الدين بين الشكل والمضمون

الدين مثل غيره من الظواهر الاجتماعية له شكل ومضمون، وقد احتار الناس عبر التاريخ بين الأديان كمظاهر خارجية، وكمضامين اجتماعية وأخلاقية روحية. وكافة الأديان كانت ثورات في البداية، استهدفت تغييرحياة الناس، وتجاوز ظلم فئة واستغلال طبقة الخ..

لكن الأديان مثلها مثل الثورات لا يمكن أن تخضع لتأثير فئة ما كل التاريخ، وكثير من اللصوص والمستغلين الذين حاولت أن تجرفهم هذه الثورات الاجتماعية التي لبست لباس الوعي الديني، استطاعوا أن يتغلغلوا في أجهزة هذه الثورة، وفي شرابين هذا الدين أو ذاك.

وهكذا فإن القوى المستغلة عبر التاريخ تقوم بإعادة تفسير الدين، أو أنها تخفي مضامينة الحقيقية، أو تجرد أهدافه الاجتماعية الملموسة من طابعها السياسي والطبقي، وتركز على المظاهر الخارجية، والجوانب التي لا توجه الأسئلة إلى سيطرتها واستغلالها.

وقد احتارت الحركات الاجتماعية الإسلامية والمفكرون الإسلاميون في جذور الطابع الاجتماعي للإسلام، ولم يصلوا إلى أنه ثورة اجتماعية نهضوية تمت بأدوات عصرها، فقد قام بعضهم برفض العبادات وشكل بعضهم تنظيمات من حلقات وهياكل سياسية معقدة، يدخل فيها المريد من الخلية الدنيا ويصعد درجات حتى يصل إلى قمة التنظيم السياسي الديني، وحينذاك تتكشف له (الحقائق) التي لا تُقال له وهو في سن صغيرة وفي مكانة فكرية دنيا.

في حين شكل الصوفيون المسلمون درجات من المعرفة الصوفية يتدرج في سلالمها المريد، وتتفتح أمامه (الحقائق) بقدر ما ينزع عنه من ثياب الدنيا والعرض الزائل، ويتقدم في الحضرة القدسية.

المناضلون الإسلاميون الأوائل كانوا يحاولون البحث عن جوهر للدين خارج النضال الاجتماعي والصراع السياسي ضد المستغلين؛ فيجدونه في العزلة المطلقة والتجويع الذاتي للنفس والبعد المطلق عن الشهوات كرد فعل على الغرق في الشهوات والماديات التي تقوم له الطبقات الحاكمة.

وحتى الحركات الدينية التي وصفها المؤرخون بالحركات الاجتماعية، لم تصل إلى جوهر الدين، كحركة سياسية نهضوية تتطلب شروطاً خاصة، وحولوا الدين إلى مغامرات حربية وحملات للسلب والنهب، في حين غرقت الأكثرية المؤمنة في الاعتقال السياسي للحكام الجائرين، غائصة في أوحال العمل ومستنقعات الزراعة وكهوف الحرف، بينما كانت ثمار جهودها تضيع في الليل الطويل.

يتحول هذا الصراع بين الشكل والمضمون في الأديان إلى جنون أحياناً حينما يقوم بعض المغامرين برفض الدين جملة وتفصيلا، أو يبتكرون مذاهب من رؤاهم الذاتية ويصنعون جناناً موهومة.

أو تتحول إلى كوابيس اجتماعية حين يقوم الباباوات والملالي باحتكار الأقوال المقدسة وتفسيرها وتحديد من يدخل الجنان ومن يخرج منها.

أما التفسير الديمقراطي العصري للصراع بين الشكل والمضمون فى الدين فقد قام على ترك المؤمنين في عالمهم الديني الخاص، وأخرج المنطقة السياسية العامة منه، وجعلها ميداناً للتنافس السياسي والصراع الانتخابي.

فنهضة الأمم وتقدمها وتغيير حياتها صارت رهناً ببرامجها السياسية، ولم يعد أحدٌ يُسمح له باحتكار الحقيقة الدينية، أو أن يستخدمها في عمله السياسي، إلا لأن الدين صار ملكية عامة وتراثاً، غير مسموح بزجه في الصراعات السياسية.

إن هذه العملية العصرية أخرجت الدين لأول مرة من التداول السياسي التجاري؛ وأصبح المؤمن يذهب للكنيسة ويصوت للحزب اليساري أو اليميني حسب ما يراه من دور لهذا الحزب أو ذاك في قضاياه الاقتصادية والاجتماعية.

ولأول مرة في التاريخ يعطى للدين مكانته المقدسة واحترامه، ولا يؤجر لخدمة الاستغلال السياسي والاجتماعي.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 02, 2023 02:46
No comments have been added yet.