وعي محمود إسماعيل
كتب : عبـــــــدالله خلــــــــيفة الباحث الدكتور محمود إسماعيل هو من القلائل في مصر الذين اعتنوا طويلاً بالبحث في التاريخ والفلسفة العربيين – الإسلاميين ، وكان له منحى مختلف عن الوعي المحافظ الذي ساد الفكر المصري بدءً من عباس محمود العقاد حتى النشار وغيره من الذين أعادوا الوعي الفلسفي لما قبل الشيخ محمد عبده.
من كتبه التي صدرت في حقبة السبعينيات وكان لها تأثير على التأريخ كتابه( الحركات السرية في الإسلام)، الذي طبع في دار روز اليوسف ثم أعيدت طباعته في دور أخرى، ولأول مرة يتجاوز باحثٌ التنميطات الذي ظلت سائدة منذ طه حسين والذي كان كتابه الفتنه الكبرى بجزأيه بداية التحليل الاجتماعي للتاريخ الإسلامي.
وكان هناك نهجان في قراءة الإسلام في مصر، الأول اعتمد على رؤية يمينية تقديسية تبجيلية للتاريخ والفكر الإسلاميين بحيث جعلتهما جوهرين خارج الظروف والصراع، وبالتالي افتقدت الديناميكية ورؤية المسار الموضوعي للمسلمين، وهي قد غذت المجموعات السياسيةَ التي رفضتْ الانتماء الاجتماعي المحدد وجعلت موقفها غامضاً مائعاً بين المجموعات الاجتماعية المتضادة بغرض كسبها والمناورات داخلها. ويمكن ملاحظة ذلك في كتابات العقاد وسيد قطب ومصطفى محمود وغيرهم.
أما الخط الآخر فهو الخط الذي يرفض الإسلام، ويعتبر دخوله إلى مصر ، أو انتماء مصر لهذا التاريخ بمثابة كارثة حضارية، وقد يحدث ذلك بشكل غير مباشر برفض الكتابة عن هذا التاريخ الإسلام جملةً وتفصيلاً، كما فعل لويس عوض، أو الكتابة عنه، ورؤيته كتدهورٍ وتقومُ هذه الكتابات بالعودة إلى التصور الخلدوني السلبي للعرب، أي بأنهم أمة تخلف مطلق، كما يكتب ذلك بمناورات متعددة سيد القمني.
أما الخط الموضوعي التحليلي النقدي فهو الذي أسسه طه حسين، ولكن طه حسين لم يقترب من المادية التاريخية برؤية التاريخ كفعل للقوى الاجتماعية وهذا ما جعل رؤيته للتاريخ مثالية أخلاقية، ولم يستطع من الكتاب المصريين تطوير هذا الخط وتقديم صورة أكثر تطوراً، إلا حين بدأت كتابات محمود إسماعيل بالظهور، لكن محمود إسماعيل كان شبه مجهول في بلده، بسبب أقامته الطويلة في البلدان العربية المختلفة بغرضِ التدريس في جامعاتها وهذا ما أكسبه، من جهةٍ أخرى، احتكاكاً بتطورات الفكر العربي وتلاقحه مع المفاهيم التقدمية.
كما أكسبته هذه الرحلات قراءات عميقة في تواريخ البلدان العربية الوسيطة، ولهذا نرى له عناوين مختلفة عن تاريخ الإسلام في شمال أفريقيا، ومعرفة دقيقة بتحولات البربر والتيارات المذهبية السياسية فيها. كما أن له معرفة دقيقة بالفرق الإسلامية وتحولاتها في المشرق العربي الإسلامي، فكتب عن فرق الشيعة المتعددة.
وفي كتاب ( الحركات السرية في الإسلام )أختار الحركات المعارضة والهادفة للتغيير الاجتماعي، ومن هنا كان طابعها سرياً، وقد افتتح فيه تحليل التاريخ الإسلامي من وجهة نظر كشف تطور الصراع الاجتماعي، ثم ظهر كتابه الأساسي وهو (سيوسيولوجيا الفكر الإسلامي )وهو من أربعة أجزاء يتناول فيها تطور الوعي في التاريخ العربي الإسلامي وكيفية نشأة الفرق والاتجاهات الفكرية والفلسفية المختلفة، مستخدماً أسلوباً سهلاً في العرض، معززاً إياه بمئات المراجع والنصوص، مما يُعتبر مرجعاً لأي دارس لهذه الظواهر.
وإذا كان أسلوبه يمتاز بسلاسة العرض وبساطته نظراً لاستمراره في العملية التدريسية ولثورية أفكاره، إلا أن التبسيطية في النظرة إلى التاريخ الفكري تنتشر لديه في الخطوط العريضة لرؤية هذا التاريخ.
ونستطيع أن نعتبر أهم ما في هذا الكتاب حسب اجتهادي هو قراءته الدقيقة للإقطاع، فإذا كان يعمم كثيراً في رؤية (البرجوازية) ويجعل بعض الأنظمة القديمة كنظمٍ رأسماليةٍ أو أن الرأسمالية انتشرت فيها إلى حدٍ كبير، إلا أنه في رؤية ظاهرات الإقطاع والتخلف، فهو فذ فيقوم بتقديم إحصائيات دقيقة في هذا المجال بحيث لا يمكنك إلا أن تقر له بذلك.
نستطيع أن نقول بأن وعي محمود إسماعيل مثل لحظة فكرية هامة في التاريخ الفكري المصري الحديث، فهو من التقدميين القلائل الذين اهتموا بالسيرورة الاجتماعية للفكر الإسلامي، حيث خلا الفكر المصري الحديث من الاستعانة بالعلوم الحديثة في القراءة الإسلامية، وتوجه الفكر التقدمي المصري إلى الفكر المعاصر أو الثقافة كصنيع محمود أمين العالم أو غالي شكري، كما أن محمود إسماعيل لم يهتم هو الآخر بالفكر المعاصر وبتطور مصر الفكري الحديث، فلم يحدث تلاقحٌ على مستوى النظر بين الجذور والمعاصرة، بين بُنى مصر الوسيطة، وبنى مصر الحديثة.
هذه كانت مظاهر لضعف التيار التقدمي حيث لم تظهر شخصية موسوعية نقدية تستوعب هذه الظاهرات المركبة، فتقرأ قوانين التطور الاجتماعي والفكري على مستوى الماضي والحاضر، وهو ما مكن التيارات اليمينية الشمولية في الوعي الديني، وسواء الإسلامي أم المسيحي، من الهيمنة على قطاعات المثقفين، وتكريس توجهات سياسية غير ديمقراطية، خاصةً إذا ذكرنا بأن معاقل هذا الفكر في الجامعات والمدارس تضخ بشكل مستمر هذا الفكر المحافظ المتخلف في الفضاء الاجتماعي والسياسي، بحيث تراجع التطور في مصر عن بلدان عربية أخرى كانت سابقاً أكثر تخلفاً منها.
وهذا يمكن أن نلاحظه حتى في موسوعة محمود إسماعيل التي توقفت عن فهم مسألة التشكيلات التاريخية، وخاصة مسألتي (الإقطاع والرأسمالية) الحاسمتين في فهم التطور العربي السياسي الراهن، فهو يقسم الفاعلية في التاريخ الاجتماعي الإسلامي بين قوتين متصارعتين هما البرجوازية والإقطاع ، والتطور والحداثة والعلم تأتي من الأولى ، أما القوة الثانية فهي قوة تخلف وارتداد ، وهو حكم صحيح في عموميته الواسعة ، ولكن إلى أي مدى كانت هذه (البرجوازية) برجوازية حقاً ؟ فمعاييره لتحديد البرجوازية غير دقيقة، فهل تكفي فترة من الازدهار التجاري والحرفي لكي نعمم بأنها طبقة برجوازية في حين أنها مجرد فئات وسطى، كما أن تناقضها وتداخلها وتبعيتها للإقطاع كانت مسائل معقدة في التاريخ وتحتاج إلى تحليل لكل فترة وبنية بدون القفز إلى أحكام كبرى.
فإذا كان هذا التحديد للفئات البرجوازية غامضاً، وبالتالي لا يوجد هناك فهم دقيق لأسلوبي الإنتاج، فإن المسائل الفكرية المترتبة على مثل هذه القواعد التحليلية، تغدو محفوفة بالمخاطر النظرية.
في الجزء الثالث ، على سبيل المثال ، وهو المختص بدارسة أفكار الفلاسفة والفرق الفلسفية، يتعرض لمدرسة (أخوان الصفا)، وهي المدرسة الفكرية السرية التي ذاعت أفكارها في العالم الإسلامي عبر التاريخ.
وحول الاختلافات في تاريخ ظهور هذه المدرسة وعن صحته يقول الباحث :[ وعندنا أن ظهور المعلومات الأولى هذه عام 360 هـ لا يخلو من دلالة على ارتباط هذا الظهور بعصر الصحوة البورجوازية الثانية – من حول منتصف القرن الرابع إلى منتصف القرن الخامس الهجري – وهو عصر المد الليبرالي الذي شهد ظهور كيانات سياسية كبرى تمثل في الدولة البويهية والدولة الفاطمية والخلافة الأموية بالأندلس، وهي كيانات ذات طابع بورجوازي حققت الكثير من طموحات إخوان الصفا)، ص179 ، ط 1 ، سينا للنشر.
إن هذه الكلمات العامة عن الصحوة البرجوازية والمد الليبرالي، يجب أخذها بحيطة موضوعية وتدقيق بالغ، فهل يمكن اعتبار عصر الدولة البويهية عصر (صحوة) ، وما معنى الصحوة في سياقات البحث الاجتماعي، وهل الدولة البويهية دولة بورجوازية؟ إن كلمة (صحوة) تقابل النوم، فكأن العلم الاجتماعي يتحول هنا إلى استخدام التعبيرات الفضفاضة المتعلقة بنوم واستيقاظ الفرد، وليس بقراءة تشكل الفئات والطبقات الاجتماعية. فمن المعروف إن الدولة البويهية كونها أمراء فرس زيديون تلاعبوا بالخلفاء العباسيين وحولوهم إلى دمى، وقد عاثوا بميزانية الخلافة على بذخهم ولهوهم، وانحصرت الخلافة حول بغداد ثم بضع دويلات فارسية، وعموماً تحول الأمراء البويهيون إلى إقطاع متحكم في الثروة.
لكن البويهيين سمحوا بظهور وزراء مثقفين كبار لعبوا دوراً كبيراً في تشجيع الفكر والثقافة، لكن النظام الاجتماعي لم يتغير، يقول عبدالعزيز الدوري( فمن آثار سياسة معز الدولة تجاه الأراضي أن ” فسدت المشارب ، وبطلت المصالح، وأتت الجوائح على التناء {الفلاحون} ورقت أحوالهم ) في حين أرتفع دخل أفراد الجيش البويهي المسيطر، (والخلاصة، فإن عصر العصر البويهي كان خالياً من الخدمات الاجتماعية باستثناء الفترة بين369 – 372 ) ، (وكان الفقراء يأكلون الجراد أيضاً، وخاصة في السنين العجاف) ، ( وكانت معيشة البدو صعبة)،(ورأى بعض الوزراء في المصادرة مورداً أساسياً للخزينة وتصرفوا بموجب ذلك) ، راجع الدوري ، تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري.
هكذا غدا هؤلاء الأمراء البويهيون الغزاة إقطاعاً عسكرياً، ينتزع الفوائض عبر الجيش، وهو لا يعرف كيفية توسيع الإنتاج وتحديثه، ولكن ما هي علاقة أخوان الصفا الذين ظهروا في هذه الفترة بالبويهيين وهل كانوا من تأثيراتهم؟
إن اخوان الصفا تجمع ثقافي سري ليس له صلة بالحكام، وهو يتشكل من شرائح الفئات الوسطى المعارضة للاستغلال الإقطاعي، وقد أمكن لهذه الجماعة أن تكتب وتدس كتبها في غيبة من أعين السلطات، واستفادت من صراعاتها الفوقية وغياب ملاحقاتها، فهي إجابة على الأسئلة التي طرحها الإسلام عبر حركاته المختلفة، خاصة حركة الاعتزال، وحركة أخوان الصفا مرتبطة بالتقاليد الكفاحية الفكرية للمناطق العراقية الجنوبية القديمة وهي محاولة لتجاوز عقلانية الاعتزال بصورة مختلفة. وهي تعبر عن شرائح من الفئات الوسطى اعتمدت الثقافة كوسيلة للتغيير الاجتماعي، ورفعت من مكانة الزهد والتصوف كسبيل مسلكي للتغيير السياسي، وحاولت تجميع أغلب المذاهب والأديان في إطار تصوفي مشترك، وكانت لها نظرات مهمة في فهم التاريخ، لكنها لم تستطع أن (برجوازية حرة) فكان هذا يحتاج لتبدل الرأسمال الحرفي على رأسمال صناعي وذلك لم يكن ممكناً حينذاك، وصار ممكناً الآن!
لكن الدكتور محمود إسماعيل بعد هذه الملاحظات العامة يسوق الكثير من الأفكار المتغلغلة في تحليل فكر أخوان الصفا ، بصورة دقيقة متتبعاً تجليات وعيهم في مختلف الظاهرات السياسية والعلمية والفلسفية، بحيث جاءت هذه الملاحظات بغنى مختلف عن التعميمات التي لم ترتبط بها.


