الجزيرةُ العربيةُ وقوانينُها

للجزيرةِ العربيةِ مستوى من التطور الاجتماعي مختلفٌ عن مستوى الأقطار العربية الشمالية، وقد شُوهد ذلك في الحضاراتِ القديمة وكيف إزدهرتْ في أوديةِ الأنهارِ الكبرى كالنيل ودجلة والفرات، فيما كانت الجزيرةُ العربيةُ ذاتُ بقعٍ حضارية لا تعمُّ ولا تزدهرُ طويلاً وبإتساع مثل تلك.
وحين تفجرتْ حضارةُ الإسلامِ إنتقلتْ بثقلِها الكبير إلى حوضِ الأنهار ثانية حيث وَجدتْ خريطتَها الكبرى فلماذا حدث ذلك ومركزها في مكة؟!
إن هذين المستويين من التطور يتعقدان ويتداخلان بحدةٍ في العصر الراهن.
وعلى المستوى السياسي فإن التداخلات التي تمت ْوأينعت في بعض البلدان العربية لم تزدهر في الجزيرة العربية.
ومثال على ذلك تعدد الجمهوريات في الشمال وندرتها في الجزيرة العربية، والجمهوريةُ الوحيدةُ وهي اليمنية في الجزيرة العربية تعاني أشد المعاناة ولم تنتقلْ لتكونَ نموذجاً متقدماً على جيرانها.
ومن هنا كانت ثورات حرق المراحل في الجزيرة العربية تتسم بتطرفٍ شديد لم يكن له حضور خلاق، كالثورة في عُمان التي كانت شديدة الغرابة والطفولية. وقامت ثورةٌ في جنوب اليمن أممت حتى الدكاكين، لكن الأجيال القديمة وقيادات القبائل والقبائل السياسية لم تراكم تحضراً داخلها.
وعندما حدثت الثورة الراهنة في اليمن قام بها الشبابُ عائدين إلى شعاراتِ الليبرالية الكلاسيكية عبر إيجاد مجتمع ديمقراطي فقط، لكن كيف يجري ذلك وكلُ القيادات والقبائلُ السياسية والأجهزة والرئاسة العتيدة شمولية عنيفة؟
الشباب كفروا بالأجيال القديمة ويريدون فرصاً في الحياة والطبقات القديمة لا تتركهم يتنفسون هواءً سياسياً جديداً؟
وفي عُمان رفضوا طريق المغامرات القديمة وعضوا بأسنانهم السياسية على التطور الإصلاحي المتدرج، لكن هل إستفاد الآخرون أو حتى درسوا هذه التجارب؟
من السهولة أن تخترق الأفكارُ الحديثةُ الجزيرةَ العربية لكن منابت هذه الأفكار صعبة، فإن أهل البادية متجذرون لقرون في حياتهم القديمة، والأشكال التقليدية من الحياة العائلية تعبرُ عن عدم القبول بأية أفكار جديدة، وتظل العائلة أكثر الأشكال مقاومة للتحديث، وإذا تداخلت القبلية والنظم السياسية والدينية والاجتماعية فتغدو أقرب للجبال أو أشد صلابة.
وإنه لأولِ مرةٍ في تاريخ الإنسان تغدو الجزيرةُ العربية موطناً عاماً للتحديث وليس مدناً وامضة، فأنظرْ كم قطعتْ البشريةُ من ملايين السنين وأسستْ من حضارات؟ وكان وسط الجزيرة الهائل مركزاً طارداً للسكان على مر التاريخ فيما هو الآن وعلى العكس ودفعةً واحدة يصيرُ مركزاً جاذباً وبشكل هائل للسكان! والكثيرون يندفعون لمصالحهم ورغباتهم وعواطفهم الحادة والكل يريد أن يأخذ، فلهذا تكون سياسات التأني العقلانية مهمة، وكثرة البحث في مشكلاتنا وكيفية حلها والاعتماد على الإنتاج العقلي في رؤية هذه الأوضاع أمورٌ شديدة الأهمية.
وهنا في وسط الجزيرة العربية نجدُ الثقلَ المحافظ الذي عاشَ طويلاً على الحياة الرعوية من المستحيل أن يقبل الأشكال الحديثة بسهولة ولا بد من تدرج وزحزحة الصخور الثقال بحذرٍ حتى لا تنقلب الصخور على الناس.
ونظراً لغياب الحواضن التاريخية الاجتماعية فقد قامت القوى السياسية على أشكال المغامرة أو على الجمود الحاد، وهي تخرق قوانين التطور الاجتماعية، وتخرق قوانين تطور الأمم. إن الأمة العربية لا تقبل النسخ من الأمم الأخرى، خاصة في هذه الأقسام المحافظة، والمهم أن يكون العرب عرباً، ويعرفوا كيف تطورت العرب، فهي لها قوانين إجتماعية في التطور الفكري السياسي، مثلما أن الأمم الأخرى لها قوانين.
الآن حين غرزت الأمةُ الروسيةُ تطوراتَها السياسيةَ الاجتماعية في سوريا يُصعبُ إنتزاعُ هذه الأشكالِ من لحمِ الشعب السوري وهو يتفتت. مثلما أن الأمةَ الفارسية وإنغراسَ التطورِ الألماني الهتلري في لحمِها يصعب أن تُعالجَ بسهولة، ولا بد أن نكونَ حذرين منها ومن تأثيراتها المَرضية. مثلما أنهم في ظفار حاولوا أن يغرزوا المرضَ الصيني فيها وشُفيت، ولكن نحن في البحرين لدينا عدة أمراض متراكبة لم تُعالج بعد، وجمعنا كافةَ الأمراض الروسية والصينية والعراقية والنسخة اليمنية والنسخة العمانية، وخاتمة الطوفان النسخة الفارسية الإيرانية.
التدرج والإصلاحية المتنامية وعدم إستيراد النسخ والعمل من خلال القوانين الاجتماعية والسياسية لكل بلد هذه هي ثمار تم التوصل إليها خاصة في هذه البلدان ذات التاريخ الصعب.

الوعي والتطور الجزيرة العربية
الوعي هو الثمارُ الفكريةُ الصائبة التي تنتجها القوى الجماعية والأفراد خلال الفترات والحقب والتي تستفيد منها الأجيال، وتوظفها للمزيد من التطور والحرية.
وقد وقع الوعي في الجزيرة العربية أسير التكوين الطبيعي القاسي وأسير البنية الاجتماعية التي تكونت في قيود هذه الطبيعة.
ولم تستطعْ الحضاراتُ القديمةُ في ما قبل الإسلام أن تنتجَ نهضة جزيرية عربية مترابطة متكاملة، في حين إستطاع الإسلام ذلك لقيادة مدنه الحجازية إستيعاب العناصر النهضوية للشمال العربي في مبنى تحويلي عربي عالمي.
فيما بعد مكة والمدينة لن تظهرَ مثل هذه المدن التحويلية النهضوية الشاملة. وعادت الجزيرة العربية لإمكانياتها الرعوية والمدنية المحدودة.
إن العناصرَ الجوهريةَ في العقلانية الإسلامية هي قيام العقل النقدي بقيادة طليعة الجمهور في أعمالٍ نضاليةٍ متدرجة وإشراك الجمهور في المنافع الاقتصادية والتطور الثقافي، بالمواد الفكرية والاجتماعية السائدة وقتذاك.
الإسلام كثورة أقام سلطةً ليس ثمة بينها وبين الناس حواجز، قام بتوزيع أملاك الغزوات لمنع تركيز المُلكية، ومنع نشؤ سلطة إستبدادية، أي قدم جملة مفاتيح لدولة شعبية، وهذا الوضع تغير بعد الفتوحات والإنتقال للشمال العربي.
عنصر التجار الأحرار المتحالف مع الفقراء، شكَّلَ تلك النهضة، ولكنها إنساحتْ خارجَ الجزيرة العربية أكثر مما تكرستْ داخلها.
ولهذا فإن التراكميةَ العقلانية لن تكون من نصيب الجزيرة العربية، بل سوف تظهر في المدن الجديدةِ كالبصرةِ وبغداد والقاهرة.
في الجزيرة العربية فضاءٌ جغرافي واسع، لكن الحرية صعبة، لأن تاريخَ البداوةِ المديد خلق سيطرات كثيفة: فحتى المركزية التي شكلها الإسلام لم تستمر وظلت العاصمة الدينية للمسلمين رمزاً غير محمي في كثير من الأحيان.
إن الوعي النهضوي مجسداً في مكتسبات العقل كأرث فكري وقوانين ومؤسسات سياسية ديمقراطية شعبية يحتاج إلى مدنٍ وإلى مدينة مركزية على الأقل وجمهور حر، لكن هذا لم يتوفر للجزيرة العربية بعد قرن من الفتوح. فمع تراكم الثروة في بلدان الشمال العربي تفاقم الفقرُ في الجزيرة وخاصة في نجد والبحرين وعمان واليمن. فهل ظهرت إمكانيات للحرية؟
كان إنتاجُ الجزيرةِ العربية الفقيرة عبر تلك الإقاليم(اليمن والبحرين ونجد وعُمان) هو خلق التمردات والعصبيات القبلية والإنقسامات المنقطعة عن خلق التراكمات الحضارية.
لماذا كانت التحولات السياسية منقطعة عن العقل؟ لماذا لم تشكل تجارب تراكمية باقية ومفيدة للقرون؟
لقد إعتمدت التراكمية النقدية النهضوية في قلب المدن العربية الإسلامية وفي عالم الخلافة على فئات وسطى من التجار والمتعلمين والحرفيين، وهي القوى التي شكلتْ المدارسَ والتيارات الفقهية والمنطقية والثقافية والفلسفية، وهي التوجهات التي وقفتْ وسطاً بين النظام الإقطاعي الحاكم بخلفائهِ وأمرائهِ وبذخه ونهضته وتمزقاته الكثيرة فيما بعد، وبين القوى الخارجة على القانون الداعية لإنشاء أنظمة خلافة بديلة، وشكلتها في الصحارى، وهي لم تبدلْ نظامَ الخلافةِ الإقطاعي بل جعلتْ من أمرائِها خلفاءَ تفتيتٍ وفقر مدقع.
من هنا كانت الصحارى في الجزيرة العربية هي الملاذُ لهؤلاء وهو أمرٌ كرّسَ الوضعَ المتصحر للعقل في هذه المنطقة الخليجية، وأغلب تلك الفرق قامت على النصوصية الشديدة.
في المجتعات خارج الجزيرة العربية حدثت تطورات خارج القبلية، وحدث تفكك لهذه المباني الاجتماعية، ولكن في الجزيرة العربية بقيت هذه القبلية، ولم تؤدِ تياراتُ التمرد من خوارج وقرامطة وزيدية إلى بلورةٍ مدنية إلا حين إنهارتْ هذه الفرق أو تحولت إلى إجتهادات أخرى.
إضافة إلى عدم التحول هذا تكرست المحافظة الاجتماعية عبر تهميش النساء وهيمنة الأبوية، وسيطرة النصوصية الشديدة.
وجاء تطور المذاهب الإمامية متدرجاً عبر قرون، وبعد فشل الزيدية ثم القرامطة فإن الإثناعشرية قامت بالتطور المديد والتغلغل الاجتماعي في بيئة الفلاحين من جنوب العراق حتى البحرين.
وجاءت المذاهب السنية المعتدلة كومضاتٍ في هذه الأثناء وتزايدت منذ القرن الثامن عشر الميلادي وبأشكالٍ قبليةٍ عسكرية قفزتْ نحو السيطرة على المواقع التجارية والمرافئ.
وضع المذهبُ أسسَ نمو الحياة الريفية في المدن الساحلية الشرقية البحرينية بالمعنى القديم، ولكن في هذه الأثناء جاء المذهب الحنبلي بتطوراتهِ ومخضاته من الشمال العربي عبر السلفية الجهادية وتغلغل في الجزيرة العربية وفي نجد خاصة أي في الأقاليم الصحراوية وشكل مناخاً دينياً شديد المحافظة، وبهذا حدث تناقض بين مستويين إجتماعيين وفقهيين مختلفين كثيراً.
علينا أن نقول بإن الإثناعشر تمثل في بعض ما تمثله تقاليد الفلاحين الإحيائية الضاربة بجذروها عبر آلاف السنين، الممتدة من التموزيين مروراً بالمسيحين حتى المسلمين، وهي إعطاء قيم الأرض والتضحية حالات إحتفالية فلاحية قوية، وفي المذاهب السنية الأقرب للبدو والتجار ثمة إنفصال عن هذا الموروث، والاعتماد على النصوصية العقلية مثل الشيعة في هذا المجال كذلك.
في المجتعات خارج الجزيرة العربية حدثت تطورات خارج القبلية، وحدث تفكك لهذه المباني الاجتماعية، ولكن في الجزيرة العربية بقيت هذه القبلية، ولم تؤدِ تياراتُ التمرد من خوارج وقرامطة وزيدية إلى بلورةٍ مدنية إلا حين إنهارتْ هذه الفرق أو تحولت إلى إجتهادات أخرى.
إضافة إلى عدم التحول هذا تكرست المحافظة الاجتماعية عبر تهميش النساء وهيمنة القبلية والأبوية، وسيطرة النصوصية الشديدة.
إن مجالات الاستقرار كانت أكثر على سواحل الجزيرة العربية الكبرى، حيث أمكن نشؤ الحضارات في الحجاز واليمن وعُمان والبحرين، في حين كان الداخل الصحراوي أقرب لحراك القبائل، ولهذا مع نشؤ المدن والزراعة والملاحة حدثت مواضع مهمة لاستقرار الوعي وتطور العقل.
وجاء تطور المذاهب السنية والإمامية متدرجاً عبر قرون في الجزيرة العربية، وبعد فشل الخوارج ثم القرامطة فإن المذاهب السنية والإثناعشرية قامت بالتطور المديد والتغلغل التدريجي في بيئة الفلاحين من جنوب العراق حتى البحرين وعمان واليمن لكن كان شأنها في الحجاز مختلفاً، حيث بيئة الاستقرار الإسلامية السابقة الهامة.
السواحل كانت بيئة الاستقرار والإنتاج، لكن نجد لم تعرف ذلك بشكل كبير، ولهذا فإن مذهب الحنبلية تغلغل فيها، وعبر عن هؤلاء البدو الرحل وطرقهم في العيش والتفكير.
وجاءت المذاهب السنية المعتدلة كومضاتٍ في هذه الأثناء وتزايدت منذ القرن الثامن عشر الميلادي وبأشكالٍ قبليةٍ عسكرية قفزتْ نحو السيطرة على المواقع التجارية والمرافئ.
وضع المذهبُ الاثناعشري أسسَ نمو الحياة الريفية في بعض المدن الساحلية الشرقية، في حين تحرك المذهبُ الحنبلي بتطوراتهِ ومخضاته من الشمال العربي عبر السلفية الجهادية وبرز في نجد خاصة أي في الأقاليم الصحراوية وشكل مناخاً دينياً مغايراً، وبهذا حدث تناقض بين مستويين إجتماعيين وفقهيين مختلفين كثيراً.
علينا أن نقول بإن الإثناعشر تمثل في بعض ما تمثله تقاليد الفلاحين الإحيائية الضاربة بجذروها عبر آلاف السنين، الممتدة من التموزيين مروراً بالمسيحين حتى المسلمين، وهي إعطاء قيم الأرض والتضحية حالات إحتفالية فلاحية قوية، وفي المذاهب السنية الأقرب للبدو والتجار ثمة إنفصال عن هذا الموروث، والاعتماد على النصوصية العقلية والقراءة الحرفية مثل الشيعة في هذا المجال كذلك.
يمكن أن نرى في قبيلة عبدالقيس المسيحية قبل الإسلام المسلمة بعده، هذا التضفيرَ بين الجذور الإحيائية ومصالح أهل الزراعة وإحتفالية الأرض المتخلصة من الوثنية كذلك والمتمايزة عن القبائل البدوية المتكرسة بشكل كبير عبر الرعي والترحال.
لكن كان التباين الاجتماعي السياسي هو الأساس ثم تشكلت الوحدة عبر الاختلاف، ومثلت أملاك المزارعين وأهل المدن مطمعاً للبدو وهي حالة عيش ضارية طالما اعتمدتها القبائلُ البدوية المترحلة في معيشتها، ولكنها هنا اتخذت أشكالاً مذهبية. وهذه أدت لمفارقات وصراعات إجتماعية تاريخية للغالبية من المنتجين الشعبيين.
وعوضاً عن أن تنتشر في الجزيرة العربية ثمار الشمال النهضوية جاءتها الإشكاليات الفكرية لها، وثمار تراجع التطورات العقلانية الفقهية وغلبة النصوصية الشديدة، وهو أمرٌ يعكس مستوى الناس حينذاك، فهم غير قادرين على أفكار أكثر تطوراً، لكن هذه الأفكار المحافظة من جهة أخرى تمثل وحدتهم وإستقلالهم.
هذا التحقيب الاجتماعي التاريخي يظهرُ ثلاث حقب مهمة، فثمة فترة الإسلام التأسيسية التي هي ثورة لكنها عقيدة كذلك قامتْ عبر تكوين أبعادٍ غيبيةٍ ميتافيزيقية وتجسيدات تاريخية سياسية وعبادات ومعاملات بناء على ذلك المنظور الغيبي، ومن هنا حين إختفت الثورة ظهرت ظروفُ الجزيرة العربية الحقيقية خاصة خارج الحجاز، وعادت القبائلُ لما كانت عليه، ولكن عبر صورٍ إسلامية مُنتزعة من حياتها الترحالية التمردية، ولكن هذا الفصلَ بين المستويين لم يكن مفهوماً أو متيسراً عبر العصور، ولهذا فإن الحركات التمردية كالخوارج والقرامطة والزيدية كانت محافظة على المستوى الاجتماعي العميق، ولم تقم تمرداتها بشيءٍ يمكثُ في الأرض، بل على العكس أحدثت القلاقل، نظراً لأنها لم تأخذ العناصر النهضوية في الإسلام وتشتغلُ عليها، وهو الأمرُ الذي قامت به الحركاتُ الفكرية في المدن الإسلامية دون أن تطوره كذلك ليكون حركة تغييرية شعبية. وتلك الحركات التمردية الصحراوية بشكل كبير مثلتْ حراك القبائل الرعوية العائشة على الغزو.
أما عمليات الخلخلة التي قامت بها للعناصر المحافظة في الإسلام لم تُحدث نقلات، فحدث فشلٌ كبيرٌ لها، قامت على أثره مذاهب السنة والاثناعشرية والأباضية في شرق الجزيرة العربية، بملءِ الفراغ المترتب على ذلك الزوال لحركات التمرد.
هذا لا يعني عدم وجودها من قبل لكن نقصد هنا الانتشار والاكتساح.
لماذا إنتصرت مذاهب السنة والاثناعشري والأباضية في شرق الجزيرة بعد عقود من سيطرة المذاهب الحركية التمردية؟ يعود هذا بشكل كبير لتصاعد الإنتاج الزراعي والاستقرار الاقتصادي ونمو المدن، وغياب البداوة.
اعتمدتْ مذاهبُ السنة والإثناعشرية والأباضية على المبادئ العامة المحافظة عامة، أي لم تطرح مسائل التغيير وتبديل حال العامة بطرق الحركات التمردية السابقة الذكر، وركزتْ على الشعائر والعبادات والفقه الخاص لكلٍ منها. ولكنها خلقتْ عبر ذلك تطورات إجتماعية مديدة رغم الغزوات والصراعات والحروب المكلفة.
وكانت ظروفُ العالم في تبدلٍ كبير، فمركزُ العالم إنتقلَّ من العالم الإسلامي للغرب، وبدأت حضارةٌ جديدةٌ وعلاقاتٌ إقتصادية- إجتماعية جديدة، ولم ينعكس ذلك أول الأمر على مذاهب العرب في الجزيرة العربية، الغارقة في بناها الاجتماعية التقليدية.
وبدا ذلك في جمود المذهب الحنفي في تركيا، وتقلقل الإثناعشرية في فارس، الدولتان الكبيرتان وقتذاك، وبهذا فإن تحول المركز العالمي قاد إلى صعودِ العلاقات الرأسمالية والليبرالية معها، وهذا حرك العلاقات الاجتماعية في مدنِ الخليج التي بدأت تقدمُ موادَها الخام للغرب عبر الهند أو مباشرةً. ومن هنا فإن القبائل والجماعات المدنية سوف يتحرك فقُهها ببطءٍ شديدٍ لملائمة هذا التطور، فيما سوف يتصاعدُ الوعي السياسي الحديث بصورٍ كبيرة ومفارقة لمستويات التطور الاجتماعي، حيث إنه يعبر عن مستوى النخب الوسطى الصغيرة ومغامراتها الفكرية والسياسية.
هذا يعكس المستويات المدنية فالريفية فالبدويةب التراتبية هذه، حيث ستتشكل تدرجات مذهبية إجتماعية، وتحرك إجتماعي بطيء من السواحل نحو الداخل الصحراوي.
العالمُ الإسلامي المنقسم بين مذهبين كبيرين غابت عنه التقسيماتُ القوميةُ المتوارية الهامة جداً، فالقومياتُ التركيةُ والفارسيةُ والعربيةُ، كانت تتجلى وتتصارع وتتداخل مع المذهبيات الاسلامية المختلفة. والعربية كانت الأكثر تهميشاً، وستظهر من بدو الصحراء العربية بأشكال دينية محافظة كثيراً.
المذهبُ الحنفي عبرَ الاتراكِ المتغلغلين في عالم العرب لم يرفعْ عقلانيتَهُ الفقهية إلى مركز المذهب، بل تعايش مع الصوفية الخرافية حينذاك، وهذه الغيبية الدينية كانت تجسد عالماً من الدول المفككة والإقطاعيات الفسيفسائية وخمود الخلافة، ومن هنا لم تجد هذه الحنفية أصداءً لا في عقلانيتها المفتقدة ولا في هيمنتها، حيث كانت الجزيرةُ العربيةُ تبحثُ عن الوحدة، فوجدتها في حراكِ المذاهبِ السنية البدوية للانتشار والسيطرة والتجارة، فمن الغرب والجنوب تحركتْ المذاهبُ المعتدلة نحو الشرق ومن الشمال إنحدرتْ الحنبليةُ كشكلٍ متصلبٍ جهادي واتحدت مع طموح القبائل البدوية الأقوى لفرض السيطرة والتوحيد.
ولهذا عملت هذه المذاهب على إلغاء الدروشة والتفكيك وكانت تعبيراً عن توحيد سياسي قسري في أغلب الأحيان.
حققت قفزاتُ القبائلِ البدوية ذات الطابع العسكري توحيدات مختلفة، فيما كانت المناطق الريفية ذات إستقرار طويل الأمد ونشرت الاقتصاد الزراعي وهيأت الفرص لتصاعد التجارة وقوى العمل والحرف. ولهذا حدثت قفزات القبائل البدوية نحو المناطق الساحلية ذات الثروة الجديدة بسرعة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر الميلادية.
يمكن ضرب المثل بقبائل العتوب، حيث تتعدد طبيعة هذه القبائل المهاجرة ويغلب على بعضها الطابع التجاري المدني أو يغلب عليها الطابع البدوي ومن هنا ستعرف مدن الخليج القادمة تدرجات في المدنية حسب جذور كل شعب ومدى تطور إقتصاده وإنتاجه النفطي.
قفزت القبائلُ المهاجرةُ على المرتكزات الريفية ووصلت إلى مناطق الثغور المنفتحة، فكونت مدناً رأسمالية صغيرة كموانئ، وبعدئذ كانت الدول الوطنية الصغيرة والتكونات الاجتماعية المذهبية المتعددة، حيث سيوحدها الوعي الوطني المكون من الفكر الليبرالي النهضوي إلى حين.
لكن مهما كانت الظروف فإن المدينة السياسية تولد هيمنة محافظة في البناء الاجتماعي، والعناصر العقلية الديمقراطية تنمو مثل نموها في العصر العباسي في الفئات الوسطى الصغيرة المُحاصرة بين محافظة الحكومات والمناطق الريفية والصحراوية.
ونمو هذه العناصر في الريف والبادية الصحراوية يغدو صعباً لأن العلاقات الاجتماعية التقليدية لم تتفكك لكنها تتفكك ببطء طويل.
وإذا كانت عناصر التيارات التحديثية كالبعث والقومية والماركسية كانت لحظة مشابهة للتيارت المتمردة في العصر العباسي وأن كانت ذات ثمار أكبر ومؤسسة لدول، فإنها كذلك تراجعت وإستعادت مذاهب السنة والشيعة والأباضية المظلة الكبيرة على المناخ السياسي الاجتماعي، بسبب وجود الأفكار التحديثية في الشعارات السياسية وعدم تغلغلها في البُنى الاجتماعية والاقتصادية وظهور تنمية بأدوات العمالة الأجنبية والمؤسسات المالية والاقتصادية الأجنبية.
مثلما عرفت الشعارات (الثورية) غربة عن العلاقات الاجتماعية، عن حال القبائل والأسر والأفكار الاجتاعية، في العصر القديم عرفته كذلك في الزمن المعاصر، حيث أن العلاقات الرأسمالية التحديثية لم تصبح علاقات إجتماعية وثقافية شعبية، ولم تُعد إنتاج الأفكار الدينية التقليدية، ولأن الاقتصاد الحديث لم يصل إلى التصنيع الواسع العميق بكل قواه السكانية الوطنية وأفكاره وتعليمه.
لنقل بأن الفئات الوسطى التي نتجت في المنطقة خاصة في شرق الجزيرة زمن الدولة العباسية كانت شبه متلاشية ولهذا كان حفرها في المؤسسات الدينية وفي البيئة الشعبية وتأسيس الزراعة أهم إنجازاتها، وكذلك كانت العناصر الوسطى في العصر الحديث محدودة، لكنها أسست الأشكال العصرية من الاقتصاد والأحزاب والثقافة الفوقية والعلاقات الاجتماعية النخبوية.

لحظات حرجة في تاريخ الجزيرة العربية الحديث
كانت سنوات الستينيات تمثل نقطة تحول خطيرة في تاريخ الجزيرة العربية، وخاصة في الساحل الشرقي منها، حيث تفاقمت الصراعاتُ بين شعوب المنطقة والاستعمار، وتغلغلت قوى دولية فجأة في الجسد المضرج بالدم في مناطق التوتر فيها، وكانت البقعة الملتهبة جداً هي (ظفار)، التي لم تكن على الخريطة السياسية العربية ثم فجأة تصدرتها وبعد هذه الفترة غابت وكأنها لم تكن ملء السمع والبصر!
كانت هذه المنطقة الضائعة بين الجغرافيا والأساطير، تجثم في جنوب الجزيرة العربية بين اليمن وعُمان، أهلها يتكلمون بلغات حميرية قديمة، انقطعت صلاتـُها بالعربية، وهي منطقة مغايرة كذلك في طبيعة المناخ والتضاريس بالجزيرة العربية، وهي كذلك تمثل بشراً قفزوا فجأة للثورة المسلحة بشعارات (شيوعية)، فكأنها تمثل نيزكاً سقط من السموات العلى على التاريخ المعاصر!
قررت هذه المنطقة الثورة بعد حادث عرضي بين مجموعة عسكرية وشركة تنقيب عن النفط، وكانت ثمة تنظيمات تشتغل في الأرض البكر، كلها تتركز في منطقة ظفار، وما لبث الحادث العرضي أن تحول إلى حادث جوهري مفصلي تاريخي.
والحوادث التاريخية الخطيرة هنا تقوم على مثل هذه الحواث العرضية البسيطة، فالحماس وقلة التبصر تحولُ الأحداثَ العرضية إلى لحظات تاريخية مفصلية.
كانت عُمان كلها في الواقع تتعرض لسوءِ إدارة قديمة، ولم يكن ثمة قهر خاص لظفار، ولكن كان الاستيراد السياسي لأفكار القوميين العرب إلى هذه البيئة المتخلفة قد لعب دوراً في تصعيد فكر المغامرة لدى هذه الجماعات.
لم يكن القوميون العرب يدركون إختلاف مستوى البـُنى العربية، وأن القبائل (العربية) في اقصى الجنوب في الجزيرة العربية لا يمكن أن ترتفع فجأة لأفكار صُنعت في الدول الغربية المتطورة، أو حتى لأفكار تم إختلاقها في دمشق وبيروت.
فما بالك إذا كانت هذه القبائل نفسها لا تقرأ، وإذا قرأت فإنها لا تقرأ العربية؟
لكن الاستيراد المناطقي كان يغذيه الحماس، وهو لا يعترف بالتضاريس الاجتماعية أو بالمراحل أو بالأمم وتنوع تطورها التاريخي، أو باللحظات الموضوعية الممكنة للتغيير.
فكانت جبهة تحرير ظفار (تكونت سنة 1963) هي نتاج لمعاناة معينة، للتخلف الشديد في منطقة، وكان يمكن أن تتحول إلى تنظيم إصلاحي بعيد النظر، يتوجه للخطوات السلمية التدريجية، وهو كان واعداً بذلك، لكن أعضاءه لم يكونوا ذوي خلفية فكرية عميقة، فهم عرضة للرياح الحماسية بسبب الأمية الثقافية.
وهكذا ففي خلال شهور تم تحول هؤلاء الإصلاحيين المناطقيين، إلى شيوعيين يطالبون بالثورة البروليتارية الساحقة للبرجوازية.
ما الذي دفعهم لهذه التحولات الكبرى في الفكر؟
كانت هناك عدة أفراد يحلقون في الفضاء السياسي المجرد، ارتبطوا بقادة من القوميين العرب في بيروت ودمشق، وكانت الظروف في الستينيات في بلدان الشمال العربية بعد أزمات الأنظمة القومية تطرح ضرورة تجذير التحولات، ومجيء القيادات العمالية، لتحقيق الاشتراكية الجذرية.
ولم يكن ثمة فهم لهذه الاشتراكية الجذرية لا على الصعيد العالمي ولا على صعيد الدول العربية.
وكان عدم الفهم هذا بسبب المنزلق الذي دخلتْ فيه روسيا لتطبيق الاشتراكية وإزالة الطبقات والذي راحت تنسخهُ شعوبٌ أحرى، أقل تطوراً من العراق حتى اليمن، وفي مثل هذه الخيالية السياسية، كان يمكن بكلِ جدارةٍ أن يطرحَ مثقفون في ظفار مسألة القفزة للاشتراكية حتى ولو لم تتوفر أية مقومات حتى للنهضة البسيطة في ذلك الحين.
وهكذا في لحظة صوفية سياسية سحرية قررَ بعضُ المجتمعين في مؤتمر في ظفار أن يتحدوا وهي خطوة حسنة، ولكن بأن يشكلوا جبهة لتحرير عُمان والخليج العربي كله!
وإضافة للقفزة على الخريطة الجغرافية السياسية، فإنه قرروا الالتحاق بأفكار الماركسية ولكن على آخر طراز تمثل في شعارات ماوتسي تونغ وجيفارا وكاسترو وهم المعروفون بالوعي الفوضوي والمغامر.
كان هذا يعني في الواقع استمرار التجريب العسكري واستخدام العنف في بلد قبائل بسيطة هي بحاجة إلى أبسط الخدمات بدلاً من القفزة للاشتراكية.
كان هذا يغذيه من الجانب الشعبي عدم وجود تطور للعلاقات الرأسمالية وحضور حياة تعاونية مشتركة بين الفقراء، وسيطرة العلاقات الاقطاعية حيث يهيمن شيوخ القبائل المتحكمة في المراعي والأراضي الزراعية على عموم القبائل الفقيرة وعلى العامة المنبوذة من المراكز القبلية الكبيرة.
وكان يمكن لبرنامج إصلاحي متدرج ذي خطوات سلمية من قوى سياسية بعيدة النظر أن يجنب المنطقة مثل ذلك التجريب الدموي.
لكن المغامرين كانوا أقوى في مثل وعي شعبي ديمقراطي غائب تماماً، ولوجود مجموعة من الشباب الهائج عاطفياً وسياسياً، والذي يتوهم إنه سوف يقفز للمسرح السياسي الكبير ويصير مثل ماو محقق الثورة وباني الوحدة الصينية.
وهو الرجل الذي في نهاية عمره كتب الكتاب الأحمر ككتاب ديني شرقي، بسبب عجز وعيه عن فهم تطور الصين، وأن الصين تحتاج للرأسمالية الديمقراطية وليس لنظام القفزة الشيوعية!
(وسنرى بعد ذلك تداخلات مصير الصين وظفار وروسيا في شبكة معقدة تداخلة من التحولات).
كان التسارع في خطى الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي يتضح على صعيد التبدل المستمر لمسميات التنظيم ونطاق عمله، فمن ظفار حتى عمان كما اضيف كذلك تحرير دول الخليج. فأية قوة عسكرية تستطيع تحرير هذا الخليج من شماله إلى جنوبه وبتلك المجموعات المسلحة البسيطة؟
هذا جزء من خيال سياسي سوف يواصل خلق هذا التخييل المستمر.
أما على صعيد البرامج فيتضح تناقض الأهداف الاجتماعية الوطنية والأهداف السياسية الكبرى.
ففي حين تركز هذه البرامج في البدايات على مهمات بسيطة وأهداف اجتماعية معقولة كإصلاح الأوضاع المعيشية والخدمات، فإنها بعد ذلك تقفز لمهمات سياسية كبرى لا تقدر عليها حتى الدول.
كان المؤتمر الثاني للجبهة في (حمرين) الذي تم فيه إقصاء المجموعات الوطنية المعتدلة قد عُقد في سبتمبر 1968، وهيمن عليه أصحاب الجمل الثورية:
فالجبهة كما يقول البيان تلتزم(بنضال الجماهير العربية في شتى أرجاء منطقة الخليج العربي المحتل، والالتزام بالاشتراكية العلمية، واعتماد خط جذري في مواجهة الاستعمار والرجعية يقوده حزب ثوري يستلهم إيديولوجية البروليتاريا ويستقطب كل الطبقات الثورية لخوض نضال طويل المدى ضد الاستعمار وتبني شعار الكفاح المسلح بصفته شكل النضال الأساسي، وعبر العنف الثوري المنظم، وإدانة(القيادة البرجوازية) للحركة المتمثلة بتنظيم الكويت وتعليق عضوية هذا التنظيم ..).
مع ذلك فإن المهمات الاجتماعية في ظفار لا تتعدى؛ (تحرير الرق وتنظيم الزراعة وتحقيق المساواة بين المرأة والرجل).
أناسٌ تعمل من أجل إلغاء الرق وفي نفس الوقت تريد بناء الاشتراكية؟
كان هذا البرنامج يعني عدم الإدراك السياسي وزج جمهور في مغامرة خطرة محفوفة بالمخاطر الجسيمة، كما أنه يطرح أسئلة سياسية لا تزال الإجابة عليها محدودة، فقد كانت القوى السائدة في الخليج تعيدُ تنظيم أنظمتها بغرض التغيير، وتتوجه لشيء من التحديث والاستقلال، وكان الاستعمار البريطاني قد أعلن عن بدء إنسحابه في نفس الوقت الذي صدر فيه بيان حمرين السابق الذكر.
هل كانت الأجهزة الخفية تعمل لضرب الجماعات المثقفة التنويرية والإصلاحية في الخليج ودفعها لمغامرات للقضاء عليها وتخويف الأنظمة الخليجية من اليسار ومن الديمقراطية؟
خاصة وكان هذا كله يجري والاستعمار البريطاني يتقلص، ولا يريد زوال ركائزه.
لا أحد يعرف الإجابة حتى الآن، لكن العداء للجماعة القومية الوطنية في الكويت وغيرها من الجماعات الوطنية المعتدلة، كان يشير مهما كانت الدوافع إلى إزالة الممكن السياسي الوطني الوحيد في ذلك الوقت والذي كان يمثل قوى صغيرة لكنها ذات صوت قوي فهي التي أسست نفسها وحصلت على مساندة شعبية مؤثرة حينذاك.
كان يعاضد هذا الصراخ الثوري مجيء جمهورية اليمن الشعبية الديمقراطية، التي ساندت الكفاح المسلح في ظفار، وبتلقي مساعدات من جمهورية الصين الشعبية التي غيرت مواقفها بعد زوال حكم عصابة الأربعة، ومجيء حكم الانفتاح الرأسمالي – الشيوعي! فقد كانت أول الأطراف الدولية التي ساندت جماعة ظفار ثم تخلت عنها نظراً لما وجدته من مزايا اقتصادية في التعامل مع دول الخليج وإيران.
لكن أفكار ماو تسي تونج ظلت لدى الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي.
وفي حين كان الكتاب الأحمر يتم تدريسه للرعاة والفلاحين في ظفار كانت الصين تقيم علاقات قوية مع نظام شاه إيران الذي بدأ القيام بعمليات عسكرية ضد ثوار ظفار وتمكن من سحقهم والاستيلاء على طريق حمرين الذي كـُتب في إحدى مواقعه ذلك البرنامج السالف الذكر.
بطبيعة الحال كان الوقوف مع العمال والفلاحين والبسطاء مفخرة للمناضلين، ومهما كانت الخسائر في ظل النضال الوطني الواقعي فهي مبررة، لكن من الضروري أن تكون معقولة وتؤدي لتراكمات، كما يُعاد النظر في أطروحاتها وبرامجها، لا أن يتم تكرارها.
يمكن تلخيص هذه التجربة بأن طرح برنامج بذلك المدى هو عملية خارقة تتجاوز حتى مستوى بلدان رأسمالية متطورة، وقد حدثت تراجعات على مستوى تمثيل الجبهة للمنطقة فقلصت حدودها وتركزت في بلد واحد، لكن محتوى البرنامج القافز للمراحل، والمعتمد على شكل صعب ومخيف وهو شكل المواجهة العسكرية الكاسحة، والذي يريد سيطرة طبقة غير موجودة في ذلك البلد وهي الطبقة العاملة، كل هذا يعبر عن استمرار المراهقة السياسية وعدم تغيير محتواها.
كما أن إعادة التحولات في دول الخليج تمثل برنامجاً معاكساً قوياً مؤيداً من دول الغرب وبعض الدول العربية المؤثرة، وهو الأمر الذي انعكس على التسلح، ففيما كان الجيش المواجه لجبهة ظفار يزداد قوة وتنظم إليه طائرات كثيرة متعددة الأنواع، ويحصل على معدات متطورة، وينضم له المنقسمون والمنشقون عن الجبهة، والمواطنون العاديون، كانت جماعات الجبهة تتحلل وتعجز على تحقيق إنتصارات وتتخلى عن مواقعها، وتـُحاصر في مؤنها وإمداداتها، حتى تتحول إلى جماعات خارج الحدود تضربُ من الخارج، لكن الدول المساندة تتخلى عنها، وتـُمنع من إطلاق النار!
وكانت الإيديولوجية اليسارية المتطرفة من جهة أخرى الرافضة للإسلام والعبادات الشعبية قد ساهمت هي الأخرى في إنفضاض الجمهور عنها وتركها مجموعات صغيرة، وسلم الكثير منهم نفسه للجيش الحكومي وعمل معه ضد رفاقه السابقين.

الدمج القسري في الجزيرة العربية
تعاني الشعوب العربية من التمزق والتشتت، فقد ورثت هياكل اقتصادية واجتماعية منقسمة مفككة، ففي بداية الدولة الإسلامية كان الحكم قائماً على الدخول الطوعي للقبائل في جسم الدولة المركزية، التي لم تطرح نموذج الدولة المركزية بمؤسساتها العنفية القاهرة، بل طرحت نموذج الدين الواحد الموحِّـد، وتأتي من خلاله عملية التبعية الطوعية للدولة المركزية في عاصمتها الحجازية.
إن عدم ظهور الدولة بمؤسساتها القاهرة، وانبثاق الزكاة كركن من أركان الدين، التي تكون الدولة مسئولة عن تطبيقه، كان يعكس عدم قدرة العرب في ذلك الحين على تجاوز مفهوم الدولة الدينية.
لكن عدم التجاوز هذا كان له نتائجه، فعكست حروب الردة تحول الدخول الطوعي تحت مظلة الدولة إلى دمج قسري، وأخذت الدولة تتوسع بأجهزتها وخاصة العنفية منها، وحلت تدريجياً عن ذلك الانضمام الشعبي الواسع للدولة.
وحين تشابكت مصالح الأقليات الحاكمة في مختلف العواصم التالية بالتحكم الشامل في الأقاليم أخذت مناطقُ الجزيرة العربية في الانتفاض والعودة إلى حكوماتها الداخلية المستقلة، فعادت الأجسامُ السياسية الأساسية كاليمن وعــُمان والبحرين ونجد إلى استقلالها.
لكن ظلت السيطرة من الحكومة المركزية متواجدة بشكل الولاء الديني، أو عبر الحملات العسكرية المتواصلة التي تــُشن بين الحين والآخر.
وإذا كان أقليم الحجاز ذا أهمية خاصة، ولا يمكن أن ينفصل عن جسم الدولة المركزية، وقام الحج بجعله ذا أهمية دينية وتجارية وثقافية كبيرة، فإن الأقاليم الأخرى كانت تفتقد إلى مثل هذا الطابع، فعاشت حياة شبه مستقلة، خاصة المناطق شديدة الرعوية كأقالمي نجد، التي اتاح لها هذه الظرف الانفصال الكلي والقدرة على التدخل والغزو للأقاليم الأخرى.
وهكذا فإن جسم الدولة العربية الإسلامية خاصةً في الجزيرة العربية بمختلف مراحله لم يعرف التوحد الديمقراطي العميق، وكان القصد من هذا الدمج الحصول على الخراج، الذي صار جباية اقتصادية يفرضها النظام بأداته العسكرية.
فلم يحدث أي توحد في الهياكل الاقتصادية بسبب كون الأرض الزراعية هي الوحدة الأساسية في الإنتاج، فظلت القوة وانتزاع الخراج هما المظهران الأساسيان للحكم.
وصار هذا المظهر هو الديمومة المستمرة للدول، فأي مجموعة من القبائل تمتلك قدرة عسكرية تفرض نفوذها وتستولي على الخراج، ثم تأتي قوة أخرى وتزيحها وتعيد نفس السيطرة وهكذا..
ولم تكن التمردات التي سمعنا بها من ظهور للخوارج بفرقهم الكثيرة والقرامطة سوى عمليات انفصالية واستيلاء على الخراج المحلي، فقد كانت هذه الأقاليم بعيدة عن اهتمام السلطة المركزية فما كان منها سوى أن سيطرة على مقاليد الثروة فيها.
لكن هذا الاستيلاء تم بأشكال قسرية حربية من القبائل القوية، فصار الصراع القبلي يكتسي أشكالاً مناطقية ومذهبية، فتظهر دولٌ قبلية، ولكن قانون الصراع والتفكك يواصل عمله داخل الدولة الواحد المنفصلة، فتظهر دويلات في اليمن، وعمان الداخل وعمان الساحل ثم عمان الساحل المتصالح، وتتفكك دولة البحرين الكبيرة إلى مناطق.
فيغدو بناء الدول توحيدي سياسي فوقي وتفكك قاعدي مستمرو أساسه سيطرة مجموعة على الموارد وعدم قدرتها على تشكيل أسلوب توزيعي للثروة.
وقد ورثت الدول الوطنية الحديثة عمليات التفكك هذه وقوانين الصراع الموروثة لقرون عديدة.
ولكن الاستعمار البريطاني ثم الغربي عموماً أدخل جوانب جديدة ومنها ربط المنطقة العربية القليلة السكان بالهند وجنوب شرق آسيا، وأبعادها عن محيطها السكاني والقومي والديني.
وهو مظهر زاد من حدة الصراعات القديمة وأضاف إليها مادة قوية جديدة.
ورغم التطورات الاجتاعية والسياسية الكبيرة بعد القرون الوسطى في الجزيرة العربية، وضخامة البناء الذي جرى بفضل انفجار الثروة النفطية، فإن الانفصال بين السلطات والجمهور العامل ظل مستمراً، وهذا يتجلى بغياب السلطات البلدية المنتخبة، أو عدم فاعليتها الحقيقية، مما يجعل تلك الأقاليم الصغيرة أو الشاسعة لا تلعب أي دور في تقرير معيشتها وأحوالها البعيدة عن العدل في توزيع الثروة على الأقاليم المختلفة.
وقد أدى ذلك إلى تضخم المدن المستمر وزيادة سكانها إلى درجة هائلة، تناقض كلياً ما كان يجري في العصر السابق، وهو أمر أدى إلى زيادة مشكلات الفقر والتلوث والاختلاط الفوضوي بين الأمم، دون وجود أدوات سياسية شعبية قادرة على فحص هذه المشكلات وتفكيك الغامها.
فيلاحظ هنا المظهر المتضاد وهو إنه مع زيادة الثروة وفواضها على مختلف جوانب الاقتصاد تحدث عمليات صراع حادة تتسم بالعنف، كما يحدث بشكل مستمر في اليمن على شكل حروب أهلية وخطف وصراعات مسلحة في الجبال الخ..
أو بشكل أرهاب متسع وصراع مزمن مفكك للبنية الوطنية، وهذا كله يعود إلى أن تلك الثروة المتصاعدة تتجه إلى هياكل الدول التي تقوم بتوزيعها بشكل بيروقراطي.
وكما أن هناك إنجازات كبيرة على أصعدة التحديث والتطور الاجتماعي للسكان لكن (الخوارج) المعاصرين امتلكوا هم أيضاً تطورات واستفادوا من التقنيات العصرية وتسللوا إلى مناطق مدنية، واستغلوا الفوارق الاقتصادية الكبيرة بين السكان، وبين المناطق، وبين العرب والمسلمين وبين معتنقي الديانات الأخرى.
فحدثت صراعات قبلية ومناطقية باسم المذاهب، وصارت (العودة للإسلام النقي الأصيل) وجهاً لدكتاتورية أخرى تغيبُ مضمونــَها كما غيب الخوارج والمذهبيون السياسيون القدامى أهدافهم الخاصة باسم الإسلام.
إن (الخراج) النفطي المعاصر، يتوزع على جهات دولية ومحلية عديدة، ويثير إشكاليات أكبر وأكثر حدة من الخراج الزراعي القديم، ويجذب إلى دوائر الصراع قوى إقليمية وعالمية كبرى.
فهو لا بلا تحديد كمي، وانعاساته ضخمة حيث يقوم المنتفعون به بجلب عمالة أجنبية متزايدة، وتحتشد المؤسسات الاقتصادية في رقعة صغيرة لدواعي الاعتماد على خدمات الدول الرخيصة المركزة في المدن الكبرى، دون أن تسهم هذه المؤسسات في الاهتمام بجسم الدول الواسع وبتوزيع الثروة على مختلف السكان المواطنين.
ويحتشد أبناء القبائل الفقراء في الجيوش وينقلون همومها إلى أداة التوحيد الوحيدة، وهي الجيش، وستكون لهذا انعكاسه على التطور مع بطء المؤسسات السياسية في عكس رغبات الناس وتغيير ظروفهم.

الرأسمالية الصحراوية
في عهد الإسلام الأول جلبت سياسة الفتوحات الكثير من الأموال للفئات الغنية، وبذلك نقضت سياسة الإسلام وشكلت سياسة الاستغلال الفاحشة تجاه العاملين والنساء والأرقاء والشعوب الأخرى.
كما أنها انتقلت من الأقاليم العربية الجزيرية الفقيرة إلى العواصم في البلدان المفتوحة الأكثر غنى، ثم قامت برشوة منطقة الحجاز بالإكثار من بعث الأموال لأسرها الغنية من أجل إفسادها وعدم نضالها مع بقية الأقاليم العربية الإسلامية ضد سياسة الانفراد بالموارد، وبحرمان مناطق الجزيرة الأخرى كاليمن وعُمان والبحرين وهذا ما جعل هذه المناطق بؤراً للإمامية والخوارجية وغيرها، فسياسة البذخ من جانب والحرمان من جانب آخر تولد الفتن.
تلك الموارد المالية الضخمة التي انهالت على أجهزة الحكم الأموية والعباسية وما تلاها، شبيهة بما حدث لدول الجزيرة العربية من تدفق موارد نفطية، بلا جهد كبير، وقد ارتكزت على سياسة قديمة وتوزيع عتيق للثروة بين الأسر والمناطق والطوائف المحظوظة.
إن العصرين المتباعدين زمناً فيهما العديد من السمات المشتركة.
وإذا كان العصر النفطي الحديث قد جعل العديد من الحكومات في المنطقة تقوم بالكثير من تشكيل البنى الأساسية التي هي ضرورة مهمة لكل العمليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية اللاحقة، غير أنها توقفت عند حيز محدد محدود من التطور، واستغلت الرساميل الضخمة لحساب الحكومات والمتنفذين فيها ولصالح الأسر الغنية الكبرى والشركات المتداخلة مع الحكومات.
لقد وُجهت أغلب هذه الرساميل نحو المحافظ النقدية والشركات والبنوك الغربية ومن يحيط بها من دول تدور في فلكها، فكان ذلك إسهاماً في تطور البـُنى الغربية الرأسمالية المتطورة بحد ذاتها، وبعد أن فاضت المداخيل على هذه الرساميل العربية الجزيرية توجهت لخدمة الاقتصاد العربي!!
وبنفس عقلية تاجر الرقيق الأموي فإن الرساميل العربية المعاصرة توجهت نحو الرقيق الحديث، أي نحو المحطات الفضائية التافهة التي تنشر الخلاعة والتجارة الرخيصة، ونحو مجلات الموضة، ونحو تكريس الجوائز الثقافية لعتاة الرجعية الدينية، وإلى تضخيم جيوب هؤلاء ليشتروا الفلل الكبيرة والمرسيدسات، ولكي يؤجروا فتاواهم لأصحاب الطول والحول، ولكي ينشؤوا الطائفية ويستولوا على المجلات والجرائد بالرشوة..
ألم يكن الخليفة الأموي يقذف بكيس النقود للشاعر والراقصة ورجل الدين لكي يقوم هؤلاء بخدماتهم الجيدة للدولة؟
ويستطيع رجل الدين أن يشذب لحيته ويقطع من لسانه ويطور كاسيته حسب أوامر وزارة الأوقاف، تماماً كما يفعل نظيره الشاعر في العصر التليد، الذي يقول لخليفته بماذا تأمرني أن أنظم بمدح أم بهجاء، فأنا مجرد متحدث بلسانك وتابع لجنانك !..
وكما فعلت القوى المحافظة من مجابهة الفلاسفة ومخاصمة المتكلمين وإثارة قضايا الطائفية البغيضة في العصور الماضية تفعل نظيراتها من الجماعات الطائفية المعاصرة بشكل أقل من حيث المستوى الثقافي عبر البطش بالسكاكين وبنصوص التكفير!
لا تشكو البلدان العربية الشمالية من نقص في أعداد الراقصات والمحجبات، أو في الفنادق، بل تشكو من ضعف الصناعة وتخلف التطور التقني، وضعف الجامعات الخ..
لكن رؤوس الأموال الجزيرية وقد سيطرت عليها هواجسُ الخوف من الثورة والحداثة والتأميم ولفت رؤوسها ألف عمامة تمنع البصر والبصيرة، تريد أرباحاً سريعة وتتوجه للخدمات المبتذلة وصناعة الفساد غير مدركة أن صناعات التفاهة التي تقوم بها هي التي سوف تعجل برحيلها..
وبنفس قوانين النظام العتيق، يلعب البذخ وتضييع أموال الدول على السباقات وبناء القصور وإعطاء الحلاقين البيوت والقرداتية أموال اليتامى، تقوم الآليات المالية المعاصرة بشطف الأموال العامة للفئات الانتهازية وتسريبها لمن يخون الأمانة ويتلاعب بالأراضي والعلوم والأجيال الخ..
بماذا يختلف قادة دول المنطقة عن معاوية وهارون الرشيد والصفويين والبرامكة والقرامطة والمماليك الذين ضيعوا ثروات هائلة على الجواري والخدم والقصور وإرسال الأموال للخارج؟
إن وضع رؤوس الأموال داخل هذه البلدان وفي التنمية والصناعة والتطور الاجتماعي والثقافي هو الذي يخلق الاستقرار والأنظمة القوية.
فما أغنانا عن تجربة الكوارث مراراً!

مستقبل الجزيرة العربية الديمقراطي
لا شك أن التحولات الديمقراطية في الجزيرة العربية تحتاج إلى وقت أطول من بعض البلدان التي سبقتها في التطورين الاجتماعى والسياسى.
فإذا عرفنا أن الديمقراطية تحتاج إلى بلدان تسود فيها مدنٌ متطورة، وشعوبٌ تحدثت على مدى عقود طويلة، فإننا نرى حتى عملية تكون الدول في الجزيرة العربية احتاجت إلى جهود تبلغ قروناً، بسبب ضخامة وجبروت الصحارى الواسعة التي جعلت الناس على طول الزمن الماضى غير قادرين حتى على توحيد الجزيرة رغم الترابط العضوي بين أجزائها.
إن سيادة القبائل الرعوية بعاداتها وأنماط عيشها وفرضها أسلوب حكمها على المدن كان أكثر استمراراً في هذه البقعة من الأرض دون غيرها من البقاع، وفجأة تظهر الثروة النفطية ويحدث التكالب عليها، والهجرات الواسعة من كل شعوب الأرض قاطبة إليها!
ولعب التحكم الغربي الطويل دوره في إضعاف الهياكل السياسية الأهلية، وتقوية العناصر السياسية العتيقة التقليدية، حتى حدثت التحولات الانقلابية في السياسة العالمية وانقلب الغرب السائد المحافظ على معاييره السابقة، ورأى في تلك الجوانب السياسية التقليدية عامل إضعاف للبناء السياسي الحديث وشجع إقامة التحولات (الديمقراطية) المحسوبة على مقاس استمرار تدفق النفط الخام إليه.
ورغم ذلك فإن هذه التغيرات عامل تحديث مهم للجزيرة العربية، التي تحتاج إلى إعادة نظر اقتصادية كبيرة في خريطتها الاقتصادية التي لم تتغير جذرياً إلا في المدن الكبرى وفي الأحياء الرئيسية منها.
ولهذا فإن صيغ (الدستور) السياسية تعني مشاركة السكان في مراقبة هذه الثروة وتوزيعها، وبالتالي فإن من شأن ذلك أن يقلل من التطرف في تدفق الثروات إلى جهات معينة.
إن التمهل والحذر والمرحلية في التحول الديمقراطي تتطلبها ضخامة المنطقة وتباين جهاتها وأقاليمها وبلدانها، حتى أن شبكة مواصلات لم تقم بين أجزائها، ولم تنصهر الشعوب في بوتقة حضارية واحدة.
ولم تزل الجزيرة العربية كأنها ليست من الوطن العربي فهي مربوطة ببلدان شرق آسيا، وتضخ هذه الهجرات يومياً أشكالاً من الانفصال والتغريب عن الجسم القومي، فحتى التعريب لم يتحقق فيها، وإذا بعض القوى السياسية تطالب بقفزات في التحول، تخدعها مناظر البناء وأشكال التحديث الخارجي في حين إن المضمون التقليدي متجذر في الأرض.
وفي الوقت نفسه تتلكأ الحكومات في التوزيع العادل للثروة على مناطقها المتعددة المتباعدة شبه المنفصلة، حيث تكون العاصمة أو المجموعة القرابية هي التي تتنعم بأغلبية الثروة.
وتتفاوت هذه العملية ففي بلدان ثمة تماسك قوي بسبب قيام الإدارات بتوزيع كبير للثروة على الأه

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 15, 2023 17:43
No comments have been added yet.