الزعيم الديني وغياب الوطنية

الزعيم الديني عاش مثل التاجر المبتعد عن السياسة، فهو كائن بدوي قبل أن يكون كائناً مدنياً، فالمذاهب الإسلامية كانت مذاهب متحولة، والمنطقة التي كانت سنية تتحول إلى شيعية والعكس، كان العرب في ترحال مستمر وانتقالات عبر القرون، ومن هنا لم يوجد فيها شيءٌ اسمه الوطن، ولم تظهر حركات وطنية، والوطن لدى البدوي هو الخيمة والنجعة ومورد الماء والنهر والمضارب.
والزعيم الديني يعطي إنتماءه للنص الديني، فهو وطنه، وهو عدة الشغل الاجتماعية والسياسية، التي تتبدل حسب التواريخ والصراعات والتحولات، وقد يعيشُ في بلدٍ غيرِ بلدهِ الأصلي لكنه يحوله إلى بلده، عبر العيش فيه دون أن ينتمي إليه إنتماءً عميقاً، وقد يعود لبلده السابق دون أن تتغير الأحكام الفقهية ولا ذاته. فلم تكن ثقافتنا الدينية السابقة ممتلئة بقيم النضال الوطني.
الزعيم الديني ذو جذورٍ بدوية ترحالية، ورغم أن الركائز القومية تبقى غائرة عبر اللغة، فإن اللغة ذاتها تتبدل ويبقى الأنتماء القومي ضارباً ومضطرباً وغائماً في القاع في زمن الملة، حتى إذا أخذت البلدانُ العربية والإسلامية تتقسمُ على أيدي الاستعمار، لم تستطع الحركاتُ الدينية أن تؤسسَ الحركات الوطنية أو أن تشاركَ فيها مشاركة واسعة، ووجدتْ نفسَها غريبة لأن ثقافتها قائمة على ما هو غير الوطن، ولم تبدأ الحركاتُ الدينية بالظهور إلا حين لاحَ غروبُ الأوطانِ وتمزقها بين المذاهب.
وهكذا حين تستعيدُ الأوطانُ وحدتها ستجدُ هذه الحركات نفسها خارج تاريخها التوحيدي.
وإذا تنامتْ عند رجلِ الدين المشاعرُ الوطنية الفياضة فإنها لا تظهر عبر الدين بل عبر الحداثة، ولهذا تجدُ الأفغاني أو محمد عبده عميقي الوطنية، لأنهما جعلا الحداثة أداتهما في النضال الإسلامي.
وقد كان سكانُ شمالِ أفريقيا العرب يستغربون بشدة أن يكون في المشرق أشخاصٌ عربٌ وغيرُ مسلمين وغير عملاء للاستعمار كذلك، نظراً لغربتهم عن الحداثة!
تماهى لديهم الدين والقومية والوطنية واستمرت خريطة العالم الإسلامي القديمة في نفوسهم رغم تبدل الأوضاع السياسية ونشؤ دولٍ مستقلة، لكن هذه الكيانات تغدو لديهم مصطنعة، زائفة، والأصل هو الملة الإسلامية، فقراءتهم للإسلام قراءة بدوية عتيقة، لا تعترف بالأوطان ولا بنتاجاتِ الحضارات الإسلامية فهي لديهم مشوشة ضالة حتى بدون قراءتها وفحصها.
والبدوي الديني هذا المتصحر عقلاً يعتقدُ إنه مصيبٌ في كل شيء، لحفظهِ بعض الجمل المقدسة، وعلى أساسها يريدُ أن يحكم العالم، وإذ لم يستطع ذلك دمره، فليس عنده شيءٌ اسمه تاريخ وعصور متغيرة وظروف اقتصادية وأمم وشعوب إسلامية متبدلة، ويظل يعيش في جملهِ الدينية باعتبارها هي الملة والوطن، وهي متعالية موجودة مسبقاً، تعيشُ في الفضاء المقدس، غير قابلة للنزول للأرض وفهم العالم والاحتكاك بمشاكل البشر العميقة.
والإسلام لديه أحكامٌ مُبسَّطة عن الشعائر الدينية، ويعتقد إنه يتطابق وأحكام السلف الصالح كما يفهمُ السلفَ عبر تلك النصوصية المُبسّطة، التي تتركز على الديكورات الخارجية في الشكل والملابس والعلاقة مع الغير، وحين يجثم في مسرح الديكورات هذا يرضى عن نفسه أشد الرضا وينطلق في محاربة العالم الوثني.
وهذه التبسيطية الدينية راحت تواجه عالماً مغايراً أصبحت فيه الوطنية أساساً للوجود السياسي، وانبثقتْ حكوماتٌ وظهرتْ أعلامٌ ملونة متعددة ومؤسسات وطنية وعالمية ومواثيق أممية، لكن الزعيم البدوي الديني لا يعبأ بهذه التغييرات والخرائط (الزائفة).
فهو يريد أن يحطم ويهزأ بالزمن الراهن الذي لا يحكمهُ السلفُ ولا عقيدتهم، بل تسود فيه عقائد الكفار، وهنا يغدو من الصعب أن يفهم الوطن المعاصر، الذي هو شيءٌ مختلف عن المذهب والجمل الدينية ذات التاريخ الخوارجي غير المدني.
ويبدو الحال أن الكثير من الحركات الدينية تعترف وتقر بوجود أوطان مختلفة عن بعضها البعض، لكنها في الممارسة خارج الأوطان وتتبع حركات لا تعترف بالحدود، وبالدول وظروفها المختلفة ودرجات تطورها المتباينة، مثلما فعلت الحركات الشمولية السابقة.
لو وجدنا حركة دينية لها اهتمام كبير بوطنها، فإن هذا الاهتمام ليس وطنياً، فالنص الديني المقولب الشكلاني هو الوطن، فترى إن الطائفة فقط هي الموجودة في الوطن وأنها البؤرة لديها، هي القلب الذي تدق نبضاته السياسية عبره، والطائفة تتجاوز الوطن إلى أن تلغي الأوطان، وحتى هذه الطائفة تتحولُ في النهاية إلى نص، إلى كلامٍ فقهي مقدس مفصول عن مشكلات الطائفة وقضاياها وتطوراتها، ويتركز النصُ على العبادات والأحوال الشخصية حيث الذكورية المتطرفة سيدة عالم البدوي الاستراتيجية، وفي نهاية النص يقفُ الفقيهُ المحافظ، وهو بدوي متوارٍ في ملابس دينية، لم يغدُ مهاجراً مترحلاً كما في السابق، لكنه مترحل عبر البيانات التي تأتيه من زملائه رجال الدين في المراكز الطائفية المخلتفة، ويغدو المركز هو مركز الجمل الدينية المسيطرة على عقله، لا مركز المشكلات الشعبية التي يعاني منها المسلمون في كل بلد له ظروفه الخاصة!
وحتى هذا المركز يمكن أن يتغير فليس المهم المركز بل الجمل الدينية.
في مثل هذه الأحوال تغدو العموميات السياسية القديمة مسيطرة، فعالم الإيمان والكفر يتصارعان ولا بد من نصرة الأول ضد الثاني، والغربيون كفار فيجب مواجهتهم والدفاع عن الإيمان والوطن الذي هو وطن المسلمين سواء كان في الجزيرة العربية أم في إفغانستان أم مصر، لا فرق بين بلد وآخر، والسلاح هو ذاته يصلح لكل مكان.
تمت إستعادة مناخ الحروب الصليبية عند الزعيم الديني بسبب إنه لا يفهم العالم المعاصر، وكلُ شيءٍ يرجعُ لديه لمؤامرات صليبية وغربية وأمريكية!
ولهذا تجد الكثيرين من التحديثيين شكلاً هم مثل هذا البدوي الخوارجي حيث الكره العميق للديمقراطية والحداثة ومن أجل سيادة قيم الذكورة المستبدة والعداء الزاعق الشكلي للاستعمار.
ونجد أن زعيم الدينيين في دولة عربية تطورت يستخدم نفس اللغة السياسية التي يستخدمها زعيم الدينيين في الريف الباكستاني، فثمة عالم مجرد محدود داخلي ثقافي يعيشه الأثنان، ولا فرق إذا تم تشريد الملايين أو عاشت هذه الملايين في المقابر أو هاجرت للصحارى، فالوطن شيء غير موجود، وتستخدم هنا عبارة مقدسة لإضفاءِ شرعية على مثل هذه الفوضى وغياب الأنتماء والمسئولية، فـُيقال كلها أرض الله.
توحدُ الدفاعاتُ عن الذكورية المتطرفة والعادات العتيقة والخيمة الدينية المتجولة وقانون القبيلة، زعماءَ الدين اللاوطنيين، تغدو هي وطنهم، وتغدو الهجرة من ديار المسلمين للبادية، وإلى الجبال هي الحق، أو أن الريف المحافظ يريد فرض هيمنته الذكورية على المدن الاسلامية المتوجهه للحرية والتطور.
الرعبُ من حداثة النساء والعقول هي المخاوف الدائمة للزعيم الديني، فيعرقل تطور المجتمعات الإسلامية وتوحدها وتحررها، ويجلب لها الجيوش الأجنبية، ليس هذا إلا لأنه لا يفهم الدين ولا يفهم العصر ويريدُ فرضَ قراءته المُبسّطة المحدودة في عالم كثير التعقيد والتنوع ويحتاج لخطط نضال في مستواه، ويجد الزعيم لسؤ الظروف إن لديه من البسطاء الجهلة من لا يعرف أسباب مآسيه فيتوحد بهذا الانتحار الجماعي الواسع النطاق!
علاج المشكلات لدى الزعيم الديني اللاوطني هو الانتحار في حين تريد الشعوب الحياة.


