الفئات الوسطى والانتهازية

تعجز الفئات الوسطى الوطنية والعربية عن إنتاج رؤية فكرية وسياسة حديثة مستقلة، فهي دائماً مترددة ومتنقلة بين المعسكرات الاجتماعية القوية في أي مرحلة سياسية أو تاريخية.
إن عدم تكوين رؤية ووحدة بين فئاتها، يعود لغياب ثقلها الصناعي والمالي والعلمي المترابط، ولهذا فإن فئاتها تقوم بالتنقل السياسي والفكري المضطرب بين المعسكرات ذات الثقل والجاذبية المالية والسياسية.
وفي كل بلد عربي أو إسلامي ثمة تضاريس متباينة لهذا التقلقل، حسب درجات التطور الاجتماعي والتاريخي لكل بلد، ولحظته السياسية الخاصة.
في البلدان الخارجة تواً من الأوضاع الشمولية فإن اضطراب هذه الفئات يكون شديداً، ومحاولتها للقفز واختصار المرحلة، يكون كبيراً، بخلاف البلدان التي حققت تطوراً ديمقراطياً نسبياً، والتي نرى فيها تكون الجبهات الديمقراطية وخوضها الانتخابات بقوائم موحدة.
وعموماً تقوم سياسات الفئات الوسطى على الانتهازية، فأما أنها تكون مع الدولة المحافظة، بحجة أنها أفضل من الدينيين لأنها حديثة وتمثل التطور، أو تكون مع الدينيين بحجة أنهم يمثلون الشعب.
وغالباً ما تُساق هذه الحجج بسبب المصالح المتداخلة بين هذه الفئات والأطراف السياسية القوية.رغم إن الدول المحافظة والدينيين يمثلان القوى التقليدية، الماقبل رأسمالية، إلا أن الفئات الوسطى بأفرادها ومثقفيها ورموزها تتقلقل بين الجهتين.
قد تؤدي الوظائف أو الارتباط الاقتصادي أو التجاري أو الفوائد الشخصية، من ( فلسفة ) هذه الانتهازية ووضعها في صيغ أخلاقية براقة. وقد وجد بعض الدينيين في الركون للدولة والتبعية لها، مهما كانت سياستها فاسدة، حججاً استقوها أو زوروها من الدين، حيث يقولون إن المرء لا يجب أن يبات دون دولة أو أمام.
وقد كان هذا المبدأ الانتهازي راية عتيقة، حكمت قطاعات من الفئات الوسطى، التي جعلت العيش في مخازن وغنائم الدولة وفتاتها الطريق الوحيد للعيش والصعود.ولون هذا الملالي والتجار والموظفين، وملأ أفواه الشعراء المداحين والمنجمين والمنافقين على مر التاريخ.
وبدلاً من حجج الدينيين التقليديين فإن القوى (الحديثة) لديها مبررات في هذه التبعية التاريخية، وأصبحت تجري وراء القطار ( الميري) الحكومي، وإذا فاتها تمرغت في ترابه وكوارثه أحياناً.
ولعل شيئاً من الخصخصة مفيد هنا لتحرير هذه الفئات من التبعية للقطاع العام، الخاص في جوهر الأمر، في العديد من الأحيان. كذلك فإن تقليص الموظفين والأعداد الهائلة من الموظفين العموميين ستكون على جدول أعمال التاريخ القادم شاءت أم أبت الحكومات العربية المسترخية في ظل هذا التضخم الوظيفي الذي تحوله إلى خضوع سياسي.
عن تضخم المدن وتضخم الأجهزة الوظيفية جزء من هذه الانتهازية التابعة للدولة، حيث يعيش الموظفون والتجار على فتات الدولة، وهو أمر يجري بخلاف تضخم المدن في الدول الرأسمالية، حيث يقوم هذا الأخير على نمو الإنتاج وليس على اساس سرقته كما هو الحال في الدول ما قبل الرأسمالية.
كما أن الفئات الوسطى تعيش على فتات الدولة الاقتصادي فهى تدور فى فلكها الفكرى، ولهذا فمفاهيم الحرية والعلمانية والديمقراطة السياسية لا تنمو لدى هذه الفئات خلال تبعيتها للدولة، فهى تغدو دينية وتابعة وغير قادرة على إنتاج الوعى السياسى المتحرر، بعكس الفئات الوسطى الاوروبية التى نمت من خلال قدرتها الاقتصادية خارج هيمنة الدولة. وهى غالباً ما تأخذ جوانب معزولة من مسائل الحرية السياسية، كالحداثة فى الحياة وبعض القيم الليبرالية المفصولة عن الحرية الشاملة، فى حين نراها تذل نفسها فى خدمة الدولة، فهى حداثية من الخارج، اقطاعية فى الجوهر. ويمكن أن نرى تأثير ذلك فى الإنتاجين الفكرى والفنى اللذين يصدران عن هذه الفئات، حيث يغدوان حداثة شكلانية، ويتوجه الوعى السياسى نحو التيارات الدكتاتورية، بحكم تربيتها السياسية الخاضعة والذليلة.
وفى جانب الفئات الوسطى التابعة للدينيين أو للاقطاع فى قسمه المذهبى، فإنها ترفض التحديث بدعوى الحفاظ على الأصالة والقيم، وخاصة سمات الديمقراطمة والعلمانية المترابطة، لأنها تقوم بتقطيع صلاتها وشبكة الأقطاع الدينى.
إن فئات الموظفين والتجار والمثقفين وجدت فى الصلات المذهبية وحذورها فى الحياة طريقاً للسيطرة على الفقراء، دون إعطاء الفقراء هويتهم الفكرية والاجتماعية المستقلة، وعبر ضباب الوعى الدينى التقليدى يمكن تضييع استقلالية الطبقات العاملة الحديثة.
ومن هنا تغدو الفئات الوسطى التابعة للاقطاع المذهبي غير قادرة على إنتاج المفاهيم الحديثة فى الإسلام، أي على تجاوز إرث السيطرة الاقطاعية الطويل فى التاريخ العربي، حدث كانت فئات وسطى سابقة تمارس ذات التبعية فى الماضى للاقطاع. فيجري تداول مفاهيم قديمة تواصل منع تكون المنظومة الحديثة.
وإذا أضفنا ان تقسيمات الفئات الوسطى ليست فقط للدولة أو للدينيين، بل لتيارات الدولة، إذا كانت منتحة لتيارات الإصلاح والجمود والمحافظة، وكذلك الدينيين حسىب مذاهبهم، ودرحات فهمهم للدين، أي على مستويات تحررهم من التقليد المحافظ.
وكذلك أيضا فإن الانقسامات تتواصل فى التيارات التى تحاول أن تعبر عن الطبقات العاملة، وهى كلها ابنة الفئات الوسطى، وتعبر عنها بدرجات وتتداخل مع القوى الاقطاعية الدينية بدرجات وأشكال معقدة.
إن هذا التضخم فى تيارات الفئات الوسطى وكثرة تلاوينها وخلافاتها، الناتجة من خيوط مصالحها الضيقة، يوضح كم هى مهمات طويلة وثقيلة عملية إنتاج وعي ديمقراطى في هكذا فئات.
وليست فكرة تحاوز المرحلة الرأسمالية لدى بعض التيارات اليسارية سوى شكل من أشكال هذه الانتهازية، حيث عبرها ترفض الأجابة عن سؤال المرحلة بضرورة نقد وتجاوز الأقطاع، فتقوم بالهروب إلى الأمام، مخفية صلتها بهذا بالقوى الإقطاعية/ المذهبية وتداخلاتها معها.
تتجلى انتهازية الفئات الوسطى سياسياً عبر رفض تداول وتطبيق المفردات والشعارات المرفوعة الحديثة، خاصة شعار العلمانية، فهذا الشعار يفكك صلتها بالإقطاعين السياسي والمذهبي، فمع رفعه يجب أن تطرح مختلف المفاهيم الخاصة به، وبالتالي تقوم بإنتاج وعي حديث حقيقي، فتصطدم بالقوى المهيمنة، والتى تستفيد منها، وهى لا تقدر على ذلك بسبب الطبيعة التجارية والإدارية لهذه الفئات الوسطى المتذبذبة. ولهذا تغدو مهمة مركزية في التطور تحرير القطاع الصناعى والاقتصادى الكبير من هيمنة الدول عبر الرقابة البرلمانية أو الإدارة الشعبية أو الخصخصة.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 17, 2023 01:26
No comments have been added yet.