معركة الإسلام في تركيا
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلامعلى رسول الله..
لا يخفى على مهمومٍ بأحوال الأمةالإسلامية، أنها مقبلة على معركة كبيرة وفاصلة، وهي: الانتخابات التركية في مايو2023م، وتلك معركة لا يهتم لها المسلمون وحدهم، بل يهتم لها كذلك الغرب والأنظمة العربية،وجميع هؤلاء يعرف ويعلم حجم الفارق الضخم والتأثير العظيم والمدى الخطير بين فوزأردوغان بها وبين فوز كمال كليتشيدار أوغلو، زعيم المعارضة العلمانية.. ولأنهميعملون، فهم يعملون كذلك!
وبداية، وقبل الدخول في الموضوع، فإنثمة أمرًا أرى أن العرب في بلادنا لا يعرفونه ويغفلون عنه، وإني أهتم بذكره هنالأن العرب هم جمهوري الذي يقرؤون ما أكتب.. يحسب الأكثرون أن تركيا تمثل ملجأ للعربالفارين من بلادهم، سواءٌ فرُّوا من القتل والسجن، أو فرُّوا من الفقر والحاجة..وهذا جزء من الصورة. من كان في تركيا هنا يعرف أن تركيا صارت ملجأً للمسلمينجميعا! لا للعرب وحدهم!
فهنا في تركيا ترى شعوب الترك والأوزبكوالطاجيك والشيشان والقوقاز والتركستان والروهينجا، بل ترى كذلك الذين فَرُّوا منأوروبا وأمريكا بعد أن تبين لهم استحالة المحافظة على دينهم هناك، أو تعرض أولادهملخطر الاختطاف الذي تمارسه الدول الغربية لأبناء المسلمين إذا هم علموهم دينهم أوحثوا بناتهم على الحفاظ على شرفهن.. فتلك الأمور هي من التهم والجرائم واضطهادالأطفال عند الحكومات الغربية، وبها ينتزعون الأطفال من أسرهم، وهذا موضوع مأساويشنيع بشع لا تتسع له هذه السطور.
وإلى فترة قريبة كانت مصر وأرض الحرمينوالشام من البلاد التي يهاجر إليها هؤلاء المضطهدون من شعوب آسيا المسلمة من التركوالقوقاز والأوزبك والطاجيك وغيرهم، حتى جاءنا زمان السيسي وابن سلمان وبشار، فإذابهم جميعا يتقربون من الصين بتسليم المسلمين والمسلمات إليهن، ففرغ الأزهر من شطركبير من طلابه الآسيويين، لا سيما التركستان، وأما النشطاء الروهينجا فهم الآن فيسجون ابن سلمان، ولم يبق طالب علم من أهل القوقاز في الشام إلا وخرج بنفسه إذا لميُسَلَّم إلى بوتين.. فهؤلاء جميعا تراهم الآن في تركيا!!
ويعلم جميع الناس، أن تركيا لم تصر ملجآلهؤلاء العرب والمسلمين إلا لأنها تحت قيادة أردوغان، وأنه لو زال عن هذه القيادةغدا لصار هؤلاء جميعا في مهب الريح.. وفيهم العلماء والفضلاء والصالحون وأهل الدين،فضلا عن النساء والأطفال والعجائز!
ولا يخفى على متابع هذا الغزل المتبادلبين المعارضة التركية وبين أنظمة دول آسيا الوسطى وغيرها، ولا نواياهم في إخراجهؤلاء اللاجئين وتسليمهم إلى بلدانهم!
وزيادة في حماية هؤلاء، فقد منح أردوغانلكثير منهم إقامات استثنائية أو طويلة أو دائمة، ومنح كثيرا منهم أيضا الجنسيةالتركية. ومع أنه أبدى مرونة أو خضوعا (والتوقف عند اللفظ لا يهمني الآن) في إعادةعلاقاته مع أنظمة الشر العربية ودولة الكيان الصهيوني، فإنه في ذات الوقت أبدىتصلبا تامًّا وعنادًا حديدًا في مسألة تسليم اللاجئين إليه، مع أن نظام السيسي –كمثال-وضع هذا البند على رأس مطالبه، وأَخَّر من أجله كل ملفات البلد المهمة كغازالمتوسط والوضع في ليبيا، فكان ذلك دليلا آخر على أن هذا السيسي عدو الله ليس إلارئيس عصابة مجنون بنفسه! ليس له في حب الوطن أدنى نصيب.
والقَصْدُ: أنه لو لم يكن من فضل لأردوغانإلا أنه صيَّر بلده ملجآ للمظلومين لكان ذلك الفضل كافيا في إيجاب دعمه والوقوف منخلفه، كذلك: فلو لم يكن من خطرٍ يترتب على خسارته إلا تشرد هؤلاء الملايين وتعرضهمللطرد والإذلال وخطر السجن والموت وعودة القادرين منهم إلى أوروبا إلى حيث يفقدوندينهم وأبناءهم، لو لم يكن من خطر إلا هذا، لكان هذا كافيًا في تحريم التخلي عنهذه المعركة لكل قادر، فضلا عن تحريم دعم هذه المعارضة ولو بأقل القليل!
ووالله، لو كان أردوغان على هذا الحالليس إلا رئيسا كافرا لدولة أوروبية، يفعل هذا انطلاقا من شعور إنساني فحسب، لكانالمسلمون هم أجدر الناس أن يدعموه ويقفوا من خلفه ويحرصوا على فوزه وبقائه، بل لوقيل: من يحارب معه؟ لكانوا هم أولى الناس بذلك وأسبقهم إليه.. فكيف وهذا الاحتضانللاجئين ليس إلا حسنة من حسناته؟!
ولا أقصد بحسناته هنا الإنجازالاقتصادي فحسب، وهو إنجاز ضخم هائل يستحق وحده أن يكون سببا كافيا لدعمه ولكن لستأخوض فيه لأن الكلام فيه كثير، بل حتى إنجازه في نشر الإسلام في بلده، ومن كان علىمشارف الأربعين –مثلي- فقد شهد بنفسه كيف تحولت المسلسلات التركية من العشقالممنوع والعلاقات المحرمة إلى بطولات أرطغرل وعثمان وألب أرسلان وعبد الحميدالثاني... وغيرها. ولما قدمنا إلى تركيا سمعنا ممن كانوا يقيمون بها قديما ما لايكاد يصدق عن أحوال هذا البلد الأخلاقية والمعيشية وازدراء أهل الدين فيها.. وهذه أمورلا يُحسن تصورها ولا تصويرها مثلُ الذين عاشوها.. إن أردوغان –في نظر العلمانيين الأتراكوفي نظر الغرب- أعاد فتح تركيا وأدخلها في الإسلام من جديد! وهذه العبارة وإن لمتكن دقيقة إلا أنها توضح لك حجم التحول الذي يرصده الأعداء!
وهو ذاته هذا التحول الذي سترتد إليهتركيا لو فقدت رجلا مثل هذا، وجاء بعده من كانوا قبله! هل تصدق عزيزي القارئ أنالمعارضة العلمانية نفسها التي كانت تقنن نزع الحجاب وتطرد المحجبات من المستشفياتلا تترك الآن ملصقا ولا مظهر دعاية لها إلا ووضعت عليه صورة المحجبة؟!!
سيقول السفهاء من الناس ما يحمله علىالدفاع عن أردوغان إلا أنه لاجئ في بلده أو حتى مستفيدٌ منه، فلو شئت والله أن أدفععن نفسي لفعلت، ولكنهم أتفه من أن أضيع معهم وقتا. ولقد قال سفهاء الناس مثل هذايوم كنتُ أدافع عن مرسي وكانوا يتوقفون في الدفاع عنه (إما لأنهم ثوريون جدا لايقبلون بخدش نقاء الثورة، أو أهل دين جدا لا يقبلون بأقل من حكم الشريعة)، فأدَّاهمهذا الغلو –في الثورية وفي الدين- إلى أن يكونوا حميرا يركبها السيسي حتى ضاعالدين وضاعت الثورة على الجملة، وصار بعض أولئك كلابا أحذية ينافقون السيسيويبررون له، وصار أحسنهم حالا طريدا مثلنا، فمن كان ذا نفس سوية أقرّ بالخطأ والندم(وقت أن لم ينفع الندم) ومن كان ذا نفس خبيثة لفَّق لنفسه الأعذار والمبررات!!
ولقد كنا وقتها نحدثهم ونجادلهمبالتاريخ، فنقول انظروا من البديل، وتذكروا عصر عبد الناصر.. فالآن نجادلهمبالواقع ونقول: انظروا من البديل، وتذكروا مرسي والسيسي.. فمن كانت له عند أردوغانمظلمة أو مثلبة أو منقصة فليعلم أن منافس أردوغان وبديله ليس واحدا من الخلفاءالراشدين!!
وفي الأتراك هنا، كما عندنا في العالمالعربي، سفهاء من السلفيين والمتصوفين الذين يقولون أيضا إن الديمقراطية كفر وإن أردوغانعميل للصهاينة والأمريكان، ولا يفطن هؤلاء أنفسهم إلى أنهم لا يستطيعون أن يقولواهذا ولا أن يختاروا ولا أن يتعلموا لولا هذا الفضل الذي جاءهم به أردوغان نفسه.. وكمفي الناس من مطموس البصيرة، يورد نفسه الحتوف راغبا راضيا..
ولكن الطريف هنا، أن هؤلاء بدؤوايظهرون في البرامج التركية، تريد المعارضة بهم أن تصرف أهل التدين عن انتخاب أردوغانلأنه لا يحكم وفقا للدين والشريعة، أو أن تصرفهم عن الانتخاب بالكلية ولينتظروا فيكهوفهم حتى يأتيهم من جديد نظام البيعة الشريعة المعقودة من أهل الحل والعقد!!
تماما مثلما فتحت الفضائيات وقنواتالتليفزيون المصري في عهد مرسي مساحات للتكفيريين ليقولوا عبر هذه الشاشات:الانتخابات كفر، وكل من شارك فيها كافر.. وفتحوا الباب كذلك لرؤوس المنافقين منالمداخلة وحزب برهامي ليقولوا بأن مرسي لا يطبق الشريعة، والعلماني الصريح خير منالعلماني المتخفي مرسي.. فجاءهم العلماني العسكري الصريح فجعلهم حيث يستحقون، منلم يكن جارية في بلاط السيسي كان كلبا في حراسته ينبح على من خالفه!
لست فقيها ولا مفتيا، ولكني لا أعرففقيها ولا مفتيا له من الاطلاع على الواقع نصيب إلا وهو يؤكد على ضرورة دعم أردوغان..ومما لا يعرفه كثيرون أيضا أن ما لقيه جماعة العلماء من حفاوة وإكرام في هذا البلدما كانوا يحلمون بشيء منه في بلادهم التي أخرجتهم.. ولا يخلو الأمر من أخطاء.
وفي حدود ما أعرف من الدين، فلا أحسب أنأحدا من المسلمين يمكنه أن يساهم في هذه المعركة بسهم فيسعه أن يتخلى أو يمتنع، وفيمقدمة هؤلاء أولئك الذين حصلوا على الجنسية التركية وصار لهم حق الانتخاب، وكذلكالإعلاميين والكُتَّاب وأهل اللسان والبيان ممن يستمع لهم الناس ويملكون أن يؤثروافيهم، ومثلهم الإعلاميون الجدد مثل اليوتيوبرز والتيكتوكرز وغيرهم ممن يجمعهم اسم "المؤثرين"(الانفلونسيرز)، فعليهم كذلك هذه المسؤولية الواجبة التي يُسألون فيها أمام الله،فما القضية نصرة حاكم ولا رئيس، بل هي قضية مصير للمسلمين.
وهل ننسى ما كان في واقعنا قريبا، هلننسى كيف كانت ليلة محاولة الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا (15 يوليو 2016م)، يومأن تعلقت قلوب الجميع بالمشهد التركي، فقام كل عدو لهذا الدين ولهذه الأمة فرحامسرورا يرجو نجاح الانقلاب، ثم ردَّهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا. وقام كل مسلمصالح ناصح يرجو أن يفشل هذا الانقلاب فمنهم من نزل بنفسه ومنهم من لم يجد غيرالدعاء يبذله!!
نعم، إن المشاعر تُنسى! ولو أن المرءيتذكر هذه الليلة ويتوقع ماذا كان سيكون تأثيرها على المسلمين، لوجد أن السوادالتام يعم ديار المسلمين كلها!
وقد طال المقال ولم نقل شيئا عن مواقفالرجل السياسية الخارجية، فليس أول ذلك منعه اجتياح قطر سنة 2017، ولا آخرها إداناتهللإساءة إلى النبي ولما يحدث في الأقصى.. ومواقف أخرى طويلة وكثيرة.. ربما ينتقدهاالبعض الآن ويرى أنها ليست كافية، ولكنه ينسى أن إذا كان غير هذا الرجل في هذاالمكان، لكانت هذه المواقف أحلام لا تراود حتى الخيال!
ها نحن نودع شهر رمضان، ولقد رأيت مننفسي ومن غيري حرصهم على الدعاء له في أوقات الإجابة، وأكثر هؤلاء الذين يدعونويتضرعون لم تمسهم من الرجل منفعة ولا مصلحة، وإنما كانوا مثل جدهم عبد الله بنعمر، يفرح للغيث إذا نزل في أي أرض للمسلمين. وإني لأشهد أن هذا الرجل في هذاالزمن هو من نعم الله الكبرى على أمة المسلمين أجمعين.