على قدّ أحلامك، مدّ رجليك

 


طلب البرغوث الأب مرة من ابنه أن يقفز على قدّه، بضعة بوصات في البرطمان الذي احتُجز فيه الأبوان منذ زمن، ورغم أن غطاء البرطمان لم يعد مقفلًا فوق رؤوسهم، إلا أنهم اعتادوا القفز داخل نطاقه، داخل ذاك النموذج، لاعتقادهم بأن الغطاء مازال موجودًا، وبأنه سيضرب رؤوسهم حال قفزهم عاليًا، حال قفزهم للارتفاع الذي ينبغي للبراغيث أن تقفزه، وفق طبيعتهم التي خُلقوا عليها؛ لكن لا، علمتهم التجربة ألا يقفزوا عاليًا، وألا يحلموا بأبعد من حدود البرطمان، وهذا ما ورّثوه لأبنائهم.

في بعض الثقافات العربية، ثمة مثل شائع يقول: "على قدّ لحافك مدّ رجليك"، في تحريض على تحديد الأحلام والطموحات، وعدم النظر إلى أبعد من موطئ القدمين، هذا ما يُدعى بالحدود، وهذا ما ينبغي إعادة النظر والتفكير فيه.

أن تحاصر أحلامك وأفكارك بالحدود يعني أن تحاصر نفسك، بأفكار ومعتقدات عن حياتك والعالم، إن الحدود التي نصنعها في عقولنا مخادعة، وهي تعيش في زوايا مظلمة من عقولنا، وتمنح أذهاننا شعورًا بالراحة يجعلها تتمسك بها أكثر، وتعطينا نموذجًا جاهزًا لنعيش فيه.

ولكن من يصنع لنا هذا النموذج؟

إنها الأسرة، والوسط المحيط، المعلمة ومدير العمل، الزملاء وشريك الحياة في أحيان كثيرة، ونتيجة للخوف أو حسن النية، فهم من يرسم بإصبعه هذه الحدود ويصنعون لنا نماذج جاهزة ينبغي ألا نخرج منها، كي نعيش مرتاحين، ونحن بدورنا نفعل ذلك لمن نحبّ.

كيف يتشكّل؟

لا يحدث ذلك بين ليلة وضحاها، بل يبدأ منذ مرحلة الطفولة، يحافظ عليها ويحميها الأهل الذين يحبوننا، ثمّ تتطوّر المخاوف والهواجس بهدف حمايتنا من خيبات الأمل، وحين يحاول المرء دفع نفسه للخروج من تلك المنطقة الآمنة (الخروج من البرطمان) فإنه سيجد نفسه في مواجهة الشك الذاتي والشعور بالعار، ولكنه فقط بعد الخروج من تلك المنطقة الحدودية سيدرك أنه كان في سجن فرضه على نفسه لوقت طويل.

فإذا شعرت يومًا بعدم اليقين بشأن المسار الذي يجب أن تسلكه، وخفت من اتخاذ القرار الخاطئ، وعلقت في حياة لا تمنحك السعادة، فأنت على الأرجح مقيّد بأفكارك.

هذه الأفكار تشبه إلى حدّ كبير ما يحدث حين نطمح لاختيار تخصص دراسيّ أو عمليّ يخالف السائد في المجتمع، إما لنظرة نمطية خاطئة، أو سوء فهم. نحن هنا لا نتحدث عن أحلام غير واقعيّة (رغم أن هذه أيضًا تخضع لنسبية الزمان والمكان).

كيف نقفز خارج البرطمان إذًا؟

دماغنا يعمل باستمرار وفي حلقة مستمرة كآلة ردّ فعل، ردود أفعال مستمرة تجاه البيئة المحيطة، أسرتنا وأصدقاؤنا، مساحة العمل والدراسة.. إلخ، لا يمكننا ردع دماغنا من تكوين أفكاره بناء على ما يجري حوله، ولكن الخبر الجيّد؛ أنه بإمكاننا وحدنا التحكم في آلية ردّ الفعل هذا وكيفيّته. يتطلب الأمر بعض الشجاعة، وبعض الثقة في الذات وإمكانياتها، يتطلب أيضًا التغلب على الخوف من الفشل فهو يُشلّ قدراتنا ويعزّز تلك الحدود. العناد وبذل مجهودات أكبر، الاعتماد على النفس وتحدي الذات، هي مفاتيح الخروج، وهي مفاتيح خلق قصتنا الخاصّة بنا وتكوين معتقداتنا وأفكارنا الجديدة.

ربّما لا يأخذنا هذا تمامًا إلى الهدف المرجوّ، ولكنه بكلّ تأكيد سيحملنا إلى فضاءات جديدة ومستويات أعلى، قد تكون أفضل لنا وأنسب مما كنا نطمح إليه.

شيءٌ آخر؛ "لا تقبل قواعد زمنك"،كما قال نيل ستراوس أحد أهم صحفيي وكتاب نيويورك تايمز وأكثرهم مبيعًا. أثناء حديثه مع صديقه الملياردير، علق نيل ستراوس بأنه يرغب في كتابة كتاب عن الطريقة التي يعمل بها عقل صديقه. كان مهتمًا بمعرفة كيف يختلف عقل الملياردير عن غيره، فجاءه الرد من صديقه: "أكبر خطأ يمكن أن ترتكبه هو قبول أعراف زمنك". عندما لا تقبل بالمعايير، أو الأشياء كما هي، حينها يمكنك الابتكار. فلو بقي كارل بنز راضيًا كأهل عصره بالحصان والعربة التي يجرها، لما اخترع لنا السيارة!

ستسمع كثيرًا هذه العبارة: "كن واقعيًّا"، ولكن من قال أن الواقع هو ما يخبروننا به؟

لا تكن كالبرغوث في البرطمان، بل كن كالشجرة النابتة غصبًا عن الرصيف الإسمنتي، ولا تحلم على قدّك.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 05, 2022 07:54
No comments have been added yet.