الانتهازية في الحداثة

اليسار العربي هو أكبر قوى الحداثة في المنطقة، وغالباً ما تُرجع أسبابُ فشلهِ لعوامل خارجية، وليس لعوامل فكرية داخلية، وأهمها إنتشار الانتهازية بين صفوفه، وللانتهازية هنا مقولات سياسية وفكرية، ولعبتْ هذه حتى على المستوى الشرقي العالمي أدواراً خطيرة.
قيل كثيراً إن أفكاراً مثل حرق المراحل لعبتْ دوراً كبيراً في ذلك، لكنها تُؤخذُ بشكلٍ منقطعٍ عن الإيديولوجيات، فقد رفضَ هذا (اليسار) الاعترافَ العميقَ بوجود الإقطاع، وإنه ليس تشكيلة إجتماعية إقتصادية(سياسية ودينية مشتركة)، وإنه مجرد بقايا سابقة وإننا الآن في الرأسمالية.
في الماركسية المُؤسِّسة المُشَّكلة في الغرب طُرحت لأول مرة مسألة التشكيلات وهي المشاعية والعبودية والإقطاع والرأسمالية والإشتراكية.
وبدأتْ الانتهازيةُ من اللينينية التي رفضتْ مرحلةَ الإقطاعية، التي رفضت النضالِ داخلها لتشكيل أنظمة رأسمالية شرقية يتم التجاوز من داخلها، وليس عبر القفز عليها ولم تشكلْ إشتراكيةً بل مرحلة إستبدادية رأسمالية حكومية.
ومعروفة بقية القصة، وكان لذلك نتائج على الأحزاب التحديثية في الشرق، ولكن مع تطورات الحياة السياسية والصراعات التاريخية المختلفة، وجدتْ دولٌ عديدة في الشرق نفسها إنها تسير للوراء، وتتشرذم مذهبياً، وتتمزق قومياً، وتتشظى بل تنفجر!
العديد من القادة الذين عاشوا في هذه المرحلة لم يقوموا بإعادةِ النظر في هذا التاريخ، والقيام بحفريات في السياسة والثقافة في هذه المرحلة، فكان إنهيارُ النموذج الحديدي يتم أما بالصمت أو بالابقاء على هذا التاريخ السياسي النظري سراً.
لم تُوجدْ مواجهاتٌ شجاعةٌ كثيرة على المستوى الفكري خاصة. وبالتالي فإن القواعدَ المؤسَّسة بشكلٍ ديني عاشتْ مرحلةَ إنهيارِ النموذج تنتظرُ ما تقولهُ القياداتُ الرسمية.
كانت المأساةُ كبيرةً فإلانتظار الحاسم لانهيار الرأسمالية وهزيمة قوى الشر والإستغلال، إنقلبَ على أعقابه وهُزمت (الإشتراكية) الخالدة، وإنتصرتْ الرأسمالية في أشرس قلاعها، وقامت بالحراك السياسي المنتصر.
وغابت الكتاباتُ والأقلامُ التي تروجُ للنموذج الرأسمالي الحكومي الشرقي والتي كانت تستند لقواعد نظرية بحثت وقرأت بشكل كبير، وأسستْ مرجعيةً متفرعة من تلك الإرادية الانقلابية الشرقية، الاستبدادية، وحتى هذه إختفت.
بالنسبة للقواعد اليسارية خاصة لم يقدم أحدٌ مادةً تعزفُ على نفس النشيد المنتصر، بل ظهرتْ كتاباتٌ تبحثُ في عمق الأزمة وتكشف الأخطاء.
كان الفساد والانتهازية في الواقع على الجانبين الإشتراكي الحكومي والتنظيمات التابعة لها، وهو الذي عرقلَ تطورَ الماركسية كأدواتِ بحثٍ موضوعية ناقدة، حرة.
مسألة الإقطاعية تلك لم تُبحث بشكلِ تشكيلة، وإندفعت في ذات السنوات التنظيماتُ الدينية الاسلامية، ووجدتْ نفسها كأنها ترثُ المعارضةَ الأساسيةَ بديلاً عن الماركسيين الذين إنهاروا فجأة، بسببِ القمع والأخطاء السياسية والفكرية خاصة.
لا بد أن نقولَ بأن تتبعَ الموديلَ السياسي الخارجي ركيزةٌ أساسية في الذهنية العربيةِ غيرِ المنتجة، غيرِ المحللةِ بأدواتٍ منهجيةٍ لواقعِها، وحين أنهارتْ المعرفةُ الجاهزةُ تدهورتْ العقولُ اليساريةُ المجترة، وراحتْ تركضُ وراءَ السائد المذهبي والليبرالي بكل أشكالهما المتفرعة من كثرة الطوائف والكتل المصلحية الباحثة عن المال.
لم تعرف بأن كل هذا السائد هو حصيلة التشكيلة التي لم تعترفْ بها وهي الإقطاع الضارب الجذور في المنطقة، وكأن الجملَ الثوريةَ ونقل حشود الكتب والكراريس تكفي لتجاوز التقليدية، ولهذا فإن كتلَ اليسار المتمزق الفارغ من اليسار ومن أدواتِ التحليل الماركسي، فوجئتْ بأنها تناقش قضايا مثل الحجاب وحرية المرأة ونقد الطائفية، وتوزعتْ قواها وتهلهلتْ بين أناسٍ ركضوا نحو العزلة أو التجارة الخاصة، وآخرين إستظلوا بمظلاتِ الحكومات المختلفة شيعة وسنة، شرقاً وغرباً، وكل منهم يروج للمظلة الجديدة التي زحفَ على تبرِها وترابها.
إن المظلات الشرقية (الاشتراكية) لم تتركهم مستقلين ينتجون فكراً داخل بلدانهم، بل تحكمتْ في الأطر العامة العالمية وتركتْ التفاصيل الجزئية لهم، ولكن لم يكن بإمكان الوعي غير المستقل أن يُنتجَ فكراً متجذراً، وحتى الأشكال الإستثنائية الفكرية لا تكفي، ولا تكَّون حالاتٍ منهجيةً سياسية واسعة، في حين برز الدينيون بأشكالٍ جماعيةٍ واسعة، وصار ثمة تحولاتٌ سياسيةٌ فوضوية شتت الإصلاح الحقيقي وقدمت مبررات للتدخلات الأجنبية وإستغلال صراع المسلمين دولاً وشعوباً، لتكون القيادة في الدول الغربية المسيطرة.
إن عدم تجاوز الإقطاعِ بشكلٍ تدريجي ديمقراطي عقلاني في روسيا والصين وأوربا الشرقية خلقَ إرتداداتٍ عنيفةً في الدول الأكثر تخلفاً منها والتي سارت على خطاها رؤىً أو دولاً، والتي لا تتمتع بالوحدة والأسواق الكبيرة والقوى الصناعية، والتي عادتْ فجأة لتراثها الديني السابق المنقسم المتشظي بشكلٍ حاد، ولم تحققْ الإستقلال الحقيقي، والأزدهار، فتراكمتْ عليها كوارثُ القفزة الاشتراكية والارتداد لمراحل سابقة متخلفة من الإقطاع.
توجهت بقايا اليسار للقوى الإقطاعية السياسية والدينية المنتصرة بسبب خلو آسيا خاصة من الاشتراكية، المفترضة، وأدى الزلزال بها للبحث عن مصالحها الخاصة، وتجميع النقود والنفوذ، إذا توفرت من هذا الطرف أو ذاك، ولم تعملْ على تجذير الحداثة والديمقراطية والعلمانية بمصداقية حقيقية ونقد الإقطاع بكل تلاوينه بشكل موضوعي.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 17, 2023 01:25
No comments have been added yet.