إذا أردتَ أن تكونَ حماراً ــ قصة قصيرة
(1)
– يا سيدي ليس سهلاً أن ترتقي إلى مكانة الحمير ، فلا تصدع رأسي !
– ولكنني من قبيلة عربية عريقة اسمها قبيلة جحش ولنا نسب معكم وطيد !
– بعد الثورة المباركة التي قام بها القائد سقراط لم يعد ثمة قبيلة عريقة وأسر فوق البشر والحمير !
– وكيف انضم إلى الإدارة إذن ؟
– يلزمك ورقة دمغة أولاً لتكتب عليها مؤهلاتك التي سيجري إختبار عليها .
– وكم يستغرق ذلك ؟
– ثلاثة أيام بشرط أن تكون مؤهلاتك حقيقية .
– وإذا لم تكن حقيقية ؟
– هناك معسكر العقاب !
مشى مضر بعيداً . كانت السيارات الفارهة تقودها وجوهٌ حيوانية بشعة . آذان طويلة . أنوفٌ مروعة ذات مناخير مفتوحة على اتساعها وكأنها فوهات خباز ، وبعضها يضع نظارات سوداء ، ويبدو معجباً بنفسه !
فلل الحمير في البرية المرتفعة ، بيوتٌ ضخمة تحيط بها حدائقٌ غناء ، نوافير عالية للمياه ، ويرفعون إعلانات تدعو إلى عدم التفريط في الماء ! الماء ثروة حمير فحافظوا عليه !
يندسُ في زقاق ضيق . هنا حشود البشر ، قماماتٌ لا أول لها ولا آخر ، أولادٌ يلبسون خرقاً ، شيوخ يجلسون على دكات الأبواب ويمضغون التبغ واللبان وحشائشَ غامضة ويبصقون بصقات كبيرة حمراء مروعة . وفي كلِ خطوةٍ من خطواته تنشب معركة ، ويُقذف شخصٌ ما من طابق أعلى ، أو يندفعُ آخر بدراجته النارية مطيحاً بالسلال والبراميل ، والصراخ لا يتوقف ، والجدلُ يندلعُ بقوةٍ ويَسمع :
– يا سيدي العرب من سلالة عدنان وعمروا الأرض من الصين حتى جمهورية نيجيريا الشعبية !
– بل من سلالة قحطان وأشادوا السدود وأبراج بابل وصعدوا للسماء بأجنحة من ريش . .
– هذا تلميحٌ فظ ودنيءٌ تحقيري للدين ولا اسمح به مطلقاً !
– ألم يصعد أحدهم بريش طيور وضربه نسرٌ في عينه فسقط على أم رأسه ؟ أتجادل في هذه المعلومات الأولية المتواضعة ؟
– لمَ نتجادل هنا ولا نذهب للمقهى ؟
– منعَ الحميرُ المقاهيَّ منذ فترة يا هذا ، أين أنت ؟
– لماذا منعوها ؟!
– يقولون بأن البشر يكثرون من الثرثرة وأن المقاهي تحولتْ إلى بؤر لأمراضٍ خطيرة ولكن السبب الحقيقي هو منع التجمعات !
– إذن نذهب للخمارة .
– من أين النقود ؟ كما أنهم رفعوا أسعارها كثيراً حتى اقتصر شربها عليهم !
مشى مضر بعيداً عنهما . منذ أن تفتحت عيناه وهما يتجادلان عمار وعمير ، منذ الصباح الباكر ، يدخنان ، ويقرآن الصفحة الرياضية من جريدة صوت (الأمة الحميرية) . وقد يذهب عمير إلى بيت عمار ناسياً ، ولا تعرف زوجة عمار وعياله بأنه عمير وليس عماراً ، وتصحبهُ للفراش وتعطيهِ الغداءَ ، في حين يذهب عمار إلى بيت عمير ويحدث مثل ذلك ، ويتداخل الأطفال والصبية وتندلع الشجارات ويختلط كلُ شيءٍ ، خاصة أن عمير وعمار يعيشان في خرابة واحدة .
وصلَ مضر إلى منزله . اندفع الأطفالُ إلى ساقيه يفتشان جيوبه ، ووجدوا بضع لوزات تشاجروا عليها . ولم تعمل زوجته الغداء قائلة بأن السمكة التي احضرها أكلتها القطة .
ترنحَ على سريره وتطلع إلى التلفزيون المثرثر عن الانجازات الهائلة التي حدثت بفضل الثورة المباركة .
– التلفزيون مفتوح يا امرأة وكل هذا يضيف مبالغ على الفاتورة المتضخمة أصلاً والتي لم تــُدفع منذ ثلاثة شهور ! لو كنتُ أحكي مع غنمة لفهمت !
– قالت الجارات بأن ثمة برنامجاً مهماً سوف يُذاع .
– أي برنامج هذا الذي يستدعي فتح القنوات على الهواء ؟
– الأطفال يتفرجون يا هذا ؟ !
– على ماذا يتفرجون ؟ لقد منعوا أفلام الكارتون ، وصلت الغرامات على من يشاهد توم وجيري مائة دولار ، أما كارتون (حماري قال لي) فعقوبته الحبس ثلاث سنوات !
– الله يجازيهم !
– إذن ما هذا البرناج الذي يستدعي كل هذه الهدر في الثروة الوطنية ؟
– أطمئن بمناسبة هذا الخطاب أُعتبرت الكهرباء مجانية طوال هذا اليوم .
– يا لسعدنا !
– وماذا فعلت مع الشغل ؟ هل ستظل هكذا عاطلاً معتمداً على الإعانات وسرقة حظور السمك ليلاً ؟
– لم أجد سوى أن أقدم طلباً للانضمام إلى مجتمع الحمير !
تركتْ زوجتهُ تقطيعَ البصلِ وحدقتْ فيه بعينين دامعتين :
– هل تفعلها وتخون أهلك وقضيتك التي كافحت من أجلها سنين طوالاً ؟ ماذا أقول لأهلي وسكان الحي ؟
– أي قضية يا امرأة ؟ من بقى ؟ من صمد ؟ اندثر كثيرٌ من العرب وتولى الحكمَ في أغلب البقاع الحميرُ وبعضُ قرودِ الجبال . وحتى سكان الصين والهند رحلوا إلى المريخ وعطارد ، ولم يبق سوانا على هذه المعمورة التافهة .
– قلتُ لك أن تتعلم على هذه الأجهزة فتكتب وترسل مقالاتك إلى جريدة المريخ الأولى وأنت مصرٌ على حفظ وأعراب الشعر الجاهلي ؟!
– أنا الخبير الوحيد الآن في الشعر الجاهلي يا امرأة ، الكثير من العلماء اندثروا وأخاف أن أُقتل فتضيعُ لغتـُنا إلى الأبد . .
– وهل سترضى بك لجنة فحصِ الحمير . . أغلب سكان الحي فشلوا . تذكرتُ الآن . . سيكون الخطاب لسقراط زعيم الحمير وسيلعن عن إجراءات لتطوير حياة العربان .
وبعد أغان حماسية ملتهبة ، ظهرت جماهير كبيرة من الحمير تلوح بالأعلام الوطنية ، ثم توجهت الكاميرا لقاعةٍ كبيرة ، ظهر الحميرُ فيها ببدلاتٍ أنيقة ، وجثموا على أرضيةٍ مفروشة بالبرسيم المقطوع ، لكنهم كانوا متصلبين ولا يقومون بقضم ما بأسنانهم الضخمة ، ثم وثبوا نهوضاً حين دخل الزعيم ببدلته المميزة ونظارته الطبية السميكة . قال الزعيمُ وقد تحلق حول التلفزيون الأولادُ وأمُهُم وراحوا يأكلون بشراهة :
– لقد ازعجونا العرب كثيراً بتخلفهم ورفضهم برامج تطوير حياتهم ، وقاموا بشغب خطير خلال اشهور الماضية ، وتعطلت مصالح خاصة عملية غزو كوكب الزهرة الصعبة والمكلفة للأسباب العملية التي شرحتها لكم في مناسبات سابقة ، ومع هذا فسوف نتغاضى عن تخريبهم وحرقهم لبعض المصالح الحيوية ونقدم تنازلات ونوافق على جوانب من نمط عيشهم ، فسوف يُضاف إلى رمضان شهر آخر للصيام ، بشرط منع السهر إلى الفجر ، من أجل أن لا يتلاعبوا بالزمن ، كما أن حفظ الشعر سوف يُعاد في بعض المدارس العامة ، وسوف يُسمح بأن تنجب المرأة أكثر من عشرة أطفال ، ويُسمح بعودة تدخين الشيشة في بعض المقاهي وأن يـُلقى النقوط في بعض الملاهي على أن لا يتم التنقيط على الراقصة بأكثر من خمسة آلاف دولار في الليلة الواحدة . .
(2)
تـَعللْ فالهوى عللُ وتذكرْ بأنك بغلُ
وما كل هوى عبثٌ ولا كل الخضروات بقل
هذا هو الاختبار . منشار في الحلق .
(ضع علامة صح أو خطأ على الجمل التالية :
– العرب سلالة هجينة من السلاحف والقطط .
– إن البغال هي التي قامت بتأسيس الحضارات القديمة بحملها السماد والروث والأحجار ورفعها إلى القمم ، وبشق دروب الزراعة وحفر الآبار ، وقد عانت بشدة من جراء المعاملة غير الحميرية ثم نسب المؤرخون إنجازات هذه الحضارات للبشر ، خاصة في إقليم معين اسمه البحرين قديماً ، وهو إقليم شهد أفضل وأجمل أنواع الحمير في العالم فقد كانت بيضاء قوية قاربت الأفراس الأصيلة ، ولكنها بعد ذلك أصبحت رمادية أو صفراء هزيلة نادرة الوجود ثم لم يظهر أي حزب مدافع عن الحمير في ذلك البلد!) ، (يستدعى الشاهد أمين الريحاني وبمعيته كتابه ملوك العرب) .
جثم مضر في القاعة ينتظر النتائج مع حشد من رفاقه البشر ، فجاء حمارٌ ضخم هو المسئول عن لجنة الفحص ، وحدق في ورقة وقرأ اسماً واحداً وقال :
– الأغلبية الساحقة لم تنجح ، بسبب الآراء العتيقة المتسلطة في رؤوسها والتي تمنعها من الرؤية الموضوعية الصادقة ، ولا تزال تعيش في هذيان وخرافات الماضي ، مكذبة كل هذا التطور الصارخ ، ولهذا وببالغ الأسف لا أستطيع سوى أن أسلمكم للجنة المعسكرات تقوم بزرع شيء من العقل في رؤوسكم الفارغة !
ضج الحضور بالاعتراضات لكن المسؤول هدآهم :
– سوف تـُعطوْن في المعسكرات ثلاث وجبات مجانية ، وقهوة وشاي ، وتلتقون بزوجاتكم أو أزواجكن مرة في الأسبوع ، وسوف تشاهدون أفلاماً لكن سوف . . تشتغلون بجدية وليس مثل أعمالكم السابقة في الوزارات والشركات التي خربتموها و . . .
قوطع باحتجاجات وضحكات وتصفير :
– أفضل شيء قلته هو ما يتعلق بالزوجات اللواتي سنلتقي معهن مرة واحدة لحسن الحظ !
– لم تتحدث عن السجائر والشيشة ؟!
– وهل العمل سيكون مكتبياً، أنا لا أعرف الأعمال الخشنة ؟
– سوف يجعلوننا نحرث الحقول يا جماعة !
– ماذا عن الخمارات والمقاهي يا سيد ؟
رد المسئول بهدوء :
– سوف تعملون في الأرض ، ولن تكون هناك خمارات ومقاه والنوم هو عند العاشرة مساءً ، والنساء والرجال سوف يعملون معاً
(3)
تقدمت الكاتبة عائشة الهولية إلى الضابط المسئول في التحقيقات الجارية بشأن تحريضها.
– أولاً أنا لا أعترف بهذا الاستجواب الذي يُعمل من طرف قوة محتلة بمساعدة قوى أجنبية معروفة وعدوة للعرب!
– أين هي القوى المحتلة يا سيدتي؟!
– أنتم جسدها الحيواني الرابض فوق صدرونا!
– ولكن ليس ثمة قوى محتلة، نحن قمنا بهذه الثورة المباركة بعد قرون من إضطهادنا وجعلنا نشتغل في المستنقعات والحقول الخربة حتى كاد نسلنا أن يزول!
– بل هناك القوى الاستعمارية الأمريكية والإسرائيلية وهي التي خططت لكم ودفعتكم لهذا الانقلاب الفاسد العنصري!
– لم يعد يوجد من الأمريكيين سوى القليل، لقد كانوا أول من سافر من الأرض وأستوطن كوكب المريخ ثم أستعمروا كوكب زحل، ولديهم الآن من الثروات والأبنية والرحلات التي سمعت بأخبارها حتى القطط في الكوكب الأرضي التعس!
– لا تهمني هذه الدعاية المغرضة، وأنا أعرف بشكل حدسي وغيبي وواقعي بأن أي شر في المعمورة لا بد أن يكون من الأمريكيين وعملائهم اليهود!
– اليهود كذلك غزوا الكوكب الأصفر وهو كوكب مليء بالذهب والنحاس، وقد أقاموا صيرفة كونية للتعامل بالمواد الثمينة، وأستغرب أن تكون كاتبة لامعة مثلك لا ترعف مثل هذه الأخبار المنتشرة منذ سنوات طويلة!
– كل هذه أكاذيب، لقد كان أبي دقيقاً في أحكامه فلم يعترف بما سمي بغزو القمر، وأنا ابنته وعلى خطاه!
– لماذا لا تتعاونين معنا في نشر التنوير بين العرب؟!
– سنجد في مكتبك الوثير هذا سماعات تنقل كل شيء لأسيادك سواء في الأرض أم في الكواكب!
– يا سيدتي نحن ندير حالنا بأنفسنا، ونحن نريد تعاون كل المثقفين من أجل تطوير حياة العرب.
– لا يمكن التعاون مع قوة إحتلال خاصة إذا كانت من طرف الحمير!
– نحن جزء هام من تاريخكم الحيواني، وقمنا بالثورة مع عناصر نادرة من العرب العقلاء، ونطمع في أن تتفهموا أنتم كذلك أهدافنا الطيبة.
– اليهود وراءكم، اليهود أعداء الله والأمة ولا بد من القضاء عليهم!
– أذهبي وأبحثي عن هؤلاء اليهود وإذا وجدت واحداً فأحضريه إلى هنا!
– وهل تظنني جاهلة، اليهود كائنات خفية، مثل الجراثيم، هم الذين سمموا أفكاركم وكنتم تعيشون بحال جيدة في زرائبنا!
– يا أختي ألا تعقلين قليلاً!
– لا تقل لي أختي، فأنت من عناصر الأحتلال البغيض، ولو كنتُ قنبلة لفجرتُ نفسي فيك!
– ها هي قنبلة وفجري نفسك وفجريني!
– أنت مجرد حمار وإذا إنتهيت لا قيمة لك أما أنا ففلتة في التاريخ!!
ـــــــــــــــــــــــــ
باب البحر «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2020.
❖ «القصص: وراء البحر.. – كل شيء ليس على ما يرام – قمرٌ فوق دمشق – الحب هو الحب – شجرة في بيت الجيران – المذبحة – إجازة نصف يوم – حادث – البائع والكلب – ماذا تبغين ايتها الكآبة؟ – إمرأة – الربان – إذا أردتَ أن تكونَ حماراً – اللوحة الأخيرة – شاعرُ الصراف الآلي – البيت – حوت – أطروحةٌ – ملكة الشاشة – الغولة – وسواسٌ – مقامة المسرح – إعدام مؤلف – يقظة غريبة».


