فلتدعي يا أم داوود !!!
فلتدعي يا أم داوود !!!
"من كتاب : نادماً خرج القط لـ أحمد صبري غباشي"
تمت كتابتها في يوم : الخميس - 23 ديسمبر 2004
يسير الفتى منكساً رأسه، حاملاً همه، وقد بهت وجهه بألوان الحزن، وعلى الرغم من ذلك فلم يفلح حزنه في قتل خبث نظرته ولؤم عينيه.. يمضي في الطريق ملتاعاً، ساخطاً..
سار إلى أن وصل لأبيه وأمه.. أبوه الذي أبصره على هذا الحال فأقبل عليه هلعاً.. وسأله: " ما بك يا (داوود)؟!!"
سالت دموع الفتى من عينيه، وابتدأ سرد شكواه قائلاً:
" لم يعد بإمكاني الاحتمال يا أبت.. فظيعٌ هذا الذي ألقاه!..
أقراني أولاد الجيران.. (مرسي)، و (حسين)، و (حمدان).. مخلوقات رهيبة يا أبت.. أصابوني بالإحباط.. زرعوا بداخلي محاصيل اليأس التي لم أعرفها يوماً.. غدوتُ أمام نفسي: (لا شيء).. تبخرت ثقتي بقدراتي وذهبت أدراج الرياح.. تصور يا أبت!!.. أنا الذي لم يُخلق بعد من هو في مثل خبثي وشرى.. أنا.. فشلتُ في تحقيق مرادي معهم.. تصور!!
كانوا أول من حرمني لذة النجاح.. صرتُ مغتماً على الدوام.. أصبحتُ أهيم على وجهي في الطرقات.. غدوتُ أحادث نفسي أحياناً كثيرة بسببهم.. أفقدوني عقلي..
إن وجود أشخاص كهؤلاء محالٌ حدوثه يا أبت.. صدقني.. سأحكى لك ولتحكم بنفسك..
فكرتُ طويلاً في طريقة تجعلني محبوباً عندهم. أكسب بها ودهم وأصير لديهم مقرباً.. ووجدت تلك الطريقة بعد عناء، ثم عزمت على تنفيذها..
وذات صباح انفردتُ بـ (مرسي).. أقبلتُ عليه هاشاً باشاً لاصقاً على وجهي ابتسامة متوددة - تلك التي علمتنيها يا أبت؛ تعرفها بالتأكيد -.. فبادلني الابتسام.. تيقّظ عقلي واستعددتُ لأن أصب حديثي في أذنيه حتى أخدره وأكسب وده..
وما إن فتحتُ فمي لأهم بالتحدث حتى وجدته يتحدث إلىّ في مرحٍ وبغير تكلف، وينبئني بأنه سعيد بمعرفة شخص ذكي محترم مثلي، وأنه يراقبني منذ فترة وقد لفتت شخصيتي انتباهه، ويود لو نتناسى تلك العداوة بيننا وبين أسرته، ويأمل أن تعود علاقتي معه طبيعية، وأنه سيسعد بهذا التطبيع جداً..
دمعت عيناي غيظاً حينها يا أبت.. لقد أضاع الأحمق مجهودي وطول تفكيري في غمضة عين.. لم يشعرني بنجاحي الذي أتوق له.
وذات مرة قضيتُ إحدى لياليّ ساهراً أخطط وأدبر وقيعة بين (مرسي) و (حسين).. أرسم الخطط، وأنهك عقلي مفكراً، وأعصر مخي كي آتي بنتيجةٍ مرضية.. وأخيراً وصلتُ، واعتزمتُ التنفيذ..
وأتيتُ (صديقي) (حسين).. - فلقد نلتُ صداقة ثلاثتهم بالطبع - متظاهراً بالحزن والأسى والتذمر لأجله.. وبالطبع أعددت العدة وجهزت الحجج والدلائل اللازمة لنجاح الوقيعة..
وقبل أن أفتح فمي بادرني هو بالحديث الغاضب - وكان يبدو أنه يشكو لي -.. أخذ يرغى ويزبد، وملأ وجهي بالرذاذ الذي تطاير من فمه، وبين الحين والحين ينهال بالسباب على (مرسي)، يذكر مساوئه لي، ويطلعني على أسراره، ويستعرض - (حسين) - أفضاله على ذلك الذي لا أم له - (مرسي) -..
حينها وددتُ لو أفرغ مدفعي الصغير - ذلك الذي أحضرتُه لي يوم عيد ميلادي - في رأسه.. يا له من خنزير!.. ها هو فشلي يعانقني للمرة الثانية..
اللعنة!.. إن هذا لموجع يا أبت! ، موجع للغاية.
وتبقّى لي الأمل الأخير في (حمدان).. ذلك الذي يهوى تربية الكتاكيت.. كتاكيته التي تناديني كي آخذها وأضمها لحجرتي.. لا أخفى طمعي وجشعي ورغبتي المُلحّة في الاستيلاء عليها.. وكعادتي، أرّقني التفكير في كيفية إقناع (حمدان) بأن آخذها..
علىّ أن أقابل ثورته بأسباب تقنعه، علىّ أن أستعد لامتصاص غضبه.. تُرى هل سيوافق بسهولة ويسر؟!!..
وعلى هذا الحال قضيتُ ليلتي..
وفى الصباح أتيتُ (حمدانَ) باسم الثغر.. أخبرتُه برغبتي وتحفزت خلايا مخي للمعركة الكلامية.. فإذا به يخبرني أنها هدية منه إليّ، سيسعده أن أقبلها.. يا للشيطان!.. عندها لم أستطع التحمل وكظم غيظي يا أبت.. صفعتُه على وجهه وكدتُ أبصق عليه من فرط السخط..
أخذَته المفاجأة لبرهة وما لبث أن لانت ملامحه، وأخبرني كم أنا مهزار خفيف الظل، وأخطرني بأنه قد قبل مزاحي، وأن صفعتي لم تكن ثقيلة عليه قط، غير أنه كان يفضلها على قفاه مما سيوطد العلاقة بيننا، ومما سيضفى ظرفاً أكثر..
عندها كدتُ أخرّ صريعاً بصدق.. أقسم على هذا.
أدركني يا أبت، أنا منهار، لم أعهد في نفسي تلك الخيبة من قبل.. أبتاه أغثني أرجوك."
نحت الأسى ملامحه على صخرة وجه الأب.. صوّب بصره شطر ولده في إشفاق وقال: " (داوود) صغيري.. فلتهدأ..
لكن.. . أتعلم؟.. يا لفاجعتك وعذابك حقاً!.. يا لك من تعس!.. لقد كُتب عليك الذل بملاقاة أناس كهؤلاء.. ليس أشق على المرء من أن يكون عدوه غبياً ساذجاً أبلهاً أجوفاً أخرق؛ فهذا يحرمه لذة النصر عليه.. يا للشر الذي أحاق بك يا بنى.. إنهم متساهلون معك بدرجة غير محتملة فعلاً..
هل بلغ الحمق هذه الدرجة؟!!.. تظل ترسم، وتخطط، وتدبر، وتجهز، وتفكر كي تنال مرادك، وبعد هذا الجهد تجد عدوك الأرعن الأحمق يقدم لك ما تريد بكل سهولة وعلى شفتيه ابتسامة بلهاء!!.. إن هذا لمؤلم!.. إن هذا ليدفع للانتحار.. لم يُذكر في تاريخ عائلتنا بأسره أن لاقت خصماً بمثل هذا البله!.. ألا من عدوٍ حاذق؟!!.. ألا من عدوٍ يستحق التخطيط والتدبير؟!!.. يا لسوء حظك يا (داوود).. يا لسوء حظك يا بنى! "
سكت الأب قبل أن يطرق برأسه..
لم تستطع أم الصبي الصمت على هذا.. للسماء رفعت ذراعيها وصاحت تدعو الله:
" اللهم ردّ أعداء (داوود) إلى صوابهم، وقوِّهم، واجعلهم متحدين ثابتين..
اللهم اجعلهم رجلاً واحداً يقف في وجه (داوود)، وأصلح أحوالهم لكي يستعيدوا توازنهم ويصبحوا خصوماً أقوياء جديرين به.. حتى يهنأ (داوود) بنصره عليهم..
اللهم استجب دعاء أم (داوود)."
* * *
أحمد صبري غباشي
"من كتاب : نادماً خرج القط لـ أحمد صبري غباشي"
تمت كتابتها في يوم : الخميس - 23 ديسمبر 2004
يسير الفتى منكساً رأسه، حاملاً همه، وقد بهت وجهه بألوان الحزن، وعلى الرغم من ذلك فلم يفلح حزنه في قتل خبث نظرته ولؤم عينيه.. يمضي في الطريق ملتاعاً، ساخطاً..
سار إلى أن وصل لأبيه وأمه.. أبوه الذي أبصره على هذا الحال فأقبل عليه هلعاً.. وسأله: " ما بك يا (داوود)؟!!"
سالت دموع الفتى من عينيه، وابتدأ سرد شكواه قائلاً:
" لم يعد بإمكاني الاحتمال يا أبت.. فظيعٌ هذا الذي ألقاه!..
أقراني أولاد الجيران.. (مرسي)، و (حسين)، و (حمدان).. مخلوقات رهيبة يا أبت.. أصابوني بالإحباط.. زرعوا بداخلي محاصيل اليأس التي لم أعرفها يوماً.. غدوتُ أمام نفسي: (لا شيء).. تبخرت ثقتي بقدراتي وذهبت أدراج الرياح.. تصور يا أبت!!.. أنا الذي لم يُخلق بعد من هو في مثل خبثي وشرى.. أنا.. فشلتُ في تحقيق مرادي معهم.. تصور!!
كانوا أول من حرمني لذة النجاح.. صرتُ مغتماً على الدوام.. أصبحتُ أهيم على وجهي في الطرقات.. غدوتُ أحادث نفسي أحياناً كثيرة بسببهم.. أفقدوني عقلي..
إن وجود أشخاص كهؤلاء محالٌ حدوثه يا أبت.. صدقني.. سأحكى لك ولتحكم بنفسك..
فكرتُ طويلاً في طريقة تجعلني محبوباً عندهم. أكسب بها ودهم وأصير لديهم مقرباً.. ووجدت تلك الطريقة بعد عناء، ثم عزمت على تنفيذها..
وذات صباح انفردتُ بـ (مرسي).. أقبلتُ عليه هاشاً باشاً لاصقاً على وجهي ابتسامة متوددة - تلك التي علمتنيها يا أبت؛ تعرفها بالتأكيد -.. فبادلني الابتسام.. تيقّظ عقلي واستعددتُ لأن أصب حديثي في أذنيه حتى أخدره وأكسب وده..
وما إن فتحتُ فمي لأهم بالتحدث حتى وجدته يتحدث إلىّ في مرحٍ وبغير تكلف، وينبئني بأنه سعيد بمعرفة شخص ذكي محترم مثلي، وأنه يراقبني منذ فترة وقد لفتت شخصيتي انتباهه، ويود لو نتناسى تلك العداوة بيننا وبين أسرته، ويأمل أن تعود علاقتي معه طبيعية، وأنه سيسعد بهذا التطبيع جداً..
دمعت عيناي غيظاً حينها يا أبت.. لقد أضاع الأحمق مجهودي وطول تفكيري في غمضة عين.. لم يشعرني بنجاحي الذي أتوق له.
وذات مرة قضيتُ إحدى لياليّ ساهراً أخطط وأدبر وقيعة بين (مرسي) و (حسين).. أرسم الخطط، وأنهك عقلي مفكراً، وأعصر مخي كي آتي بنتيجةٍ مرضية.. وأخيراً وصلتُ، واعتزمتُ التنفيذ..
وأتيتُ (صديقي) (حسين).. - فلقد نلتُ صداقة ثلاثتهم بالطبع - متظاهراً بالحزن والأسى والتذمر لأجله.. وبالطبع أعددت العدة وجهزت الحجج والدلائل اللازمة لنجاح الوقيعة..
وقبل أن أفتح فمي بادرني هو بالحديث الغاضب - وكان يبدو أنه يشكو لي -.. أخذ يرغى ويزبد، وملأ وجهي بالرذاذ الذي تطاير من فمه، وبين الحين والحين ينهال بالسباب على (مرسي)، يذكر مساوئه لي، ويطلعني على أسراره، ويستعرض - (حسين) - أفضاله على ذلك الذي لا أم له - (مرسي) -..
حينها وددتُ لو أفرغ مدفعي الصغير - ذلك الذي أحضرتُه لي يوم عيد ميلادي - في رأسه.. يا له من خنزير!.. ها هو فشلي يعانقني للمرة الثانية..
اللعنة!.. إن هذا لموجع يا أبت! ، موجع للغاية.
وتبقّى لي الأمل الأخير في (حمدان).. ذلك الذي يهوى تربية الكتاكيت.. كتاكيته التي تناديني كي آخذها وأضمها لحجرتي.. لا أخفى طمعي وجشعي ورغبتي المُلحّة في الاستيلاء عليها.. وكعادتي، أرّقني التفكير في كيفية إقناع (حمدان) بأن آخذها..
علىّ أن أقابل ثورته بأسباب تقنعه، علىّ أن أستعد لامتصاص غضبه.. تُرى هل سيوافق بسهولة ويسر؟!!..
وعلى هذا الحال قضيتُ ليلتي..
وفى الصباح أتيتُ (حمدانَ) باسم الثغر.. أخبرتُه برغبتي وتحفزت خلايا مخي للمعركة الكلامية.. فإذا به يخبرني أنها هدية منه إليّ، سيسعده أن أقبلها.. يا للشيطان!.. عندها لم أستطع التحمل وكظم غيظي يا أبت.. صفعتُه على وجهه وكدتُ أبصق عليه من فرط السخط..
أخذَته المفاجأة لبرهة وما لبث أن لانت ملامحه، وأخبرني كم أنا مهزار خفيف الظل، وأخطرني بأنه قد قبل مزاحي، وأن صفعتي لم تكن ثقيلة عليه قط، غير أنه كان يفضلها على قفاه مما سيوطد العلاقة بيننا، ومما سيضفى ظرفاً أكثر..
عندها كدتُ أخرّ صريعاً بصدق.. أقسم على هذا.
أدركني يا أبت، أنا منهار، لم أعهد في نفسي تلك الخيبة من قبل.. أبتاه أغثني أرجوك."
نحت الأسى ملامحه على صخرة وجه الأب.. صوّب بصره شطر ولده في إشفاق وقال: " (داوود) صغيري.. فلتهدأ..
لكن.. . أتعلم؟.. يا لفاجعتك وعذابك حقاً!.. يا لك من تعس!.. لقد كُتب عليك الذل بملاقاة أناس كهؤلاء.. ليس أشق على المرء من أن يكون عدوه غبياً ساذجاً أبلهاً أجوفاً أخرق؛ فهذا يحرمه لذة النصر عليه.. يا للشر الذي أحاق بك يا بنى.. إنهم متساهلون معك بدرجة غير محتملة فعلاً..
هل بلغ الحمق هذه الدرجة؟!!.. تظل ترسم، وتخطط، وتدبر، وتجهز، وتفكر كي تنال مرادك، وبعد هذا الجهد تجد عدوك الأرعن الأحمق يقدم لك ما تريد بكل سهولة وعلى شفتيه ابتسامة بلهاء!!.. إن هذا لمؤلم!.. إن هذا ليدفع للانتحار.. لم يُذكر في تاريخ عائلتنا بأسره أن لاقت خصماً بمثل هذا البله!.. ألا من عدوٍ حاذق؟!!.. ألا من عدوٍ يستحق التخطيط والتدبير؟!!.. يا لسوء حظك يا (داوود).. يا لسوء حظك يا بنى! "
سكت الأب قبل أن يطرق برأسه..
لم تستطع أم الصبي الصمت على هذا.. للسماء رفعت ذراعيها وصاحت تدعو الله:
" اللهم ردّ أعداء (داوود) إلى صوابهم، وقوِّهم، واجعلهم متحدين ثابتين..
اللهم اجعلهم رجلاً واحداً يقف في وجه (داوود)، وأصلح أحوالهم لكي يستعيدوا توازنهم ويصبحوا خصوماً أقوياء جديرين به.. حتى يهنأ (داوود) بنصره عليهم..
اللهم استجب دعاء أم (داوود)."
* * *
أحمد صبري غباشي
No comments have been added yet.