أنطولــــــــــوجيا الحميــــــــر ـ قصةٌ قصـيرةٌ
ليس هذا دفاعاً أو مرافعةً بقدرِ ما هو بحثٌ تاريخي. تقص دقيق لكائنٍ كان في الأسطورة ذو مقامٍ عال رفيع. في بابل، في مملكةِ القداسةِ الساذجةِ الأولى، إحتلَّ هذا الكائنُ المرهفُ الحسِّ قمةً عالية. لكن قسوةَ خلفاءِ حمورابي، الذين حولوا المدنَ إلى قلاعٍ صماءَ شاهقةٍ عالية ثم إحترقوا فيها وهي صلصال، كتبوا بعضَ خيوطِ هذه المأساة المروعة.
البياضُ الطاهرُ للونِ، البراءةُ، الصفاءُ الروحي الذي يبدو في عينيه، الغفلةُ الكبيرةُ التي تحولتْ لعبودية، كلُ هذه السمات جعلتْ هذا الكائنَ ينحدرُ إلينا، يجيءُ بأعدادٍ وافرة هرباً من قسوةِ الشمالِ وحرائق مدنه.
إنني على أعتابِ رسالةٍ سمها ما شئتَ لكن لا بدَّ لها من حمار. الرسالةُ موجودةٌ لكن الحمارَ غيرَ موجود. هل يمكنُ أن يذهبَ رسولٌ الآن بسيارة مثلاً؟ هذا غيرُ ممكنٍ ومضحك.
حين نبدأُ من حمورابي نجدُ أن الأمرَ بحدِ ذاتهِ كان مشكلةً، هل وصل الحمارُ لدى تلك الحضارة السامقة إلى أن يكون إلهاً حتى أن اسمَ الحاكمِ إلتصقَ بهِ؟ أم أن ذلك راجعٌ لتشابهِ اسم الحاكم مع حمروةِ الأرضِ أو أن الأرضَ حمرّها البشرُ؟ وهم دائماً يلصقون بلادتَهم ووحشيتَهم بهذا الكائنِ العظيم الرقيق.
علينا أن نتذكرَ إن الأجدادَ الأُولَ للحمير كانت هي الحُمُرُ الوحشيةُ المخيفةُ التي تندفعُ كالأعصارِ الملونِ اللحمي الذي يخترقُ الأكواخَ والناس، كانت هناك في الجبالِ بقربِ الأعاصيرِ والبروقِ والنجومِ، بقربِ آلهةِ السماواتِ الحرة، هناك حيث يتخيلُ الإنسانُ كلَ ما هو جميلٌ وحر، من هناك نزلَ أجدادُ هذا الكائن، بل قُلْ تم إصطيادها، عُملتْ لها حفائرُ في الأرض، شباكٌ مشتبكةٌ بأغصانٍ وأحلام، إنشطواتٌ تخطفها إلى أعلى كذبيحةٍ جاهزة.
ثم ظهرَ كائنُنا الجميلُ من المجازرِ للحمرِ الوحشية، من المآدبِ، من السلخِ، من بقايا مسكينةٍ حُبستْ في حظائر، من كائناتٍ فقدتْ أحلامَها وكرامتَها، نشواتُ الرقصِ الصاهلةِ بقربِ رأسِ السماء، الارتفاعُ للذرى، وقطفُ النجومِ؛ سُبختْ كلها على الوحل، إنغرز في لحومِها شوكُ الحظائر، دخلتْ المقابضُ والحدائدُ بين عظامِها ولحمِها، ظهرتْ المسكنةُ عليها، خَضعتْ، ذُلت، سَكنتْ، إرتعبت من كلِ ماهو في الوجود.
هذا الكائنُ الذليلُ الجليلُ إنتشرَ في الفلواتِ والصحارى، تحملَ أعاصيرَ الرمال، نقلَ أكسيرَ الحياةِ، راح اللونُ الأخضرُ ينتشرُ في تلك الساحاتِ الهائلة من الصفار، يحيلُها إلى غاباتٍ من عبّادِ الشمس. يجيءُ الغزاةُ ويخربون الواحات، يقلعون الأشجار، يهلكُ الناسُ، وتهربُ الحميرُ. البشر لا تكاد ترجع خائفةً من الغزاة، يعودُ فلاحٌ، يتسللُ عتال، تأتي الحميرُ بأعدادٍ كبيرة مثل غيم ممطر.
حين تظهر ترتفع الأكواخ، وتتغلغلُ المحاريثُ في التربة، وتتعالى الزغاريدُ والأفراح، وينتشرُ الأطفالُ ضاجين راكبين ظهور الحمير وضاربينها بالعصي، يكادون أن يغرقوها في الجداول وتوصلهم للشواطئ.
حتى بدأتْ تظهرُ المدنُ الجديدة، وصرختْ صفاراتُ الزيتِ تحشدُ الرجالَ من قعرِ الحفر والبساتين، وتضجُّ السياراتُ في دروبِ الحصى المسفلتة قليلاً قليلاً، وتلك الكائناتُ اللطيفةُ تجدُ بعضَ الحرية، بعضَ السرحانِ في الحقولِ الخربة، وفي البراري، حتى أن بعضَها حنَّ ورجعَ للحُمرِ الوحشيةِ فتدفقتْ في جسمهِ الرصاصاتُ، ونُزعتْ الأربطةُ عن رقابِها المتقرحةِ، وخفَ حملها لتنكاتِ المياهِ الثقيلة، ثم أَخذتْ تختفي، الموتُ يخطفها، التزاوجُ منقطعٌ عنها، إلتحاقُها بالجبالِ وبذكرياتِ وماضي الأسلافِ العظامِ ممنوعٌ عليها، وبالكاد يمكنكَ أن تبصرَ حماراً في الشوارع التي إمتلأت بالسياراتِ والأدخنةِ والأدمغةِ الخربةِ والغازاتِ والحمم وسيول العرق والمطر وفيضِ البلاعاتِ، مثلما إختفى النرجسُ وقصصُ الحب العذري، وحدائق البراري، والشطآن البريئة، وحينئذٍ بالضبط جاءتني رسالةُ البصيرةِ: ضرورةُ عودةِ الحميرِ لمدنِنِا وحقولنِا، للتخفيفِ من النعوشِ الكثيرة الذاهبة كل يوم من رياح الصدأ والغبار والحديد والنار.
ذاتَ ليلةٍ بقربِ قلعةٍ أسطورية غرقتْ الأساطيلُ تحتها ، وجثمَ البحرُ عملاقاً قربها، ضربتْ صاعقةٌ أحدَ جدرِانها، وإنشقتْ السماءُ عن خريطةِ ضوءٍ عملاقةٍ، وكلمني النورُ من قمرٍ فضي ذي عيون:
ــ إسمعْ يا عبدالحفيظ عليك أن تحملَ هذه الرسالةَ للناس، لكلِ البشرِ الذين وسعوا ثقبَ الأوزون، إنه إذا لم يَعُد الحميرُ للكرةِ الأرضيةِ فأنتظروا هلاكَكم فيها، لقد حذرتكم من مغبةِ التمادي في قتلِ الغاباتِ والكائنات اللطيفة، أحملْ هذه الرسالةَ وأنشرها.
رحتُ أبحثُ عن الحميرِ مشياً على الأقدام، أرفضُ سيارتي الخاصة، والباص، أستعينُ بدراجةٍ هوائية أحياناً، أطوفُ بأحياءِ المدنِ التي كانت أحياؤها زاخرةً بتلك الكائناتِ فلا أجدُ حتى الديوك، والزرائبُ إنقضتْ وصارت مكعبات حجرية، فسرتُ للقرى، وكنت أسألُ ببراءةٍ فيتطلع لي الناسُ بذهول ما يلبث أن يتشوه ويصير ضحكاً.
قال رجلٌ كهلٌ:
ــ لم يبق في هذه الديرة سوى بعض الحمير الأخيرة، أنا لم أر واحداً منذ مدة طويلة! أتعرف أسطبل حميد الأعرج؟
ــ من أين لي أن أعرف وأنا غريب؟
ــ تعالْ سوف آخذك إليه.
صاحَ فتى:
ــ أقرأْ كتابَ ملوك العرب للريحاني.
سار بي الرجلُ ببطءٍ قاتلٍ وهو يبعثرُ بقايا رئتهِ وما زال يدخنُ سيجارةَ اللف:
ــ ماذا تريد أن تفعل بالحمار؟ لسيركٍ أو لنَذرٍ؟ كانت هنا سلالةٌ من الحمير رائعة لكن أسرة حميد الأعرج قضت عليها بجر الأحمال والأثقال، حتى كادت العائلة أن تفنى لولا ظهور حميد.
في ذلك المرتفع، على تلك التلة، رأيت القرية بقايا وفوضى من أبنية وهشيم، وإندفعتْ من إشداقِها الرياحُ السوداء، وبدت الدكاكين والعمارات والبيوت كفوضى من حصى.
كان الأسطبلُ واسعاً، فيه أحواضٌ واسعة مليئة بالماء، وحظائر جميلة، ومخازن للعلف، وكان ثمة مجموعةٌ من الحمير النظيفة القوية، كان منظرها يشرحُ القلبَ!
لم يخرج لي حميد الأعرج بل خرج رجل سوي، يمشي بشكل عادي، وبدا ودوداً لطيفاً!
رأيت تلك الحمير وجمال المكان ونظافته، فتصورت إن رسالتي قد حُلت!
ــ أشكرك يا أخ حميد على هذه الرعاية الإنسانية للحمير، وأحب أن أقول لك بأنني بحاجة لحمار منها، من أجل قضية هامة، من أجل أن أنشر رسالةً عالمية خطيرة!
ــ خير إن شاء الله؟!
ــ جاءتني رسالةٌ من القمرِ الفضائي الحر وأبلغتني أن أعيدَ الحميرَ لهذا الوجود غير الإنساني، كي تعودَ الصحةُ إليه!
ــ لم أفهم شيئاً وما علاقتي أنا بذلك؟
ــ لديك آخر الحمير في الدنيا، ولا تصلح الرسالة بدون حمار؟!
ــ أتعرف كم كلفني ذلك من التعب والجهد؟ كانت في حالةٍ يُرثى لها، أجسامُها ممزقة، معضوضة، هياكل من العظم، من القذارات، ورحتُ أطببها، وأغذيها، وأشغلها في الحقول المنتجة، وفي الأراضي التي تخصبُ بعد عملها، حتى تراها الآن تتكاثر وتغدو قوية.
ــ هذا هو مضمون رسالتي أيضاً!
ــ لا يا سيد إنني غير مستعد للتخلي عن الجماعة. إذا أردت أن تركب حماراً فلدي واحد، وهو هناك في حجرةٍ ضيقة مسجون فيها، لما يقوم به من مشاكل!
إنتبهت ونظرت ومشيت نحو السجين، وأنا متشوق لرؤيته ومذهول من كلام الأعرج، وما أن إقتربت من الباب حتى رمح الحمار بالداخل وضرب الباب الذي وضعتُ رأسي عليه!
تطلعت من النافذة الصغيرة ورأيتهُ يرمقني بشرر. تراجعتُ للوراء، ووضع الأعرج كفَهُ بلطفٍ يمنع تراجعي السريع!
ــ هذا الحمار المزعج دائم التمرد، حين أخرجه معها يقودها لما وراء الحقول، ويهربُ بها، وهي تتبعه، كأن لديه سحراً خاصاً ، ونلاحقه ، ونتعب كثيراً حتى نُرجع هذه المجموعة التي تكون منهارةً، ومجروحة، وينفقُ بعضها حين ينجرف أو يسقط أو تنفرد به ذئاب!
جلستُ محبطاً، تعبتُ من السير والسؤال. نمتُ. تراءى لي إن الحمارَ من بين القضبان كان ينظر لي ويبتسم، تحدثَ بسخرية:
ــ تدعي إن لديك رسالة! أي رسالة؟! ألا تكفون عن هذه الخزعبلات، منذ التاريخ الأول وأنتم تكتبون، والبلاوي كلها على ظهورنا. وحين كدنا أن نختفي ظهرت أنت لتزعم إنقاذنا؟ إنني أقود هذه البقية الباقية من جنسنا لكي نرتاح من العيش معكم. نحن رسالتنا أن نتخلص من وجودكم ورسائلكم!
ونهق بشكل حاد وضرب البوابة وحطمها وإندفع عليّ جامحاً وكسر حظيرة الحمير وتساقطت الأخشاب بشكل مروع وإنتفضَّ الغبارُ وهاجتْ الكائنات الأليفة الطيفة وإندفعت وراء قائدها منطلقة عبر الدروب المرعوبة نحو التلال، نحو البرية، نحو الحرية وهي تحطم الأسيجة والبراميل!
ــــــــــــــــــــــــــــ
أنطولــــــــــوجيا الحميــــــــر (قصص) دار نينوى للدراسات والنشر ₂₀₁₇ .
❖(القصص: أنطولوجيا الحميـر ــ عمــران ــ علـى أجنحة الـرماد ــ خيمةٌ في الجـوار ــ ناشــرٌ ومنشــورٌ ــ شهوة الأرض ــ إغلاقُ المتحفِ لدواعي الإصلاح ــ طائرٌ في الدخان ــ الحـيُّ والميـــت ــ الأعـزلُ في الشركِ ــ الـرادود ــ تحقيقٌ ــ المطرُ يمـوتُ متسولاً ــ بدون ساقيــــن ــ عودة الشيخ لرباه ــ بيــت الرمـاد ــ صـلاةُ الجــــائع ــ في غابـات الـريف ــ الحيــة ــ العــَلـَم ــ دمـوعُ البقــرة ــ في الثلاجــة ــ مقامات الشيخ معيوف).


