وشكلت فئات المثقفين المتعددين، ولكن ما ان انتهى «زخم» التحولات حتى توقف الاهتمام بالكتاب، وتضاءلت فئات المتعلمين.
وجاءت الثورات الغربية عبر الكتاب بدءا من عصر التنوير الذي لعبت فيه كتب التنويريين كفولتير وجان جاك روسو دور نشر الشعارات الديمقراطية عن أوسع الفئات. ومن هنا كانت طبعات الصحف اليومية في عصر التنوير الأوروبي تطبع بمئات الألوف من النسخ يومياً، وهي التي كانت تحوي مسلسلات الروايات ومسلسلات الكتب الفكرية الكبيرة، في حين لا تستطيع صحفنا العربية الكبرى في الوقت الراهن أن تقترب من هذه الأرقام.
لا تحارب حكوماتنا العربية الجهل وبعد الناس عن الكتاب، ولا تقيم محطات فضائية لنشر الكتاب، بل تحتفي بموت الكتاب لدى العرب من أجل أن يزدادوا بعداً عن توجيع أدمغتهم.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 12, 2023 22:39
No comments have been added yet.