إعادة إنتاج العفاريت ؛ عبـــــــدالله خلــــــــيفة
#عبدالله_خليفة
حين تسيطر الأغلبية الشعبية على الموارد العامة يقل حضور العفاريت في الحياة. فهي تعبيرٌ عن عدم سيطرة الإنسان على واقعه الاجتماعي وحياته وأمراضه.
وقد شكلت سورة الجن في القرآن تعبيراً ترميزاً مثالياً عن إلغاء دور العفاريت في حياة المجتمع وإبعادها عنه، بجعلها جزءً من عالم الإسلام، من عالم الخير، فانتهت تدخلاتها الشريرة، وانتهى حضورها في عالم الإنس، وغدت السيطرة لدى الإنسان.
إن الأدوات السياسية والاقتصادية لذلك العصرمحدود الثقافة العلمية، لكن المسيطر على ثروته المادية الموزعة على الأغلبية، تجعل مقاربته مع عالم الجن مقاربة دينية مثالية، فلا تتم إزالتها بل تتم إسلمتها.
ولكن المسلمين في مسيرتهم التالية وبسبب عودة الأغنياء للحكم، وإبعاد الأغلبية عن السيطرة على واقعها الاجتماعي، أعادوا حضور الجن بكثافة، وصار الجن الشرير خاصة هو المهيمن على الفضاء الثقافي.
فكلما فقدَ الإنسانُ السيطرة على واقعهِ، وتاريخهِ، وصار في مهبِ الرياح السياسية، لجأ لما هو خارج وجوده الاجتماعي، واستعان بالقوى الخفية ذات القدرات السحرية لكي تعيدَ له صحته أو ماله أو الأعزاء الذين فقدهم أو الشباب الذي مضى أو لكي تزيل العقم الجسدي والعقم الروحي، ولهذا لا بد من تقديم أعطيات لها مثل القوى الشريرة الاجتماعية وعمليات إسترضائها وخدمتها.
كانت الكلمة القرآنية والثقافية والتوحد الشعبي الواسع هي أدواتهم للسيطرة على الواقع الاجتماعي، لكن الواقع فلت من إيديهم لغياب الأدوات السياسية المناسبة، وجاءت قوى الأغنياء وحكوماتُ الأقلياتِ لتلغي ذلك الانسجامَ بينهم وبين وجودهم الاجتماعي التعاوني.
فراحوا يتصورون تاريخهم السابق كتاريخ من الأساطير ومن التدخلات السحرية العجائبية، فالكائنات والحيوانات والرموز العجيبة كلها هي التي صنعت تاريخهم الذي صنعوه هم بأيديهم، ويتراجع حضورهم الجماعي الذي تمزق فرقاً وأحزاباً.
لا يمنع من هذا إن المسلمين لم يسيطروا على ثقافة الخرافة كلياً، فهي نتاجٌ موغلٌ في القدم، فثقافتهم كانت تؤمن بالرقى والتعاويذ لكن المُسيطرَ عليها بالقرآن، وهو جانبٌ يماثل تحييد الجن وأسلمتها، والجانب التنويري الإسلامي حسمَ الخيارَ في بعض الجوانب، خاصة في تنحية الكائنات العلوية – الأرضية الشريرة، متوافقاً مع الكائنات العلوية الخيرة، والأفكار المثالية الفكرية الغيبية الخيرة الأخرى باعتبار العالم نتاج إله، وهو الذي يحكم الكون بالخير والفترة الأرضية هي فترة مؤقتة تجريبية، وبالتالي فإن الأفكارَ الدينية هي التي تعاونهُ على إستئصال الشر من حياة البشر.
ومع غياب الدولة الشعبية التي ترفدُ هذه التكوينات الفكرية العامة الخيرة، وتصاعد سيطرة الأشرار الاجتماعيين السياسيين الاستغلاليين، فإن الكائنات السحرية الشريرة تنطلق هي الأخرى في الحياة الاجتماعية.
لا يستطيع الإنسان في هذا المجتمع الذي فقدَ فيه الناسُ سيطرتهم على مصادر إنتاجهم، سوى أن يرتعب من كل بوادر الشر والموت والخراب والحروب، ولا يستطيع وعيه أن يفهمَ تاريخَهُ وكيف عجزَ عن السيطرة عليه، وما هي أسبابُ الحروب والأوبئة وسوء العلاقات البشرية، فهذه كلها تخرجُ عن فهمه، ويتصور إن مسبباتها موجودة في كائنات غيبية وفي حيوانات وطيور شريرة:
(العرب مثلا تكني البوم بطائر الخراب، إذ ينظرون إليه على أنه طائر شؤم تنقبض صدورهم لدى سماع صوته ليلا، ويتوهمون جهلاً حدوث مكروه كموتِ عزيز أو خراب ديار، ويصف الكتابُ الأوروبيين بأنهم يرون في صوتِ البوم إعلاناً لموتِ أحد الأشخاص أو أن أحد الناس يعاني في تلك اللحظة من سكرات الموت، ويتوهمون أن البومَ إذا ما حطَّ على سقفِ أحد البيوت أصابه بالشقاء!)، تعليق صحفي على كتاب مُترجم بعنوان (معجم الخرافات).
إن ارتباط البوم بالخرائب الناتجة عادة من كوارث الحروب وخراب العمران التي لها أسباب شتى، تتحول مع تكرارها في مثل هذا الوعي الشعبي العفوي إلى أن تكون هي مصدر الشر.
إن إعطاء الطيور أو الزواحف كالحيات قدرات على التدخل الواسع في الحياة البشرية تتصاعد إلى حد إعطاء الألوان والألبسة والوجوه إمكانية السيطرة على حياة البشر المستقبلية.
فالتطير والطيرة هي رؤية تشاؤمية من بعض الطيور كرؤية الغربان والاستدلال من وجودها على أحداث سيئة سوف تجري في المستقبل، مع ارتباط الغربان بالجثث الناتجة من الحروب خاصة.
ومع فقدان البشر السيطرة على واقعهم يبحثون عن مفاتيح السيطرة والتحكم خارجهم، نظراً لغياب التراكم المعرفي العلمي في حياتهم، وتظهر فئاتٌ متخصصة في مثل هذه الرؤى الغيبية، المستقبلية والمصيرية، وهي تقوم بإنتاج مثل هذا الفهم الخرافي، كشكلٍ آخر من توظيف الخرافة من أجل عيش تلك الفئة المنتجة لهذه الأشكال من الوهم.
تغدو النجومُ والكواكب والأرواح مصدراً لهذه المعرفة المستقبلية مع عجز العقول الأرضية عن التحكم في يومها، فهذه الأشياء خارج الملموس، ولها ظلال وصور لا نهائية وغير محددة، يمكن عن طريقها تسريب الأفكار والتوجيهات والنبؤات وخلق أشكال من التفكير المحتاجة للمعونة الماروائية نظراً لأزماتها المعيشية والسياسية والجسدية والنفسية المختلفة.
وإذا كانت هذه الأشكال السحرية عفوية وواضحة ببساطة فإن جر جوانب من الدين لعمليات سحرية هو الأمر الأكثر صعوبة في الكشف، حيث تجر تلك المناطق الغيبية لإنتاج ممارسات سياسية عامة مضرة بالتطور.
يؤدي ازدياد الاضطرابات في الحياة السياسية العربية إلى طريقين أما إلى توسع السيطرة العقلانية على الاقتصاد وأما السماح للقوى المتنفذة الإستغلالية التلاعب به كما تشاء مصالحها.
طريق السيطرة العقلانية يقود إلى ازدهار العلوم بما فيها علوم فهم الأديان، والثقافة عامة، وإلى إعادة لحمة القوى الشعبية وإمتلاكها لمواردها الاقتصادية، وهي أمورٌ تقود لزعزعة الثقافة السحرية والغيبية فهي ليست سوى إنعكاس لفوضوية الاقتصاد وتهميش العاملين.
أما طريق السيطرة الآخر والذي أنتج أغلب التاريخ الثقافي العربي، فهو يجعلها تزدهر، وهي تستغل مصطلحات الدين ورموزه من أجل إنتاج ثقافة لا تسيطر على واقع، ولا تجعل الجمهور يتحكم في إنتاجه الاقتصادي والخيرات التي يصنعها.
ولهذا كان نمو الموجات الأولى من الحركات الدينية يتم مع نشر السحر بصورةٍ واسعة، وهذا يتجسدُ بجعل العوالم الغيبية متحكمة تحكماً مطلقاً في الكائناتِ البشرية الشبحية، التي تفقدُ أيَّ دورٍ خلاقٍ في تغيير المجتمع بشكلٍ عقلاني مخطط.
ومن هنا فهي تتوجه للجوانب الدينية الغامضة، التي يتداخلُ فيها الواقعُ مع الغيب، وهي تلك العوالم التي حسم الإسلامُ الموقفَ منها، وجعلها سلبية فاقدة التدخل في الحياة البشرية، كالجن والأرواح.
وحتى لو فرض جدلاً بأنها غير موجودة فيزيائياً إلا أنها موجودة في الوعي البشري والوجود الاجتماعي، وهذا لا يغير من دورها.
فهناك إستغلال للمناطق المتراوحة بين الوجود والغيب كالموت، وهي منطقة خطيرة محفوفة بالأسرار والمخاوف، وذلك عبر جعل البشر يرتعدون خوفاً منها، فتتراءى لهم الثعابين والنيران والأرواح المختلفة، التي عادة ما تـُدخل في مثل هذه المناطق البرزخية عبر التعبئة السحرية التصويرية السينمائية بقصد نزع العقلانية من وعي المسلم، ويتحول المؤدلجُ السحريُّ هذا إلى قائد سياسي، يبطشُ بالعقل، ويهمشهُ، ويحيلُ الإنسانَ إلى أداة في يده من أجل المشروعات التي يخطط لها.
كما يقومُ بالتحكم في النصوص الدينية وإعطائها الأهداف التي يريدُها المتمثلة في زوال العقلانية، وإلى اعتبار التاريخ وحركة المجتمع لا تسير بقوانين، وأن الإسلام الأول لم ينتج خطة عقلانية للسيطرة على الاقتصاد، فتغدو منتجات التاريخ والتراث كلها بيدِ المنتج الساحر الحديث التي يوجهها كيفما شاءت مصالحُ الجماعات والدول الإستغلالية التي تتصرف بالمال العام كيفما تشاء.
إن الأغلبية الشعبية الجاهلة والأمية والتي عاشتْ طويلاً في ثقافةِ السحر، يُعادُ السيطرة عليها عبر مثل هذا التداخل بين السحر والدين، فتتحول الآياتُ والجملُ المُنتزَّعة من سياقاتِها إلى أدواتٍ للحكم والحروب والكوارث.
فيمكن للكلمة حسب هذا الفهم أن تحدث الانتصارات في الحروب، ويمكن إستدعاء بعض المنجمين لمعرفة مصير الحرب مع إسرائيل، وإعطاء الجنود مفاتيح الجنان وهم يدوسون على الألغام في جبهات القتال ويفقدون شبابهم، ويغدو أمراء الجماعات هم المحددون لجنس الكفار – سواء كانوا من جنس المسلمين أم من غيرهم – بعد أن التحموا بالذوات العليا، فهم الذين يستطيعون نقل المجتمعات المتخلفة والفقيرة إلى الأسلام الأول عبر دكتاتوريات المجموعات الصغيرة الأرهابية فيقررون الحياة والموت للناس.
إن حصول هذه القيادات على تلك الإمكانيات الخارقة يحيلُ الإسلامَ العقلاني التحديثي عند هؤلاء إلى شعوذةٍ سياسية، فهم قادرون على إقناع الجمهور الحاشد بأن يعود للوراء وأن يكون ضد مصالحه وتقدمه.
وهذا حدث ليس فقط لأن الجمهور جاهل وأمي، لكن لأن الجمهور يأمل في تسوية مشاكله الاقتصادية والاجتماعية الضارية بنفحةٍ سحرية، بتعويذةٍ تقدمُ له العفريتَ الهائل الذي ينقلهُ بين ليلة وضحاها إلى الجنة الأرضية، ويغدو الشباب غير المنتج وغير المشتغل في الصناعة وغير الدارس للعلوم وغير المصنعة في زنازين الدول الشرقية، يريد بلا عمل شاق أن يرى نفسه فجأة بين الحوريات، وأنهار اللذائذ حوله.
تتحول الجماعات الدينية السياسية إلى قوى خارقة ملكتْ السحرَ القادر بين عشية وضحاها على نقل المؤمنين للجنان الأرضية، فإن لم تستطع نقلتهم للجنان الأخروية، ولهذا تتحولُ سياساتـُها لبرامج سياسية فقيرة بفهم المجتمع وبفهم الدين معاً، معتمدة على زرع الأوهام في عقول الناس، فعبر روشتة حكم الأقليات أو الشركات الإسلامية أو شعارات العودة للشريعة، تجعل الناسَ تتصور أن هذه الشعارات قادرة على حل أزماتهم المعيشية في غمضة عين وانتباهتها.
في حين أن أزماتهم وتخلفهم نتاج ((علاقات اقتصادية)) متجذرة بحاجة إلى تحليلات عميقة، ومشروعات طويلة الأمد، فنقل الملكيات العامة الحكومية للناس وإحداث تنميات كبرى، وتوزيع فوائضها للمشروعات والحاجات الأهلية، مسألة تحتاج لعشرات السنين، إذا عملت وتوحدت الجماهير الشعبية وتعلمت وازدهرت بالعلوم.
إن الفانوسَ السحريَّ السياسي غير موجود، وإنه إذا لم يحدث الحراك الإنتاجي وتقلص هيمنات الدول على الاقتصاديات والدخول والعمالة والفوائض، وبقيت الجماهير في أميتها وسحريتها وتخلفها وأعمالها الحرفية المحدودة، لن يحدث أي تقدم، وسوف يزداد الفقر وتتكاثر الأرواح والأشباح.
إذا لم يحدث تعاون واسع بين القوى السياسية الديمقراطية لفهم الواقع الاقتصادي بالدرجة الأولى، وفهم عملياته ودخوله وكيفية تغييره، فلا تفيد أية روشتة أخرى، خاصة الروشتات السحرية.
لم تقم الثقافة الغربية المسيطرة على المنتجين الشرقيين أو الغربيين، بإنتاج ثقافاتهم العقلانية، فمثل هذا الإنتاج يتواكب مع تغيير ملكيات الصناعة الخاصة، التي تفيضُ عليهم بخيراتها، وإذا كانت ثمة عناصر عقلانية فيها، فهي لا تسود ولا تنتشر بشكل جماهيري.
بل توسعت الثقافات الغربية السائدة المعبرة عن أؤلئك المالكين للفوائض الاقتصادية غرباً وشرقاً، في نشر الخرافات وتيارات تغييب الحفر العقلاني.
كانت المدارس (الرفيعة) الأدبية والفنية كالسريالية والدادائية والبنيوية والشكلانية وغيرها تمثل عبادات الأشكال المفرَّغة مما هو حقيقي وما هو إنساني كفاحي، فتتركز على الخطوط والنقط المجردة والبُنى، ويُتم تغييب الإنسان وإزالة وجوده الاجتماعي، وتـُعطى لتلك الأشكال أهمية مساوية لعبادة النجوم والكواكب والأصنام، وتغدو عبادة الأشياء تخريفاً على أساس تحديثي، وتنقل للمنتجين الثقافيين لينشروها ويعطلوا ملكات الحفر النقدي في مجتمعاتهم.
لكن الجمهور العادي لا يفهم مثل هذه المنتجات الصعبة، كما هي مستوياته وظروفه، فتـُسوقُ له الخرافات عبر الأفلام، وتظهر الوحوشُ على هيئات مصاصي دماء وموتى وقوى غامضة تنبعث من الكواكب والقبور والأرواح ويجيء سكان المدارات البعيدة ليحكموا الأرض، ويتشكل أفراد بقوى خارقة، سوبرمان يرفع الطائرات على كتفيه ويحول مسارات الصواريخ في دقائق، وحيوانات قديمة هائلة يتم ظهورها في المدن الحديثة والبشرية تغوص في حروب نووية كارثية وغيرها من السيناريوهات الخرافية المرعبة والمسلية، وتـُحشدُ معها تقنياتٌ رهيبة لتجسيدها وجعلها حقيقية، مثلما يترافق مع ذلك نشر المخدرات وأشكال التسلية الخطرة والأدمان.
وتـُسمم الجامعات والثقافة وعمليات الإنتاج الفكري بالمستوى (الرفيع) فيما يُسمم العامة بالمستوى المتدني، وبهذا تجد ترنح الثقافات العربية من هذه الفؤوس الواسعة الانتشار، فالكثير من الشعر يغدو ذاتياً نرجسياً أو فقاعات، واللوحات تقلد اللاوجود الثقافي الغربي الخ..
ومع بقاء الرأسماليات الحكومية العربية الفاسدة المستنزفة للثروات وللأدمغة، وبقاء الأرياف غير مصنعة، والنساء الأميات يواصلن إنتاج الخرافة، تفيض البلاعات.
وتظهرُ مؤسساتٌ لعبادة الشيطان، ويُقال بأن ذلك جزء من الحرية الدينية، ويُقال بأن الإلهَ أو الشيطان تسميات خيالية مشتركة.
والقضية ليست الحرية هنا ولكنها في إلغاء التراث الإنساني المتمثل في الأديان، وصور الإله والملائكة واليوم الآخر هي رموزٌ لإنتاج الخير في تاريخ الإنسان، جوانبٌ روحية لتوسيع الضمائر وإحيائها في حالة الموات، ولكي لا تغدو الجريمة مبررة، والمذابح محترمة، وحين جاءت الهتلرية أنشأت الصليب المعقوف، صليبٌ يغيبُ التضحية، ويبررُ الحروب والقتل!
وهذا لا يعني جعل الفكر الديني مطية للاستغلال وهيمنة الطبقات والأمم، بل تعني رؤية التاريخ الديني كنضالٍ للإنسان في ظروفٍ فكرية مغايرة لنضاله في ظروف العلوم الحديثة.
وكم يحاول بعضُ المثقفين جعل تاريخ الأديان ومواده وسيلة لاستمرار الخرافة والقهر، ولهذا يشحنونه بما يجعل العقل يطير فوق ظروف الأرض الحقيقية، لتبرير اللاعقلانية.
فيظهر مثقفون يدافعون عن وجود الأرواح والروحانية ويعرضون فشل العلوم والسببيات والقوانين، وفي مواجهة ماديين آليين يريدون سحق الأديان بشكل لا يقل عن لاعقلانية أولئك.
يغدو الوجود صدفة، والخير صدفة، والعقول متاهة.
وفي ذات الوقت تبرز عبادة الشيطان وعبادة الدولار!
وفي ذات الوقت تفقد الكثير من الشعوب سيطرتها على أحوالها وأسواقها، ومعيشتها، وتتشردُ في أركان الأرض بحثاً عن لقمة العيش، حاملة معبوداتها وكتبها الدينية في أرجاء المعمورة، قد تغرق في قوارب أو تتلاشى في مجازر، وتنتفض الأريافُ بحروبٍ طاحنة مخربة لنفسها قبل الآخرين، وتلجأ للقرصنة وحروب العصابات لتأكيد عيشها الذائب في العولمة الرأسمالية الحديثة.
في حين إن كل أدوات الحداثة والعقلانية لم تستطع أن تضع حداً لفوضى الوجود السياسي الراهن، مع ازدهار الأنانيات الطبقية في كل مكان.
يعود الكثيرون للخرافات، ويغدو بند مطاردة السحرة في كل اجتماعات وزارات الدول العربية والإسلامية المخصصة لتنمية العقلانية وبشكلٍ مستمر، دون إلقاء القبض على الفقر والبطالة والجوع والتشرد والهجرة.
ورغم نشر بعض التقنيات في المدارس فإن الطلبة يعودون لصفحات التنجيم وقراءة حظوظهم في الجرائد، بسبب أن الخطط الحكومية لتشغيلهم غير مضمونة.
في هذا الجو العالمي تنتعش زيارات البابا وتحصل المنظمات الدينية على مساحات عمل تخصصها في زيادة نشر اللاعقلانية، وتهاجم الحداثة والعلمانية والديمقراطية سبب مصائب العالم في رأيها، وفي هذا الجو الخرافي الدموي، يبرر مثقفون المجازر بدعوى المقاومة، ويؤججون تصادم الأديان والشعوب، ويعودون لاستحضار السحر والشعوذة وإدراجها في الحياة اليومية.
لا عجب في مثل هذا الجو أن يستعين حملة رسائل الدكتواره بأرواح أسلافهم عبر القبور ويستنجدون بملاحظاتهم الهامة، وتظهر دراساتٌ عن أهمية البصل في أشعار الأمويين، وعن مدى الملوحة في مياه البحار، وتكثر الخطب عن التنوير في قرى ومجمعات قـُطعت عنها الكهرباء، وتلتهم الأغاني تسعين بالمائة من بث الفضائيات العربية، ويظهر قادة السحر في السماء وهم يرشدون الشعوب لكيفية محاربة الأمراض ودحر التخلف وهزيمة الصهيونية.


