بين صناعة الكتاب وسلق البيض!

يحلو للكثير من المثقفين والكتاب والأدباء التشكي من حال الثقافة في العالم العربي، مستشهدين في ذلك بانخفاض معدلات القراءة الفردية سواء بين الأطفال أو الناشئة أو البالغين، كما يعقدون المقارنات غالباً مع القاريء في أوربا وأمريكا وبين القاريء العربي، وهي مقارنات قد تكون صحيحة من حيث الأرقام والنسب المئوية، لكن هل هي مقارنة عادلة وصحيحة حقاً؟


قبل أن نتحدث عن مستوى القراءة دعونا نرى مستوى ما يكتب أولاً، فلنقارن بين الكتاب الأجنبي والكتاب العربي ليس من حيث المحتوى فحسب وإنما لجهة كونه منتجاً متكاملاً. قد يعتقد البعض بأن سبب رواج الكتاب الأمريكي ( والانجليزي بالدرجة الثانية ) في العقود الأخيرة خاصة في مجالات بعينها مثل عالم التجارة وريادة الأعمال وتطوير الشخصية والتقنية والروايات الأدبية مرده لغة الكتاب فحسب، فالانجليزية هي اللغة الأكثر إنتشاراً في العالم كلغة ثانية. ولكن إذا كان ذلك صحيحاً فلم نشهد إنتشاراً واسعاً داخل الدول الناطقة بالانجليزية لكُتَّاب يكتبون بلغات أخرى كالبرتغالية ( باولو كويلو ) أو اليابانية ( هاروكي موركامي ) أو الأسبانية ( إيزابيل اللندي ) حيث تترجم كتبهم من فورها لعشرات اللغات الحية؟


أن تصبح كاتباً في العالم العربي يعني أن تكون لديك موهبة بالفطرة تنميها بالقراءة والممارسة ليس إلا، وحين تفكر بنشر كتابك فستعاني من أحد أمرين : إما أن لا تجد ناشراً بالأساس، أو أن تجد من هو مستعد لنشر مخطوطك على أن تتحمل تكاليف الطباعة أو تتحمل مسؤولية النشر أو الاثنين معاً. وما ستحققه من عائد مادي من الكتاب هو مبلغ زهيد جداً هذا إذا لم تصرف عليه أنت بالأساس. ولهذا فإن معظم كتابنا " هواة " بمعنى أنهم لا يتكسبون من عملهم ككتاب، وإنما لديهم وظائف أخرى هي التي ينفقون منها على أنفسهم وعائلاتهم وعلى هوايتهم ( الكتابة ) أيضاً. ونتيجة لذلك فمن الطبيعي أن نجد كتباً دون المستوى المأمول سواء من ناحية المحتوى أو الطباعة أو الإخراج أو التوزيع، ولهذا تفتقر مكتبتنا العربية إلى كتب في شتى المعارف والموضوعات بعكس نظيراتها الأجنبية. فلا يبقى الحال أمام القاريء العربي هنا إلا أن يتعلم الانجليزية ليقرأ العدد اللانهائي من الكتب التي تكتب بهذه اللغة أو تترجم إليها. أما الحل الثاني، فهو انتظار أن يتم ترجمة هذه الكتب الأجنبية المتميزة إلى اللغة العربية وأعتقد أن مكتبة جرير لديها جهد متميز في هذا المجال.


والآن لننظر إلى واقع الكاتب في العالم المتقدم، وسأخذ هنا المثال الأمريكي. فهناك ابتداء تخصصات من الجامعة وحتى الدكتوراة في مجال الكتابة سواء الإبداعية من قصة ونثر وشعر ورواية أو للصحافة أو الكتابة العلمية أو الكتابة للأطفال أو المراهقين..الخ من المجالات المتعددة للكتابة. وهناك دورات تطويرية قصيرة في هذه المجالات سواء كانت مستقلة أو تابعة للجامعات ومعاهد اللغة. أضف إلى ذلك هناك عشرات المؤتمرات الدورية للكتاب والأدباء من المحترفين أو الهواة في كل ولاية أو مدينة تقريباً، حيث تتاح المجال للكتاب ليتبادلوا الخبرات والأفكار ويطلعوا على آخر المستجدات. وهذه مؤتمرات يحضرها المحررون والمدققون اللغويون والناشرون والعاملون في مجال الدعاية والتسويق والعملاء . فلكل كاتب عميل يتولى القيام بمهمة همزة الوصل بين الناشر والكاتب، كما قد يكون من مهامه أيضاً معرفة الموضوعات الأكثر إهتماماً في الوقت الراهن من قبل القراء وبيانات الكتب الأكثر مبيعاً بحيث يمكن أن يقترح هو على الكاتب المحترف الكتابة في موضوع بعينه، ثم يجد له ناشراً ويحدد الفترة الزمنية التي يفترض أن يستغرقها الكتاب حتى يصدر . بما في ذلك الوقت المستقطع للبحث في هذا المجال ( حتى لو كان رواية أدبية ) وللكتابة وثم للتدقيق والمراجعة والتصميم والطباعة ومناسبات التسويق وحفلات الإعلان والتوقيع وغيره. بحيث يعد كل كتاب مشروعاً مستقلاً بحد ذاته عمل عليه أكثر من شخص، فلا غريب إذاً أن يخرج لنا في أجمل صورة وأبهى حلة، وتباع منه ملايين النسخ، ويتحول إلى كتاب إلكتروني ومسموع وربما فيلم سينمائي أيضاً. وبالتالي فبعض الكتاب في الغرب قد تحولوا بين ليلة وضحاها إلى مليونيرات ! فهذه الكاتبة ( جي كي رولنغ ) كاتبة سلسلة روايات هاري بوتر، والتي كانت حتى العام ١٩٩٥ تعيش على أموال دافع الضرائب البريطاني، فهي عاطلة عن العمل ومطلقة وأم عازبة لطفلة، فغدت اليوم أثرى امرأة في بريطانيا !


وتصدر أسبوعياً أو شهرياً عشرات المجلات المتخصصة فقط في الكتابة وتقدم نصائح متميزة للكتاب فيما يتعلق بتطوير كتاباتهم، والإستفادة من نصائح كتاب معروفين عن طريق إجراء مقابلات معهم، وتنشر إعلانات عن دور النشر والعملاء والمحررين والمؤتمرات أو المناسبات المتعلقة بهذا الفن والتي تهم  العاملين في هذا المجال. أما لو انتقلنا لحجم المصادر المعرفية المتاحة عبر الشبكة فسنزداد حسرة. فهناك مئات المواقع والمجلات والمدونات الإلكترونية المتخصصة في هذا المجال، والعديد من الدورات المجانية والمدفوعة على الشبكة والخاصة بتطوير الكتابة، سواء تطوير اللغة نفسها أو الأساليب الإبداعية والفنية.


http://meghanward.com/blog/2010/01/04/writing-residencies-and-conferences/

Hedgebrook منتجع


كما أن هناك مؤسسات خيرية لديها ميزانيات ضخمة من الأعضاء أو المتبرعين من رجال الأعمال والتجار المهتمين بالأدب والفن والثقافة تقوم باستضافة الكتاب في منتجعات منعزلة لفترات تتراوح من بين الأسبوع وحتى الستة أشهر أو العام ليتفرغوا فقط للكتابة ! فتمنحهم ثلاث وجبات يومياً مع سكن جيد وغرف مخصصة للكتابة ومكتبة وحواسيب واتصال بالإنترنت وأجهزة طباعة وغيرها، ولا يتبقى لهم إلا أن يكتبوا . وفي بعض الأحيان على الكاتب أن يدفع مبلغاً معقولاً جداً لهذه العزلة الإبداعية، وفي أحيان أخرى كثيرة تتحمل هذه المؤسسات التكاليف الكاملة من تذكرة الطيران وحتى وجبة الطعام. 


حينما أحاول تخيل المراحل التي يمر بها كلاً من الكتاب العربي أو الأنجليزي مثلاً، فأنا أتخيل طاهياً مستعجلاً يسلق البيض في الحالة الأولى، ومصنعاً متكاملاً يضم عشرات الموظفين المختصين بمتابعة المنتج في مراحلة المختلفة منذ أن كان مادة خام ( فكرة ) وحتى تصبح سلعة تنافسية في الأسواق في الحالة الثانية. فقبل أن نتحدث عن عزوف القاريء العربي عن القراءة فليطرح أهل القلم والثقافة والأدب وحتى السياسة على أنفسهم هذا السؤال : هل قدمنا له ما يستحق أن يُقرأ؟


المقال في الوطن

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 03, 2012 18:38
No comments have been added yet.


مرام عبد الرحمن مكاوي's Blog

مرام عبد الرحمن مكاوي
مرام عبد الرحمن مكاوي isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow مرام عبد الرحمن مكاوي's blog with rss.