عظماء التصوف : البسطامي
الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الثالث، وهو يتناول تشكل الفلسفة العربية عند أبرز ممثليها من الفارابي حتى ابن رشد 2005.
يعرض البسطامي علاقة مركبة بينه وبين صورة الإله التي يقيم العلاقة معها . فهو يقول :
[ نظرتُ إلى ربي بعين اليقين بعدما صرفني عن غيره ، وأضأني بنوره ، فأراني عجائب من سره ، وأراني هويته ، فنظرتُ بهويته إلى أنائيتي ، فزال : نوري بنوره، وعزتي بعزته ، وقدرتي بقدرته ..] ، ( 12 ) .
تغدو صورة الله التي يشكلها البسطامي مهيمنة على الوجود هيمنة مطلقة ، فهي كل شيء فيه ، وتتمكن هذه الصورة الكلية من صرف نظر البسطامي عن كلما عداها ، فتظهر كأنها هي كلُ شيءٍ ، وأن البسطامي المصروف إليها ، والذائب بدونها ، والمشتعل بنورها ، هو لا شيء في هذا الفيض العلوي .
ولكن هذه هي الحركة الأولى، حركة التركيز على الكلي الخارجي المهيمن ، حيث يقيم البسطامي صورة لله غير ما تشكلت به الصور السابقة ، فهي صورة لا تلتفت إلى تكوين الوجود وموضوعيته ، أو إلى الله وسيرورة الأشياء والتاريخ ، فقد ألغت العالم الموضوعي أو المثل الخالقة ، وأبقت فقط على صورة الله الكلية ، ولكن صورة الله تبدو فقط بمواجهة البسطامي كفرد يمتلك العالم المقابل ، والعلاقة بين الصورة والمريد كل ما يشكل هذه الوجود الثنائي الذي أزال تضاريس العالم الأخرى .
وبهذا فإن إزالة التضاريس وتضخيم صورة الله وإذابة كل ما عداها ، إنما تقود إلى تضخم الصورة الإنسانية الوحيدة المقابلة ، صورة البسطامي ، فهو الذي يستمد النور ، وهو الذي يكبر بالعلاقة مع تلك الصورة .
وإذا كان الأنبياء والأولياء يجعلون صورة الله هي المهيمنة على العالم بأشكال شتى من التوحيد أو التثليث أو التعددية ، فإنهم يجعلون هذه الصورة تتصل بالكون والتاريخ الاجتماعي أو الديني ، ولا يحيلون ذواتهم إلى مقابل لتلك الصورة الإلهية المهيمنة ، فهم يعترفون أو يشكلون نسقاً ما سواء بتصوير السماء وطبقاتها ، أو برسم لوحة للكائنات ، ويأتي مقامهم رفيعاً ولكن في ظل شبكة من الأشياء والشخوص والعلاقات والقوانين .
وهذه الشبكة هي التي تسمح للبشر الآخرين بفهمهم وبالتعاون معهم من أجل موقف سياسي واجتماعي ما في الحياة ، وبتغيير أو بتطوير أو بالارتداد عن هذا الموقف .
ولكن في حالة البسطامي فإننا لا نجد هذه الشبكة ، بل نجد علاقة مباشرة كلية ، وهو أمر يتيح له أن يقيم ما يشاء من علاقة مع هذه الصورة، ودون أن يدرك الآخرون ماهية هذه العلاقة .
فتضخيمه لها، وعدم ذكر وسائط وعلاقات وأشياء وقوانين ، سرعان ما يتحول إلى أن يمتلئ بمثل تضخمها وهيمنتها وبغياب تلك الوسائط والعلاقات :
[ فلما صرتُ إلى الحق ، وأقمتُ مع الحق بالحق أنشأ لي جناح العز والكبرياء ، فطرتُ بجناحي فلم أبلغ منتهى عزه وكبريائه ، فدعوته بالاستغاثة به عنه فيما لا طاقة لي إلا به ، فنظر إليّ بعين الجود فقواني بقوته ، وزيننني وتوجني بتاج كرامته على رأسه ، وأفردني بفردانيته ، ووحدني بوحدانيته ، ووصفني بصفاته التي لا يشاركه فيها أحد ..] ، ( 13 ) .
إن العلاقة المجردة إلا من صورة الإله والبسطامي ، تشوبها صورٌ ملموسة لكائنات وأشياء ، مثل جناح ، وتاج ، وهذه تشير إلى استعانة الصوفي بصورة الطائر الذي يماثله ، حيث يتجه مثله للعلو ، وهو أمر يشير إلى كائنات الأرض والسلطة الموجودة في الأعلى وطيرانها نحوها ، وتأتي كلمة التاج لتوضحها أكثر .
وفيما عدا ذلك تبقى العلاقة مجردة بلا تضاريس موضوعية ، وهي الآن تتجه إلى تضخم الأنا بصورة الله التي جُردت وضخمت . وهذا التضخم مثله مثل التكون الأولي بلا تضاريس وعلاقات وقوانين، فلماذا اصطفاه ولماذا توجّهُ ، وبأي خصائص له وأعمال حصل على هذا التميز ؟
إنه لا يفضي بأي علاقة تاريخية أو شخصية ، صائغاً تلك العلاقة الذاتية المجردة بلغة وجدانية تفيض بالمحبة ، حتى تتغير العلاقة بين الجانبين ، من كلية هائلة تحتل الوجود وأنا مقزمة ، إلى علاقة ندية تداخلية بين الجانبين .
لكن التحولات بين الجانبين لم تتشكل في فضاء محدد ، أو عبر ظهور لعلاقات وأشياء بينهما .
ومن هنا تغدو هذه التحولات في الفراغ :
[ قطعت المفاوز حتى بلغت البوادي ، وقطعتُ البوادي حتى وصلتُ إلى الملكوت ، وقطعتُ الملكوت حتى وصلتُ إلى الُملك ، فقلتُ : الإجازة ، قال : قد وهبت لك جميع ما رأيت، قلتُ : تعلم أني لم أر شيئاً من ذلك ، قال : فما تريد ؟ قلتُ : أريدُ أن لا أريد ، قال : أعطيناك ] ، ( 14 ) .
إن هذا الطيران في الفراغ الوجودي يلتمسُ مظاهر طبيعية ، تشكل بدورها جغرافيا الأدنى / الأعلى ، كجغرافيا مجسدة للتباين في طبيعة الخريطة الدينية ، التي ذابت إلا من عنصريها المتضادين هذين . فنرى هنا مظاهر : البوادي وقطعها ، وهي تشير إلى المناطق الدنيا ، ثم يأتي الملكوت المعبر عن العلو . وهكذا فإن الخريطة الصوفية تشحب ، ولا تعود بقادرة على رسم الحوارات الداخلية بتنوعها ، ولا تبقى سوى صورة الإله وصوت المريد .
وحين يلغي الصوفي تضاريس اللوحة الطبيعية والاجتماعية ويوحد أناه بصورة الإله ، فلا يـُنتّج هنا فيضُ دلالات عميقة وغزيرة ، أي لا تظهر أية مستويات تحليلية للوجود ، لأن الصوفي ألغى تضاريس الجغرافيا الدنيا ، أي تلك المملكة الدينية بمفرادتها وتاريخها وفقهها ، والحياة الاجتماعية التي سادت فيها تلك المفردات ، فلم يقم بتصويرها أو تحليلها لكي يبرهن على طيرانه فوقها وتجاوزها .
فبلمح البصر قام باختزال تاريخ وتراث ديني واجتماعي ، وهذه العملية الاختزالية هي شمولية من نوع خاص ، فهو اختزال من نوع الانقطاع التحليلي ، وعدم تفكير في جذور هذه الخريطة الدينية التي تشكلت ، وهو طيران فردي يتيحه فقط شكلٌ آخر من العبادات المتضخمة ، وليس الحفر تحت أعمدة هذه العبادات وتجاوزها .
ومن جهة أخرى فهذا الطيران فوق البوادي لا يرى أية خيام أو مدن أو قرى ، إنه لا يرى سوى ملامح مجردة للوجود ، لا يرى سوى فراغ يطير فوقه ، متجهاً إلى صورة الإله التي شكلها ، حيث تقوم تلك الصورة بمحاورته الند للند .
وهذا الحوار الندي أتاحه فقط المنهج التجريدي اللاتاريخي الذي صاغه البسطامي لنفسه ، وعبره استطاع أن يكلم الإله بذلك الأسلوب .
ويتيح ذلك أيضاً تجرد الصوفي من الملكية أي من الهيمنة على الأشياء المادية ، حيث يعتبر تجرده منها هو الرافعة التي ترفعه إلى الأعلى ، وانغراس البوادي في ماديتها ، ومن هنا يأتي الحوار الندي تعبيراً عن هذا التقدير الذي يضفيه الصوفي على نفسه نظراً لانسلاخه من ( الماديات ) ، وارتفاعه إلى مرتبة الألوهية ، فيغدو سلطة جديدة تلغي السلطات المرتكزة على الماديات وعلى الثروة والحاجة .
وهكذا فإنه يتصور نفسه مرتفعاً عن السلطة الإسلامية التاريخية :
[ تالله إن لوائي أعظم من لواء محمد صلعم، لوائي من نور تحته الجان والأنس كلهم من النبيين . ] ، ( 15 ) .
يزداد تضخمُ البسطامي في طيرانه داخل الفراغ الوجودي ، فتجاوزه للتضاريس المادية والاجتماعية أوهمه بقدرته على الوصول إلى صورة الذات الإلهية التي شكلها ، وكأن هذا التشكيل عملية فردية يكفيها صوم ما أو بضع كلمات شعرية ، وليس عملية تاريخية واجتماعية وصراع سياسي طويل وعميق تقتحمه الجماهير .
فهنا تشكيل لصورة الإله عبر عزلة وتضخم ذاتي وانسحاب من الحياة ومن تغييرها ، وخاصة قيادة الجمهور ، ولا يستطيع البسطامي أن يفتح كوات ما في هذه الصورة التي واصل فتحها الحلاج بشكل آخر .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصادر :
( 12 ) أبو يزيد البسطامي ، المجموعة الصوفية الكاملة ، تحقيق وتقديم قاسم محمد عباس ، دار المدى ، ط 1، سنة 2004 ) .
(13 ) : ( المرجع السابق ، ص 42 ، 43 ) .
( 14 ) : ( المرجع السابق ، 64 ) .
( 15 ) : ( المرجع السابق ، ص 48 )


