الإسماعيلية والإسماعيليون

الإسماعيليون والثورة الاجتماعية



كان الاسماعيليون امتداداً لحركات المعارضة التي تشكلت في أزمنة المسلمين الأولى، كالسبأية والهاشمية والحنفية، التي كانت تُعطي لبعض الأفراد التاريخيين دوراً خارقاً، إلهياً، حيث لا يغدو هؤلاء من طينة البشر العاديين. وكانت هذه الرؤى متجذرة في وعي البشر المشرقيين خاصة، وكانت المناطق العربية الشمالية كمصر وسوريا والعراق وكذلك فارس، تحفل بهذه التصورات الخرافية والعجائبية والتي تعود بجذورها إلى آلاف السنين.
وحين حسمت الدعوة الإسلامية انتهاءَ هذه المرحلة، وجعلت الوعي الإسلامي ينمو داخل نصوصها تفسيراً وبحثاً، وجعل كافة الشخوص التاريخية داخل الإطار الإنساني المحض، لم تستطع تلك النزعات الماورائية الغيبية أن تسلم بالأمر.
وهكذا انبثقت مدرستان، الأولى تنمو داخل النصوص، والأخرى تحفر تحتها، بحثاً عن فتح الأبواب لتلك العمليات الخارقة، ولأجل إنتاج قادة يخترقون سقف الدولة الواحدة ذات النص الواحد.
ولم يكن بإمكان المرحلة الرعوية، أي زمن سيطرة شبه الجزيرة العربية على العالم الإسلامي المتكون حديثاً، بإناسها وثقافتها أن تسمح بتلك الظواهر الفردية الخارقة، وهكذا لم تنتج دعوة عبدالله بن سبأ لتأليه الإمام علي بن أبي طالب سوى ردة فعل عنيفة، وكذلك دعوة بعض الهاشميين لتأليه محمد بن الحنفية.
كانت مثل هذه الظواهر تمر على شاشة الوعي السائد مثل الشهب والنيازك، غير قادرة على النفاذ إلى التربة الاجتماعية، وتكوين تيارات كبيرة، ولكن مع انتقال الجسم العربي الأساسي إلى الشمال الزراعي، واستمرار الاستقطاب الاجتماعي بين أسرة متحكمة في الخراج، وجمهور عريض مستغل، بدأت آليات المقاومة القديمة للشمال الزراعي في الانبعاث، وحينئذٍ استمرت العملية السابقة، بسبب عدم تعريب المنطقة بعد، وبقاء جمهور الفلاحين، القوة المنتجة الأساسية غير عرب وغير مسلمين، لكن في نهاية القرن الهجري الثاني وفي القرن الهجري الثالث تغيرت اللوحة، فمع تحول كثير من هؤلاء إلى مسلمين، أخذوا يسربون قضاياهم ومعاناتهم وأفكارهم داخل التراث العربي الإسلامي.
لقد ظهرت الأفكار الإسماعيلية في بداية القرن الهجري الثاني، حين لم يقر إسماعيل أبن جعفر الصادق بأن يكون أخاه موسى الكاظم هو الإمام من بعد أبيه، وأعلن تمرده، وطرح أسلوب الكفاح العنيف تجاه الدولة العباسية الناشئة حينئذٍ، وكانت هذه مناقضة لخطة أبيه القائمة على الحذر والكفاح الفكري بعيد المدى، وبعدم الانجرار إلى المغامرات السياسية.
كانا هذان خطان مختلفان تشكلا داخل البيت الجعفري، ومنذ ذلك الحين راحا ينموان بطريقة مختلفة. ولم يظهر من إسماعيل أي أفعال هامة في هذا المضمار، وقد توفي في حياة أبيه، مما عزز من إمامة موسى الكاظم، ولكن أبن إسماعيل محمد رفض هذا وبدأ يشكل فرقته الجديدة، التي عُرفت باسم الإسماعيلية.
ولكن العمل الفكري والسياسي لم يكن من فعل هذه العائلة بشكل رئيسي، بل من قادة شعبيين انضموا إلى هذه الحركة وجذورها في البلدان المختلفة، ويُشار إلى ميمون القداح بصورة خاصة هنا.
إن انقسام الحركة إلى قادة أشراف موجهين ومتواريين، يصبحون ويسمون الأئمة المستورون، وإلى قادة ميدانيين، يعبر منذ البداية عن انقسام الحركة إلى أرستقراطية قائدة وقوى شعبية عاملة.
ولكن في زمن الستر هذا، وحيث القادة قريبون من قواعدهم، ليس ثمة من تضاد كبير.
في زمن الستر، وتغييب الأئمة، لا يكون للحركة الإسماعيلية وضوح برامجي. فالحركة منذ البداية اشتغلت على خلق هذا الضباب الإيديولوجي الذي يسمح لها بالتقدم بين قوى اجتماعية متعددة، وفي أراض شاسعة من الإمبراطورية الإسلامية، وتبني مطالب الجمهور المستغل العامل.
إنها تواصل تقاليد الإمامية من حيث الرؤية، حيث الإمام علي بن أبي طالب هو الإمام المنصوص على خلافته، وهو الأحق بتسلم السلطة، وما حدث بعد ذلك هو اغتصاب للحكم. هذه الرؤية الإمامية تواصل الإسماعيلية نسجها، بخلاف الزيدية التي انفصلت عن هذه العملية الانشقاقية في صفوف المسلمين، وتبنت موقفاً معتدلاً وسطاً سمح بتكون الجبهة السياسية العريضة التي أطاحت بالحكم الأموي.
وموقف الإسماعيلية هذا يوضح إنها تشكلت على رؤية حادة، أخذت تتعمق مع استخدام الأدوات السياسية والتنظيمية، كاللجؤ للعمل السري الواسع، والدعوة للإطاحة بالحكم العباسي، الأمر الذي وجهها نحو المراكز البعيدة عن العاصمة.
وحين وضعت الحركة أهدافها في عودة حق أهل البيت في الحكم، وبالتالي الدعوة للإمام، غيبّت الأهداف الاجتماعية الملموسة، وغدت حركة من أجل حكم عائلة من الأشراف، ولكنها هي لا تقوم بعرض هذا الملمح الاجتماعي بطبيعة الحال، بل تعلنُ رفضَ الظلم والعمل من أجل العدل، وغيرها من هذه الأهداف التي تبقى مرهونة بإرادة الإمام وليس ببرنامج محدد على الأرض.
ومن هنا فهي حركة لا تعمل من خلال فعل الناس النضالي لتغيير أوضاعهم، بل من خلال توصيل الإمام المستتر إلى سُدة الحكم، ليحين عهد الأمام المعلن والظاهر، ولهذا فإن مصير الحركة وأهداف الناس مرهونين بإرادته اللامرئية في زمن العمل السري، وما يحدث في هذا الزمن النضالي السري يبقى مجهولاً عند الاتباع، وفي فضاء الحركة الفكري، لكونها تركز لا على مسائل التغيير الملموسة والبرامجية، بل على الخضوع للإمام المستتر ونوابه.
وتعاضدُ الأفكارُ الغيبية المطروحة هذا التكتيك السياسي، فهي كذلك لا تدورُ حول تبصير الناس بالمشكلات الاجتماعية والسياسية، وتفعيل إرادتهم لتغييرها، بل تدور حول الإمام وظهوره وإمكانياته الخارقة.
وهنا الفارق بين الإسماعيلية والإثني عشرية في هذا الزمن، حيث للأولى أئمة مستعدون للثورة وجاهزون لقيادة الجماهير، أما الثانية فقد دخلت بعد الإمام الثاني عشر في زمن الغيبة.
عندما قام ميمون القداح بتأليه الإمام جعفر الصادق طرده هذا ورفضه. ولكن هذا التأليه يغدو نموذجاً لكيفية العمل السياسي والفكري لديهم، فجعل الرمز قوة غيبية هو تعطيل لإرادة الخلايا السرية في علاقتها بالواقع، فهي تتجه لدعوة الأفراد إلى الخضوع المسبق للإمام، ولهذا فإن النص الديني نفسه يبقى معطلاً أو غير قابل للقراءة الشخصية والمستقلة بدون وجود الإمام ونوابه. ولهذا فإن العضو الجديد المنظم يقوم بالقسم والولاء المطلق للإمام، دون الإشارة إلى أي برنامج أو خطة عمل سياسية ما، فيقول القسم في إحدى فقراته على لسان الداعية: [أنك تستر جميع ما تسمعه وسمعته، وعلمته وتعلمه، وعرفته وتعرفه من أمري وأمر المقيم بهذا البلد لصاحب الحق الإمام الذي عرفت إقراري له] ، [ الإسماعيلية في العصر الوسيط ص103 ]، ورغم إن القسمَ يدورُ حول الحفاظ على مواثيق الإسلام، إلا أنه في البداية والنهاية يُربط بالولاء للإمام. فيغدو العضو مرتبطاً بحركة الدعوة من خلال الولاء لشخص الإمام .
حين يقوم الإسماعيليون بربط عضو الحركة بالإمام المستور الذي لا بد أن يكون موجوداً في الوضع الراهن، ومستعداً لتغيير العالم السيء، يعيدون في الواقع سياق الفرق الإسلامية المعارضة الثورية، التي لا تعرف القعدة والانتظار كالخوارج والزيدية، فهم يواصلون تقاليد المعارضة الدينية، ولكنهم يختلفون عن هؤلاء باعتبارهم الانتظار لحظة من لحظات العمل السياسي الشامل، الذي تغرس أثناءه البذور، ويحضر الأتباع، وبالتالي فإن الحركة أخذت بمراعاة الظرف الموضوعي والذاتي للحركة السياسية، ولعدم اللجؤ إلى المغامرات العسكرية المكلفة.
ومن هنا وجدنا الحركة تظهر في منطقة شمال أفريقيا، ففي هذه المنطقة وجدت بذوراً يانعة لتفعيل المعارضة، فالبربر تم السيطرة على بلدهم من قبل العرب، الذين استأثروا بالحكم والامتيازات خاصة على مستوى الحكومتين المركزيتين الأموية والعباسية، ثم سيطروا على الإدارات المحلية، وقد فشلت الثورات العنيفة التي قام بها البربر من خلال الوثنية ثم من خلال فكر الخوارج، فأخذوا يندمجون في الثقافة العربية الإسلامية، متجهين إلى المذهب المالكي المعبر عن ذلك التضافر بين البيئة البدوية والتجارية.
ولهذا فإن وجود مذهب الإسماعيلية في ديارهم الصارمة في فهمها النصوصي، كان يمثل مفارقة وتناقضاً، لا يمكن حله إلا بعدم البوح به دفعة واحدة، فهذه الإمامة السبوعية، وأسرارها الغريبة، ما كان لها أن تُهضم من قبل هؤلاء البدو. ولهذا ظلت شمال أفريقيا، ذات التكوين الرعوي المتجذر، عصية على مذاهب الفلاحين المشرقيين الحلولية.
ومن هنا صار التنظيم الإسماعيلي ذا مراتب، والعضو ينتقل إلى درجات دنيا حتى يصل إلى مناصب أعلى، تخضع لتطور فهمه وإيمانه بهذه اللغة الإمامية المتعارضة مع الوعي المالكي. وبسبب إن الدعوة ما كان يمكن لها أن تنمو إلا في بيئة معارضة متعطشة للإصلاح، فقد وجدت في القبائل البربرية مادتها البشرية الممكنة.
وهكذا فإن تحول بضعة أفراد من قبائل مهمة كان هو الشرط في التحويل السياسي للمنطقة، وبطبيعة الحال فإن الولاء الذي يعطيه هؤلاء الأفراد للإمام المستور، كان ينتقل إلى قبائلهم إذا استطاعوا إقناعها بذلك، وقد وجدت قبائل بربرية في الاعتناق تحولاً في ظروفها الاجتماعية ورفعة لمستواها المعيشي، لكن المالكية لم تتزحزح من القيروان التي غدت عبر الانقلاب الإسماعيلي بها عاصمة الدولة المهدية الجديدة. والسبب يعود إلى أن انتصار الدولة لم يؤد إلى فرض العقيدة الجديدة على الجمهور بالقوة، وكذلك فإن النظام الاجتماعي لم يتغير، على الرغم من القول بأن دولة الأئمة قد قامت، وظهر المهدي ودولته، لأن أسس النظام الاقتصادي والاجتماعي لم تتبدل، فحلت مجموعة جديدة من الأشراف محل أخرى، دون أن تقوم هذه المجموعة الحاكمة بتغيير النظام الاقتصادي، بل واصلت استنزاف الموارد من أجل التوسع العسكري الذي تُعد له.
ولهذا غدت المالكية والخوارجية هي أدوات المعارضة الفكرية وهي التي تنتج الثورات ضد الفاطميين، ثم استأثرت المالكية بهذا الدور لكونها لم تتوجه إلى النضال الحاد المباشر.
من هنا فإن عرب وبربر شمال أفريقيا لم يجدوا في الإسماعيلية تحولاً جوهرياً في ظروفهم الاجتماعية، بل واصلت هذه إنتاج الاستغلال الاقتصادي وإنتاج أيديولوجية دينية غامضة لم تتصل بمداركهم كذلك.
في مصر التي حكمها الإسماعيليون باسم الدولة الفاطمية لم يحدث تغيير أساسي في هذه الصيغة الاجتماعية الفكرية، فقد استأثر الإمام بالموارد الأساسية، مواصلاً نهج الدول السابقة في الاستيلاء على الخراج، الذي أخذ يتوظف في مصر بدلاً من أن يتوجه للعاصمة العباسية على هيئة خراج أو هدايا.
ولكن عبر وجود الدولة الفاطمية حدث الانقسام الكبير للمسلمين لأول مرة، وهو هنا انقسام إيديولوجي وليس أسري محض، كما كان الشأن في انفصال الأندلس، وهو الآن في المشرق، المركز الأساسي للإسلام والعروبة وإنتاج الوعي.
وهنا كان لا بد أن تتجه الدولة العباسية إلى إبراز العناصر الدينية الخاصة بتطورها، المنفصل تدريجياً عن الإماميات، وهذا ما بدأ يقسم العالم الإسلامي إلى سنة وشيعة.
ولكن على مستوى تغيير حياة الناس لم تقدم الإسماعيلية وهي تحكم شيئاً جديداً يتجاوز السيطرة على الفلاحين والجمهور، بحيث تم صرف الخراج على القصور والبذخ، وأدى هذا إلى نمو الفئات الوسطى المرتبطة بالتجارة مع الأشراف الحاكمين، وقد شجعت الأرستقراطية الطوائف المسيحية واليهودية في هذا المجال.وهو أمر رافق لحظات النمو في تطور الأنظمة، لكن في لحظات الأزمة فإن الأمور تتغير، وتبدأ المصادرات لأموال الوزراء وكبار التجار.
وبعدم إجراء إصلاحات وتطبيق المثُل الثورية التي وعدت بها الإسماعيلية الجمهور المسلم، بدأ الشك يتسرب إلى الإيديولوجية الحاكمة.وإذا كان الشعب قد رفض اعتناق الإسماعيلية محافظاً على وجهة نظر وسطى بين التيارات الدينية والأديان المتصارعة، فإن الإيديولوجية الإسماعيلية ذاتها الحالمة بتغيير أخذت تهتز وتتصارع، فنظراً للتركيز على الإمام واعتباره بؤرة الدين والنظام الاجتماعي، بدا الرفض المبطن لفكرة الإمام الحاكم المطلق والذي يتساوى مع الإله.وهو أمر كانت الثقافة المصرية على مدى عدة آلاف من السنين قد تخلصت منه.ولهذا وجدت في العناصر السنية غير العابدة للحاكم المطلق وغير المؤلهة للشخوص، طريقها لرفض الحكم الإسماعيلي ولتوجيه النقد للدولة كذلك.
لكن الانقسام في الإسماعيلية لم يبد واضحاً للباحثين، باعتباره انفجاراً في مكوناتها الاجتماعية والفكرية المتضادة، فالعناصر المعارضة والمنشقة فيها، والتي عُرفت فيما بعد بالدروز، كانت تؤله بشكل كبير الحاكم بأمر الله الفاطمي. ولكنها في ذات الوقت كانت تنهي الإمامية الإسماعيلية، فبعد الحاكم بأمر الله لن يكون هناك إمام للإسماعيلية، وبالتالي فإن العقل هو الذي يجب أن يحكم.
إن هذا ما يُسمى بالإيقاف.إنه إيقاف لمسلسل الأئمة المطلقين، وأعطاء العقل الديني فرصة الحكم على الأشياء بنفسه، ولكن كيف؟ لم يكن للمنشقين المعارضين سوى أن يناضلوا داخل مناخ الوعي الديني، وليس بالانفصال عنه، وأن يبحثوا عن الأجوبة للأزمة الاجتماعية من خلال المفارقات الدينية عبر التطرف والاعتدال معاً. فالمنشقون رفضوا العبادات الإسلامية من صلاة وصوم وغيرها التي غدت أشكالاً ومظاهر خارجية للعقيدة، وليس جوهرها الحقيقي، ولكنهم من جهة أخرى لم يحددوا هذا الجوهر إلا بشكل غيبي وميتافيزيقي، باعتباره حكم العقل الذي يبقى مطلقاً وغيبياً.
إن بحثهم عن جوهر العقيدة الإسلامية من خلال أدوات وعيهم المثالية المفارقة للصراع الاجتماعي والسياسي، قادهم إلى الاهتمام بالتناسخ مثلاً، فقد أرادوا أن يشكلوا العقاب والثواب في الحياة الدنيا، استفادة من هذا العنصر الغيبي الهندي، ولكن العقاب والثواب لم يتحولا إلى مواجهة قانونية وسياسية للشرور الاجتماعية، بل رحُلا إلى شكل آخر من الغيب.
وبهذا فإن المعارضة الإسماعيلية التي تحولت فيما بعد إلى المذهب الدرزي المعروف في بلاد الشام، واصلت إنتاج عناصر الاستغلال الفكري والاجتماعي، عبر عدم برمجة معارضتها سياسياً واجتماعياً، مما قاد إلى إنتاج شكل آخر من الوعي الطائفي، وليس إلى إنتاج وعي توحيدي إسلامي.
إي أن ظروف تشكل طبقة وسطى متنورة منفصلة عن إقطاع الدولة، وإقطاع المذاهب، لم تكن موجودة، فقامت العناصر الإسماعيلية الموظفة والإدارية في جسم الدولة بالانفصال عبر بعض العناصر الفكرية، في العباءة الإسماعيلية العامة، دون أن تخرج منها كلياً.

الإسماعيلية في إيران

لم تنشق الجماعة الإسماعيلية في مصر على مستوى تأويل إرثها الفكري فحسب، بل أيضاً انشقت من داخلها عبر حركتين متضادتين، ويقول أحد الباحثين عن هذا الانشقاق:
[وليس هناك من اتفاق بين المتبحرين العصريين بخصوص جوهر طبيعة الإسماعيلية النزارية المبكرة. ففي حين رأى العديد من الإسلاميين والمتبحرين الإسماعيليين فيها مجرد حركة إسماعيلية انشقاقية انفصلت عن جسم الخلافة الفاطمية وعن مقر قيادة الدعوة الإسماعيلية في القاهرة بسبب مسألة وراثة الإمامة الإسماعيلية، إلا أن آخرين( ولا سيما بعض المتبحرين الإيرانيين) مالوا إلى النظر إليها على أنها حركة ثورية إيرانية صرفة ذات طموحات مثالية ” قومية “]، [فرهاد دفتري، حسن الصباح وأصول الحركة الإسماعيلية النزارية، من كتاب الإسماعيلية في العصر الوسيط، ص185].
كان الانشقاق النزاري في الدولة الفاطمية يعبر عن نفس التناقضات التي تجسدت سابقاً في الدولة الفاطمية، بين طموحات ثورية للإسماعيليين وبين الاصطدام بواقع السلطة، وامتيازاتها واستغلالها الذي تجمدت فيه الحركة باستيلائها على مصر.
ومن المعروف إن وراثة العرش طبقاً لأنظمة الوراثة كان يجب أن تتجه إلى الابن الأكبر للإمام الراحل المعز وهو أبنه (نزار) ولكن بدر الجمالي الوزير المتنفذ، ممثل طبقة الامتيازات في النظام، جعلها للابن الأصغر وهو (المستعلي) ، فأعلن نزار التمرد في الإسكندرية فحدثت ثورة شعبية موالية له، ولكن النظام تمكن من هزيمتها.
تحول الولاء لنزار الذي توفي في السجن، إلى إيديولوجية انشقاقية عند الاسماعيليين، فظهرت الإسماعيلية النزارية هذه، وأخذت تنمو خارج مصر، مركز الدولة والدعوة.
نستطيع أن نقول إن هذا الانشقاق أكد على نحو غامض محاولات المضمون الثوري للإسماعيلية في البروز، وإذا كان قد نما في سوريا بشكل الحركة الانشقاقية الفكرية، والتي تبلورت في شكل طائفة الدروز، التي انسلخت عن العبادات الإسلامية الظاهرية، التي اعتبرتها شكلية، متوجهة إلى المضمون الذي غامضاً كذلك، فإن هذا المضمون الثوري أخذ يبحث في إيران عن تجلٍ آخر.
وقد كان الحسن الصباح المتدين الإيراني الذي سافر إلى مصر متحمساً للإسماعيلية، وقد تم تنظيمه في إيران وانسلخ عن التيار الشيعي، قد وجد هذا الاضطراب السياسي والفكري في هذا البلد، باعثاً على الانضمام للتمرد ومواصلة تعميق الطابع الثوري للإسماعيلية.
ولم يكن الحسن الصباح من الشخصيات المترددة، فوجدت الإسماعيلية في شخصه نموذجها التاريخي. فقد كانت إيران في زمنه خاضعة للدولة السلجوقية التي امتدت من إيران حتى حكمت بقاعاً كبيرة في المشرق الإسلامي، وكانت هذه قبائل تركية، وقد تابعت تقاليد البدو في المنطقة بالاستيلاء على الدول ثم حلب مواردها على الرفاه والبذخ.
لقد عبرت سيطرة السلاجقة عن نظام إقطاعي عسكري هيمن على الفلاحين الفرس وامتص ثمار كدحهم، ولم تتواجد قوة إيرانية تواجه هذا الغزو والاستغلال، فقام الحسن الصباح بقيادة هذه المقاومة ( القومية ). ومنذ ذلك الحين بدأ صعود نجم اللغة الفارسية مجدداً، فاعتبرها الحسن الصباح أداته في المخاطبة والمكاتبة لاتباعه بدلاً من العربية، وكذلك قام المفكر والرحالة الإيراني ناصر خسرو باعتمادها في كتاباته المختلفة.
وبطبيعة الحال فإن هذا المضمون القومي الجنيني، كان لا بد أن يتوجه لتعميق الثقافة الفارسية القديمة واستعادتها، نفياً لثقافة السلاجقة الدينية الشكلية.ومنذ ذلك الحين بدا المسار القومي الإيراني يتعمق بالانفصال الواسع عن العرب.
لم تستطع المدن في تاريخ العالم الإسلامي أن تكون تربة لثورة ناجحة، لأن المدينة في هذا التاريخ ليست مركزاً للصناعة أو للاستقلال الاقتصادي عن السلطة، بل على العكس مركزاً للإدارة السياسية والعسكرية، فهي منطقة النفوذ الرئيسي للطبقة المسيطرة، والفئات التي تتكون فيها تكون عادة تابعة للدولة وأجهزتها، ولهذا ترافقت عملية نمو المذاهب السنية بهذه الإدارات وشرائح الطبقة الوسطى المستفيدة من الدولة، وقد كانت القوى الرعوية التي تسيطر على هذه الدول عادة بسيطة الفهم، فتتعمق عملية بقاء هذه المذاهب، في حين تتجه الأرياف تبعاً لذلك إلى مذاهب دينية أخرى تعبر بها عن نضالها ضد سيطرة الطبقة الحاكمة، فيبدو ذلك في التاريخ السطحي وكأنه صراع مذاهب وليس صراعاً اجتماعياً، راح يعبر عن نفسه بالأدوات الفكرية المُتاحة في ذلك العصر.
وقد كان الفلاحون الفرس في عهد الدولة السلجوقية، كما كانوا دائماً أغلبية المنتجين والسكان، ولكنهم عبر قراهم يئسوا من الثورات المسلحة الفاشلة غير المحمية بأدوات الطبيعة أو بالانضمام الجماهيري العام.
ولهذا كان الحسن الصباح هو عبقري المرحلة الذي اكتشف أسلوباً جديداً، يتغلغل بين هؤلاء الفلاحين ويجرهم للثورة ويحميهم ويقـترب من المدن المعادية كذلك.لقد احتاج ذلك منه إلى عدة سنوات وهو يتجول بين الجمهور وفي الأرياف والجبال بقدراته العجيبة على التنكر، و صبره الطويل في اكتشاف أفضل السبل للتغيير.لقد وجد الوسيلة في الاستيلاء على القلاع، فهذه القلاع القليلة المتناثرة في الأرياف وفي الصحارى، تستطيع أن تجمع بين التمرد وحماية الجمهور العامل، وتكون أشبه بمستعمرات صغيرة يقوم فيها وحولها السكان بالزراعة والإنتاج والثورة كذلك.
إن هذه القلاع تستطيع أن تحميهم، وتنشر تمردهم بين السكان. إن هذا الأسلوب من جهة أخرى يعبر عن التقاليد الإسماعيلية الموروثة من الزيدية والخوارج، التي ترفض القعدة، والتي تواصل النشاط التمردي بلا توقف ولا كلل، ولكنها من جهة أخرى ترفض تسليم الثوار لقمة سائغة لجيوش المدن النظامية القوية.بل تحول الجماهير إلى قوى مسلحة.
لكن ذلك يتطلب شروطاً جغرافية وبنائية واجتماعية صعبة، فالقلاع نادرة ومتناثرة، وقدرة هذه القلاع بأن تكون أداة واسعة قادرة على التصدي للجيوش الحكومية السلجوقية، وعلى حشد الجماهير، أموراً غير ممكنة، فالاستيلاء على قلعة آلموت المركزية والأساسية في هذا المشروع احتاج إلى بضع سنوات، من التخفي والتسلل إلى القلعة، ومن تجنيد حراسها وإدخال العناصر الثورية بها ومن ثم أخذها بالتراضي مع مالكها.
ولهذا كان هذا الأسلوب الذي يشبه لعبة الشطرنج باستخدام البيادق الثقيلة، طويلاً ومكلفاً، ومن ثم غدت حرب العصابات هذه بعيدة عن التغلغل في الجمهور، واكتشاف عناصره النشطة واستيعابها، بل ومن فهم الناس ومطالبهم، فغدا ذلك النضال العسكري والسياسي بعيداً عن البحر الشعبي وعن استثمار قواه البشرية في المعركة الاجتماعية المتنامية.
لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فالمذهب الذي اعتنقه الحسن الصباح، وهو السالف الذكر، وحتى عبر انشقاقه لم يكن قد بدل شكله الفكري ومنظومته الغيبية الميتافيزيقية، فظل الإمام هو المرجع، ولكنه هنا إمام غائب، مشكوك في أمره، بعد الانشقاق النزاري.
كان من الممكن، والإسماعيلية هنا تتحول إلى حركة ثورية قومية جنينية، أن تعبر عن مضمونها ذاك، ولكن هيمنة الوعي الديني المذهبي وصيغه المسبقة، كانت أقوى من تطورات الواقع.
كما أن الحركة في برنامجها الكفاحي عبر الاستيلاء على القلاع والدفاع عن أنفسها ضد هجمات الدولة السلجوقية بجيوشها الكبيرة، وحصاراتها التي لا تتوقف، كانت غائصة في التعصب المذهبي، وهو السبيل الوحيد للترابط والاستنفار العاطفي والحشد.
ومع ذلك فإن الحركة الإسماعيلية بقيادة الحسن الصباح أخذت تتوسع وتكون قلاعاً عدة ثورية وسط الأرياف والجبال، حتى غدت حركة مقلقة للدولة السلجوقية التي شنت عليها الكثير من الهجمات.
توجهت الحركة الإسماعيلية في اصطدامها الطويل بالدولة السلجوقية إلى استخدام أسلوب غريب ومثير هو أسلوب الاغتيالات، ورغم إن هذا الأسلوب معروف كثيراً في التاريخ الإسلامي، إلا أن الإسماعيليين والحسن الصباح خاصة، جعلوه أسلوباً أساسياً في صراعهم السياسي مع خصهم وهو الدولة السلجوقية، فانتشرت الأساطير في التاريخ عن هذه الأعمال المتراوحة بين الجنون والشجاعة الفائقة.وقد نسجت الأساطير حول قلعة آلموت ولكن المسألة تعود إلى تضحيات جسيمة لدى هؤلاء الفدائيين، وإلى روح عسكرية قتالية شديدة، وليس إلى خوارق.
ويعبر الانحراف نحو الاغتيالات كذلك عن المأزق الفكري والسياسي للحركة، فهي رغم انتشار قلاعها وشبكاتها التنظيمية في المدن التي لم تسقط في سيطرتها، لم تستطع أن تُحدث أعمالاً ثورية واسعة، وتقود الجمهور الإيراني إلى المواجهة مع السلاجقة الأتراك.
فهذا الجمهور لم يجد مضموناً اجتماعياً واضحاً لهذه الحركة، التي واصلت تقاليد الإسماعيلية في بناء المنظار الغيبي، حيث الطاعة للإمام وسيطرته. ولكن أي إمام هنا، وماذا يريد؟ هذه الأسئلة عجزت الحركة الإسماعيلية في شكلها الإيراني عن الإجابة عليها، لكون الإمام غير موجود، أو غير متفق عليه، وحتى لو وُجد فإنه قد يعيد إنتاج إسماعيلية مصر التي وصلت للسلطة وعجزت عن الدفاع عن العاملين.
ولكن الإسماعيلية في طبعتها الإيرانية لم تصل للسلطة، فظلت متوهجة بصراعها المستمر، الذي أخذ يغلب عليه العمل الاغتيالي والإرهابي، لكونها عجزت عن إقامة روابط مع الجمهور، والنضال ضد ظروفه الاجتماعية.
إن الوعي الإسماعيلي، ككافة أشكال الوعي الديني، أقام برنامجه عبر الاتصال الغيبي لا الأرضي الشعبي، فلم يستطع تفعيل حركة الناس، باستثناء الانتفاضة التي جرت في إقليم خراسان، والتي بادر السكان أنفسهم إلى التحرك ومقاومة السلطة السلجوقية والسلطنة الغزنوية المجاورة.
وإذا أخذنا نرى الآن الجسم الفارسي وهو يُحاصر من قبل الأتراك أو الأفغان، ونرى كيف يبدأ بالتغلغل في المذاهب الإمامية المختلفة، فسوف نرى نمو القومية الفارسية حسب مسار هذا الوعي الإمامي، وهي تتشكل بالانفصال والصراع مع القوى الرعوية الإقطاعية، التي تستوعب المذاهب السنية، فيبدو الصراع الاجتماعي والقومي وكأنه صراع مذهبي، في حين إن المذاهب تُسحب وتُجير لمثل تلك الصراعات الاجتماعية المتوارية.
لكن الإسماعيلية لم تستطع أن تبلور جنين هذا الوعي القومي، لكونها اعتمدت أسلوباً عسكرياً مغامراً، مكلفاً على صعيد المواجهة، ولهذا فإن إمكانية إنتاجها الفكري، وتغلغل هذا الإنتاج وسط الناس، يصبح محدوداً.
إن الإسماعيلية في ثوريتها الأوسع والأقوى والأقرب للجمهور، مما كانت عليه في مصر، والتي منعها الحكم من أن تبلور خطاً تغييرياً مؤثراً، أي في وجودها الإيراني الحر وبين الناس، وعبر الأعمال النضالية، لم تستطع كذلك أن تبلور وعياً فاعلاً يغير الحياة ويطيح بسلطة الإقطاع المستبد، فهي هنا لم تواكب حتى الإرث الإيراني الفلاحي السابق، كما تجلى في المزدكية، وكما تجسد في الثورة البابكية، ولا شك إن هذا العجز يعود للقالب الديني الغيبي وعدم قراءة الواقع وجذب المشاركة الجماهيرية الواسعة لتوزيع الأرض.
تمثل الإسماعيلية في إيران تراجعاً عن الإرث الفلاحي الثوري السابق، بسبب هذا الاعتماد على الإمام المغيب أو غير المتواجد على الأرض، والذي يعبر عن عدم الإيمان بنضال الناس، وهو الأمر الذي أنعكس بقوة في اعتماد وسيلة الاغتيالات والتي أدت إلى قمعهم بقسوة شديدة.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 08, 2022 19:01
No comments have been added yet.