عندما كان النشر صنعة وحكاية الحبيب اللمسي ودار الغرب الإسلامي
كلما وقع في يدي كتاب سيء التأليف أو الترجمة، ألفيت نفسي أقارن بين زمان كان فيه النشر صنعة، وهذا الزمن الرديء إذا أصبح النشر (بيزنس)، وشتان ما بين الصنعة والبيزنس، فالأولى تتطلب من الصانع أن يكرس نفسه وفكره وفنه وابداعه لما يصنع، حتى إذا خرج المصنوع من بين يديه كان نادرة متفردة أو أعجوبة، هوت إليها القلوب وأخذت بها العقول، من يحظى بها تظل مصدر لسعادته وفخره ما دام؛ أما البيزنس، فهو أشبه بخط انتاج ميكانيكي، لا هم لمشغله إلا أن يرمي إلى السوق كل يوم أكبر كم ممكن من المنتجات، لا هم له إلا الربح، فيستأجر العمالة الرخيصة غير المدربة، ويختار من المواد أرخصها، فإذا اشترى أحدهم هذا المنتج وعاد به إلى بيته، سرعان ما يتلف، فيكتشف الشاري ألا فائدة مما اشترى وضاع عليه ماله. ومضى زمانًا كان فيه النشر صنعة، يقوم عليها أقوامًا وضعوا فيها من صنعتهم بعض روحهم، فظل ما اخرجته دور نشرهم إلى اليوم مطلب طلاب العلم والمتخصصين وجامعي الكتب، وكانت الكتب التي نشروها على تدني جودة طباعتها مقارنة بما تقذفه مطابع البيزنس اليوم، أعظم قيمة وأجود محتوى، سواء بالتأليف أو بالترجمة، عما يخرجه بيزنس النشر اليوم.
كان الحبيب اللمسي، الناشر التونسي، ومشروعه دار الغرب الإسلامي مثالًا على الناشر الحق الذي يجعل من النشر صنعة، فالرجل المشغول منذ حداثة سنة بقضية أمته، جاهد الفرنسيين في بلاده، وشارك في حرب فلسطين، فإذا بلغ الكهولة ذهب إلى بيروت، عاصمة النشر العربي في السبعينات والثمانيات، وأنشأ هناك مشروعه العظيم دار الغرب الإسلامي، وهو المثال الساطع على صنعة النشر، فالرجل قد أراد لمشروعه هذا أن يحي الثقافة الإسلامية المشتركة للشعوب المغاربية المسلمة بإعادة اصدار التراث الفكري الذي أنتجته في العصور السالفة، وقد جعل من مشروعه باختياره بيروت مقرًا له، جسرًا يربط المشرق الإسلامي بمغربه، بعدما أفلح الأجنبي فيما فشلت فيه الجغرافيا الطبيعية، فأنشأ حدودًا وزرع هويات كاد أن يفصل بها مشرق الإسلام عن مغربه لولا رجالًا صدقوا الله، نحسب أن منهم اللمسي. استخرج اللمسي كنوز التراث الأندلسي والمغاربي، في الأدب والتاريخ والعلوم الشرعية، من خزائن الكتب في شمال أفريقيا والشام ومصر والعراق، ثم دفع بها للمختصين يحققوها، قبل أن يصدرها في أفضل صورة أتيحت له، فوجدت طريقها لكل مهتم بهذا التراث، ثم أنه لم يكتف بالتراث المغاربي والأندلسي، ولكن بالتراث المشارقي في مكتبات الغرب الإسلامي، فأخرجه ونشره، فأمكن أخيرًا للمختصين المقارنة بين الروايات المشرقية والروايات المغاربية لكتب العلم والأدب، وهكذا كان مشروع دار الغرب الإسلامي الذي بدأه اللمسي كهلًا، وتعهده إلى حين وفاته عام 2017، تتويجًا فكريًا وعمليًا للطريق الذي اختاره الحبيب اللمسي يوم أن يختار أن يجاهد فرنسا دون أمته وهو صبيًا، فأثخن فيهم وهو كهلًا وشيخًا بمشروعه هذا.
د. وسام الدين محمد
غرة ذي الحجة 1444هـ
19 يونيو 2023
كان الحبيب اللمسي، الناشر التونسي، ومشروعه دار الغرب الإسلامي مثالًا على الناشر الحق الذي يجعل من النشر صنعة، فالرجل المشغول منذ حداثة سنة بقضية أمته، جاهد الفرنسيين في بلاده، وشارك في حرب فلسطين، فإذا بلغ الكهولة ذهب إلى بيروت، عاصمة النشر العربي في السبعينات والثمانيات، وأنشأ هناك مشروعه العظيم دار الغرب الإسلامي، وهو المثال الساطع على صنعة النشر، فالرجل قد أراد لمشروعه هذا أن يحي الثقافة الإسلامية المشتركة للشعوب المغاربية المسلمة بإعادة اصدار التراث الفكري الذي أنتجته في العصور السالفة، وقد جعل من مشروعه باختياره بيروت مقرًا له، جسرًا يربط المشرق الإسلامي بمغربه، بعدما أفلح الأجنبي فيما فشلت فيه الجغرافيا الطبيعية، فأنشأ حدودًا وزرع هويات كاد أن يفصل بها مشرق الإسلام عن مغربه لولا رجالًا صدقوا الله، نحسب أن منهم اللمسي. استخرج اللمسي كنوز التراث الأندلسي والمغاربي، في الأدب والتاريخ والعلوم الشرعية، من خزائن الكتب في شمال أفريقيا والشام ومصر والعراق، ثم دفع بها للمختصين يحققوها، قبل أن يصدرها في أفضل صورة أتيحت له، فوجدت طريقها لكل مهتم بهذا التراث، ثم أنه لم يكتف بالتراث المغاربي والأندلسي، ولكن بالتراث المشارقي في مكتبات الغرب الإسلامي، فأخرجه ونشره، فأمكن أخيرًا للمختصين المقارنة بين الروايات المشرقية والروايات المغاربية لكتب العلم والأدب، وهكذا كان مشروع دار الغرب الإسلامي الذي بدأه اللمسي كهلًا، وتعهده إلى حين وفاته عام 2017، تتويجًا فكريًا وعمليًا للطريق الذي اختاره الحبيب اللمسي يوم أن يختار أن يجاهد فرنسا دون أمته وهو صبيًا، فأثخن فيهم وهو كهلًا وشيخًا بمشروعه هذا.
د. وسام الدين محمد
غرة ذي الحجة 1444هـ
19 يونيو 2023
Published on June 19, 2023 11:07
•
Tags:
نشر
No comments have been added yet.


