محمود أمين العالم والتغيير

كتب : عبـــــــدالله خلــــــــيفة

لا يمكن لأعمدة صحفية أن تحرث في أرض واسعة هائلة كالأرض الفكرية للراحل محمود أمين العالم، لكنها إشارات لبعض الحقول في هذه الأرض، خاصة حقل فهم الاشتراكية الملتبس.
فالرجلُ جمعَ الفكرَ والأدب والسياسة في ثالوث حفري مستمر عبر أكثر من نصف قرن، حيث يبدأ بالدرس الفلسفي في أول الأربعينيات من القرن العشرين، جامعاً معه الأدبين القصصي والمسرحي بصور متعددة متصاعدة، رغم إن كتابته للشعر تبقى خارج الوجود المتجذر في الأرض الإبداعية، ثم يتغلغل في مجمل الظاهرات الفكرية والإبداعية المصرية نضالاً صبوراً وتضحيات جساماً.
حين نظرنَا إلى مشهدِ الصحافة المصرية في الستينيات رأينا النماذجَ الكبيرةَ الهائلة وهي مأسورة أو محطمة. غزارة في الكتابة ولكن ثمة تناقضات رهيبة في الوعي كنا غير قادرين على فهمها، لأننا كنا جزءًا من تناقضاتها.
محمود أمين العالم يمثل هذا الرعيل ذا الأبنية الفكرية الضخمة المتناقضة، وحينذاك لا يمكن أن تفهم سببية هذه التناقضات، لا وعيك يسمح لك بذلك ولا الحركة (التقدمية) قادرة على فهم وفرز التناقضات.
إن التبجيلية للمشروع(الاشتراكي) الناصري الذي كان يقدمها العالم ترافقها مواد مكتوبة عن الاعتقالات والقتلى، وعن تاريخ الحزب الشيوعي المُطارد ثم المُهجن داخل الحكم البيروقراطي المسيطر، ويبرز محمود العالم كمنظرٍ لهذا القبول بـ (الاشتراكية) في الصحافة المصرية حيث يكتب في مجلة المصور بشكلٍ مستمر وفي الهلال، وتظهر حينذاك موسوعة الجيب الاشتراكية، التي ندأبُ على التهامها، ونهتم بفقراتِ محمود العالم فيها، ففي النظر التقدمي السائد وقتذاك أنه الأقرب (للحقيقة).
أحدثت قراراتُ التأميمات في الستينيات صدمة للمعتقلين الشيوعيين المصريين وهم في سجن النظام نفسه، ودفعتهم إلى دراستها وبعث العالمُ برسالة إلى جمال عبدالناصر يؤيده عليها، حس الشاعر الرومانسي قوي لدى العالِم، والعدة النظرية لا تكفيه لتحليل هذه(الاشتراكية). وبعد السجن حين التقى خالد بكداش قال له الأخيرُ اشتراكية عبدالناصر (رأسمالية دولة)، من دون أن يربط بكداش ذلك باشتراكية روسيا. الحماس الشعري لدى العالِم قادهُ لاقتراح بتحويل الأحزاب اليسارية إلى قوى ذائبة داخل التنظيمات الأخرى كما حدث في مصر.
هنا نصطدمُ بالتبريرية الايديولوجية لنظام الاشتراكية الوطنية المصرية، فكلمةُ الاشتراكية التي يرددها العالمُ تصطدم في عرفنا السائد بمصطلح الاشتراكية (العلمي)، حيث إن اشتراكية مصر ليست هي اشتراكية، بل هي دولة هجينة، لم تستطعْ أن تتشكل من خلال إرادة الطبقة العاملة وهي الطبقة الوحيدة القادرة على صنع الاشتراكية.
ولهذا فإن فكرَ العالم يقعُ لدينا وقتذاك بين قوسين، خاصةً أن اشتراكية النظام المصري التي هي دولةٌ تسيطرُ عليها برجوازيةٌ صغيرة من العساكر منذ انقلاب يوليو 1952، تحولتْ إلى فئات وسطى كبيرة بعد امتلاكها القطاع العام، وأدى انقطاع علاقاتها بالجماهير عبر الحكم الشمولي إلى أن تكون هذه الاشتراكية اشتراكية زائفة، بل هي رأسمالية.
لكننا لم نعرف طبيعة هذه الرأسمالية، وكانت مجلة الطليعة التي رأسها لطفي الخولي غنية بموادها الباحثة في هذه الظاهرات والصراعات من دون أن تؤسسَ وعياً علمياً.
كان الوعي العلمي يشترطُ في مثلِ هذه اللحظة الانقطاع عن الايديولوجية المضللة بوعي الاشتراكية، التي هي تتحدث باسم الاشتراكية نفسها، وكان محمود العالم أحد الصائغين لهذا الالتباس الفكري، في مجال الوعي بالتشكيلات التاريخية بدرجةٍ خاصة.
كان الاشتراكيون لا يعرفون الاشتراكية، وصار الكثيرون اشتراكيين، فهناك اشتراكية عربية، واشتراكية إسلامية، واشتراكية ديمقراطية وغيرها.
حين نتساءل الآن بعد عقود من هذه الحقبة نرجعُ التباس محمود العالم بوعيه للاشتراكية إلى ماركسيته اللينينية، فقد كانت هي المرجعية، وهي تتكون بشكل إنشائي:
(ماركس لم يقدم برنامجاً عملياً للتحول الاشتراكي وانما قدم خطوطا عامة. ولقد استطاع لينين ان يقود عملية الثورة وان يحققها باقتدار عبقري في مواجهة الضرورات العملية والفكرية والتنظيمية التي فرضتها الاوضاع الخاصة والدولية، وكانت هناك ابداعات فكرية وعملية عديدة مثل نظرية قيام الاشتراكية في بلد واحد، ومثل نظرية أضعف الحلقات، ومثل الربط بين السلطة والكهرباء، أي التصنيع، ومثل الثورة الثقافية، ومثل نظرية حق تقرير المصير ومثل الدعوة للسلام العالمي، ومواجهة الحرب الاهلية والتدخل الامبريالي، ولكن لعل من ابرز الابداعات العملية في تقديري هو مشروع الـ peN الذي سعى به لينين إلى ان يردم الهوة بين الطبيعة الثورية للسلطة الجديدة وبين الواقع الاجتماعي البالغ التخلف، ربما اقتراباً من رؤية ماركس الخاصة بقيام الاشتراكية في البلاد الرأسمالية المتقدمة، باعتبار ان الاشتراكية هي تتويج لاكتمال المرحلة الرأسمالية)، (العالم، الماركسية وسرير بروكست، 2-3)، من الحوار المتمدن.
هذه عبارة تلخص طريقة محمود العالم وجملة كبيرة من المناضلين التقدميين كذلك عن الاشتراكية، وكيف يتم التعبير عنها بشكلٍ إنشائي بلاغي لا علاقة له بالعلم.
تغدو الاشتراكية من الفقرة المستشهد بها في الحلقة السابقة هي قيام فرد اسمه لينين عبقري بتأميم مشروعات رأسمالية، ثم تنفيذ مشروع الكهرباء وتطوير الثقافة ثم إيجاد خطة النيب.
هنا يحدث قطع مع تاريخ البشرية المعاصر، مع فهم التشكيلات التاريخية باعتبارها ليست نتاج فرد أو نخبة أو بضعة بلدان، بل هي نتاجُ أجيال من الشعوب والقارات، نتاج المئات من السنين، وفي الفهم الإرادوي (الماركسي) فإن إنشاء الاشتراكية ممكن بانقلاب، وفي ذلك الحين كانت ومازالت التشكيلة الرأسمالية في طور النمو، بدأت بعدة قرون تسمى عصر النهضة الأولية التحضيرية، ثم زمن الاكتشافات الجغرافية فزمن الثورة الصناعية، فعصر الاستعمار، فانتشار الرأسمالية كتشكيلة كونية، ذات قطبين قائد مهيمن وتابع متخلف فنام ومازالا يتصارعان ويتداخلان لتكوين قادم مشترك لا نعرف حتى الآن ملامحه.
قراءة المظاهر السطحية للثورة الروسية تجعله يبتعد عن الدخول للسببيات العميقة، فالكهربة وتوزيع الاراضي على الفلاحين والدفاع عن الوطن ضد الاستعماريين الغزاة ونشر التعليم هي كلها اجراءات من مرحلة الثورة الديمقراطية، التي تشكلت على المستوى الاقتصادي الاجتماعي، لكن تأميم المصانع هي قفزة أخرى، خلطت بين مرحلتين، هي عملياً القضاء على الطبقة البرجوازية، لكن البيروقراطية الحكومية هي التي تتسلم فائض القيمة، غدا رأس المال من سيطرة الدولة.
هذا السياق لا يحلله العالم، بل هو يعتبره ثورة اشتراكية، وحين يفعل عبدالناصر ذلك يغدو مؤسِّساً لاشتراكية، الإجراءات في روسيا ومصر على بُعد الزمن والمراحل، تمثل دكتاتورية اجهاضية للتحول الطبيعي للانتقال للرأسمالية وأشكالها الديمقراطية.
تتفكك لدى العَالِم رؤية التاريخ، بعزل مصر أو روسيا عن تاريخ التشكيلات، وعن جذور العالم الشرقي ودور الدولة المتأصل المعيق للتطور الديمقراطي، والمُسرع للتنمية، فلا يحظى مصطلح (رأسمالية الدولة) على أي بحث لديه، وهو جوهر المرحلة، وهذا ما يشكل الأحكام السياسية العفوية الخاطئة في أغلبها.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 14, 2023 09:23
No comments have been added yet.