عن ربيع جابر بمناسبة نيله جائزة البوكر
شخصياً، لم أقرأ إلا روايتين من الروايات المرشحة لجائزة البوكر: "دروز بلغراد" لربيع جابر و"شريد المنازل" لجبور الدويهي. كنتُ أميَل لتفضيل "شريد المنازل" لأن رؤيتي لما يكتب ربيع جابر تتعدى هذه الرواية إلى قراءة كل كتبه (فيما عدا روايته الأولى "سيد العتمة"). أرى "دروز بلغراد" تكراراً لرواياته التاريخية الأخيرة منذ الجزء الثاني ل "بيروت مدينة العالم"، وهي تكرار أيضاً في تقسيمها لروايتين: "الفراشة الزرقاء" (نشرها تحت اسم مستعار هو نور خاطر وابتدع سيرة ذاتية ملفقة للكاتب. الرواية من أجمل رواياته)، و"أميركا" (التي رشحت سابقاً للبوكر).
لكن وجه الشبه بين "أميركا" و"دروز بلغراد" يتعدى النوع (الرواية التاريخية) الى تشابه آخر في التكرار. الروايتان ترصدان "رحلة" لشخصية أساسية. في "أميركا" هي مرتا وفي "دروز بلغراد" هو حنا يعقوب. شخصية مرتا هي شخصية جاذبة أكثر من شخصية حنا يعقوب ربما لكونها امرأة عبرت المحيط بحثاً عن زوج اتضح انه خائن. جنس الشخصية هنا في استقبال القراء العرب لها فعل فعله. الروايتان يمكن اختصارهما بشكل كبير. تكرار حكايات الكشاشين في "اميركا" والسجون في "دروز بلغراد" ممل ولا يتم الاستفادة في حبكة الرواية. الرغبة في "التوثيق" هنا تطيح بالإيقاع. التكرار سمة أيضاً للجزئين الثاني والثالث من "بيروت مدينة العالم". الجزءان الأخيران حتى ينتهيان -على ما أذكر بنعيق الغربان نفسه، ما جعلني أستهجن في وقتها هذه النهاية المكررة في كتابين بعد مئات الصفحات، وهي نهاية لم تنحُ باتجاه نهايات الدوائر المقفلة أي أنها لم تكن "مبررة".
مشكلة التكرار والتضخم تتكرر في معظم روايات جابر، لكن الوصف "البصري" يخفف أحياناً من هذا الملل. يبدو جابر متابعاً حثيثاً للأفلام السينمائية. لكن الوصف يخونه أحياناً. في رواية "دروز بلغراد"، وصف النسوة الأوروبيات والطبيعة "استشراقي معاكس" نوعاً ما ومكرر، ولا يشفع له أنه يُرى بعيني حنا يعقوب. لا أظن أن هكذا شخصية من أصل معدم سيكون هكذا تلقيها للطبيعة والناس الأوروبيين، وهذا اللا فهم ربما مربوط لدي بوصف الأماكن التي لم يطأها ربيع جابر في رواياته الأخرى. هذا شيء من انكشاف الكاتب أمام قارئه وهو انكشاف يزداد مع دأب جابر الحثيث على النشر.
الرواية التاريخية المتضخمة بدأت مع جابر بروايات ثلاث: "رحلة الغرناطي"، و"يوسف الانجليزي"، و "الفراشة الزرقاء" (المذكورة أعلاه). أذكر عند قراءتهما أني لم أكن معجباً على الاطلاق ب"رحلة الغرناطي" وكرهت بشكل أقل "يوسف الانجليزي". وقتها استخدم جابر اسلوباً غريباً يعتمد على الفصول التي يمتد طولها... لنصف صفحة فقط، وبعضها كان وصفاً للطبيعة! وقتها لم أستطع استيعاب هذا الأسلوب لمثل هذا النوع من الروايات فضلاً أن الروايتين كانتا تعوزهما الحبكة المثيرة. "الفراشة الزرقاء" جاءت لتقلب هذا الشعور عندي، فبرغم اعتماده الفصول القصيرة، فإن عناوين الفصول كانت -على ما أذكر- الجمل الأولى من المقاطع أو تمهد لها. جعلها بشكل يربط بين المقطع السابق ويمهد للمقطع التالي. أنا المفتون بالتقطيع وتتالي المشهدية، كنت مبهوراً بتقطيع كهذا بدا كضفيرة جميلة خاصةً مع القفز بين الزمن الحالي وبداية القرن الماضي.
بعيداً عن الرويات المتضخمة، بدأ جابر نشره بروايات متوسطة وقصيرة الطول (بعضها يمكن وضعها تحت نوع النوفيلا أو الرواية القصيرة/القصة الطويلة.
لجابر روايتان غريبتان في هذا النوع وهما ليسا روايتين تاريخيتين بقدر ما هما أجنح للفانتازيا: "كنت أميراً" التي يستلهم فيها حكاية الأمير الضفدع مخلوطة باستعادة لحكايات يونانية (إذا ما أسعفتني الذاكرة)، و"نظرة أخيرة على كين ساي" ذات الشخصيات... الصينية!
عند قراءتي للروايتين، فضلت "نظرة..." على "كنت أميراً". كنت مفتوناً بهذا الخلط لعقدة أوديب بالسحر والخيال باستلهام التاريخ الصيني في رواية قصيرة. لكني أذكر أيضاً أني كنت معجباً بتقطيع الأجزاء في "كنت أميراً" وهذه التفاصيل التي تتضح عن الفصول السابقة كلما تقدمت في القراءة رغم أن "قصص" الفصول تحدث في أزمنة متباعدة.
ولجابر ايضاً محاولات (ليست ناجحة كثيرة) في وصل الواقع بالفانتازيا: "بيريتوس -مدينة تحت الأرض" عن شخص ينزل تحت بيروت ليجد عالماً آخر ويبقى هناك مريضاً معتنىً به حتى يعود الى العالم فوق. لكني الآن وأنا أستعيد هذه الرواية، أجد أنها كانت تمهيداً ل" بيروت مدينة العالم" ويالأخص في تفاصيل بيروت القديمة وأماكن وجودها.
الروايات الأجمل بالنسبة لي هي رواياته المعاصرة التي صدرت في منتصف التسعينيات وقبلها. وحدها "تقرير ميليس" لم تعجبني. كانت اقتناصاً لحدث آني، وبالرغم من نقلها بأمانة طريقة تصرف اللبنانيين في فترة ٢٠٠٥- ٢٠٠٦ عندما كانوا ينتظرون تقرير ميليس ويشيرون له كأنه طوق نجاتهم، لم تنجح في ترك أي إعجاب عندي. رغم ذلك، أثار الفصل الأخير الذي يستعيد الحرب الأهلية اهتمامي، عندما تمشي الشخصية على طريق الرينج ولا نعرف إن كانت ميتة أو حية ولا نعرف إن كانت تروي حكايتها من فوق أو أن صوتاً آخر يروي حكايتها. المزج هنا كان مثيراً خاصةً أن جابر لعب لعبته المفضلة بتحويل الفصل إلى مشهد بصري.
هذا الفصل تحديداً يتضخم في رواية أخرى هي رواية "الاعترافات" وهي رواية تتحدث عن المجتمع المسيخي بعيد حرب السنتين ربطاً بالحاضر وتتحدث عن هوية الفرد الضائعة. الرواية مذهلة بحق وهي كانت فلتة شوط بين جزئين لبيروت مدينة العالم.٠، ولعل هذه الرواية بالزمن والمجتمع والمكان اللذين تطرقت اليه تضخمت بدورها في روايتها الأخيرة "طيور الهوليداي إن". نحن في الأشرفية من جديد بعيد حرب السنتين، و مع عائلات تنتمي للمجتمعات المصغرة نفسها المتحدث عنها في "الاعترافات". وحدها اللغة هجرها ربيع. منذ "الاعترافات" (وهي رواية تستحق أن تصنع فيلماً) هجر ربيع اللغة تماماً لصالح التاريخ. في العترافات، ساعد صوت الأنا على اعتماد هكذا صياغات لغوية ربما، بعكس الروايات التاريخية. لا أدري. لكني أجدني غير مرتاح لهكذا نمط لغة أقرب للعامية المهذّبة (من دون أن تكون عامّيّة) في روايات تاريخية. وهذا عدم ارتياح يتخطى جابر لكثير من الروايات اللبنانية التي تجهد في الهروب من العامية في الحوارات مثلاً. (بالمناسبة: الحوار مأساة الرواية اللبنانية)
بالعودة إلى رواياته التسعيناتية" المعاصرة، مثير أن تجد ربيع جابر يلعب باللغة . ومثير أكثر أن يكون ربيع جابر الذي انتهى مركزاً في التوثيق والتأريخ والوصف جرّب في أكثر من رواية النمط "الذهني" أو "النفسي". روايته الثانية "شاي أسود" (١٩٩٥) مثال بديع عن سرد يحدث داخل رأس الانسان مع لعب على أوتار السخرية والحوارات الغريبة والصور الخيالية الأغرب بكل ما يجره ذلك من لعب على العبارات واللغة. الرواية تأريخ حقيقي -من دون التوثيق الذي نهجه لاحقاً في الهوليداي ان- لحقبة ما بعد الحرب اللبنانية، لمرحلة السلم المفاجئ، وبها إشارات لا تخلو من سخرية من الواقع السياسي المفروض (يستخدم جابر عبارة "تلازم مسار ومصير" وهو ينظر إلى ذبابة غارقة في عفن الأطباق المرمية في المجلى). الرواية ايضاً عن المكان. الحمراء تحديداً. حمراء التسعينيات. هذه الحمرا لن تجدهل عندما تزورها اليوم، والرواية ايضاً تحية لثقافة جيل حرب عاش على قصص سوبرمان والوطواط. رواية بديعة وقصيرة ولا تتوقف من الصفحة الأولى حتى الأخيرة.
الروياتان المعاصرتان اللتان نشرهما جابر في ١٩٩٦، "رالف رزق الله في المرآة"، و"البيت الأخير" يتشابهان حد الإذهال في استخدامهما شخصيتين حقيقيتين ذريعةً لكتابة رواية. في رالف الشخصية هي الدكتور الجامعي رالف رزق الله الذي وقف قبالة صخرة الروشة وانتحر. في البيت الاخير، الشخصية هي المخرج المعروف مارون بغدادي. الروايتان تتشابهان بالخاتمة نفسها: تقرير شرعي يورد أسباب الوفاة. هذاىالتفصيل يتكرر في "طيور الهوليداي إن" وان لم يأت كخاتمة. نشر جابر لروايتين متشابهتين لهذا الحد في عام واحد يشير أنه لا يهتم فعلاً بهذه التفاصيل. هذا كاتب يكتب وينشر ويراكم ويعيد. يبقى أن لا يعلق في هذه الدائرة المفرغة التي بدأت منذ بيروت مدينة العالم ولما تنتهي بعد. وعليه يبقى أن أتمنى أن يعود جابر لرواياته النفسية المعاصرة سالماً بعد أكثر من عشر سنين على هجره لهذا النمط (إذا ما تخطينا "الاعترافات").
فيما يخص روايته الأولى سيد العتمة، لم أقرأها بعد لكني لاحظت بتصفحها أن جمله قد تمتد لصفحات من دون أن تنتهي!. وقعت مثلاً على جملة ترد فيها صفات متتالية لأكثر من خمسة أسطر ولم يشجعني ذلك وقتها على قراءتها خاصةً أني كنت خارجاً من تجربة بيروت مدينة العالم بأجزائها الثلاثة.
دأب جابر يستحق الحقد فعلاً من كل من ينشغل عن رواياته بتفاصيل الأيام. تبقى الأولويات: دأب مع تكرار، أم أن تُقل وتضيف الجديد (على الأقل بالنسبة لإصدارات الكاتب نفسه السابقة)؟
لكن وجه الشبه بين "أميركا" و"دروز بلغراد" يتعدى النوع (الرواية التاريخية) الى تشابه آخر في التكرار. الروايتان ترصدان "رحلة" لشخصية أساسية. في "أميركا" هي مرتا وفي "دروز بلغراد" هو حنا يعقوب. شخصية مرتا هي شخصية جاذبة أكثر من شخصية حنا يعقوب ربما لكونها امرأة عبرت المحيط بحثاً عن زوج اتضح انه خائن. جنس الشخصية هنا في استقبال القراء العرب لها فعل فعله. الروايتان يمكن اختصارهما بشكل كبير. تكرار حكايات الكشاشين في "اميركا" والسجون في "دروز بلغراد" ممل ولا يتم الاستفادة في حبكة الرواية. الرغبة في "التوثيق" هنا تطيح بالإيقاع. التكرار سمة أيضاً للجزئين الثاني والثالث من "بيروت مدينة العالم". الجزءان الأخيران حتى ينتهيان -على ما أذكر بنعيق الغربان نفسه، ما جعلني أستهجن في وقتها هذه النهاية المكررة في كتابين بعد مئات الصفحات، وهي نهاية لم تنحُ باتجاه نهايات الدوائر المقفلة أي أنها لم تكن "مبررة".
مشكلة التكرار والتضخم تتكرر في معظم روايات جابر، لكن الوصف "البصري" يخفف أحياناً من هذا الملل. يبدو جابر متابعاً حثيثاً للأفلام السينمائية. لكن الوصف يخونه أحياناً. في رواية "دروز بلغراد"، وصف النسوة الأوروبيات والطبيعة "استشراقي معاكس" نوعاً ما ومكرر، ولا يشفع له أنه يُرى بعيني حنا يعقوب. لا أظن أن هكذا شخصية من أصل معدم سيكون هكذا تلقيها للطبيعة والناس الأوروبيين، وهذا اللا فهم ربما مربوط لدي بوصف الأماكن التي لم يطأها ربيع جابر في رواياته الأخرى. هذا شيء من انكشاف الكاتب أمام قارئه وهو انكشاف يزداد مع دأب جابر الحثيث على النشر.
الرواية التاريخية المتضخمة بدأت مع جابر بروايات ثلاث: "رحلة الغرناطي"، و"يوسف الانجليزي"، و "الفراشة الزرقاء" (المذكورة أعلاه). أذكر عند قراءتهما أني لم أكن معجباً على الاطلاق ب"رحلة الغرناطي" وكرهت بشكل أقل "يوسف الانجليزي". وقتها استخدم جابر اسلوباً غريباً يعتمد على الفصول التي يمتد طولها... لنصف صفحة فقط، وبعضها كان وصفاً للطبيعة! وقتها لم أستطع استيعاب هذا الأسلوب لمثل هذا النوع من الروايات فضلاً أن الروايتين كانتا تعوزهما الحبكة المثيرة. "الفراشة الزرقاء" جاءت لتقلب هذا الشعور عندي، فبرغم اعتماده الفصول القصيرة، فإن عناوين الفصول كانت -على ما أذكر- الجمل الأولى من المقاطع أو تمهد لها. جعلها بشكل يربط بين المقطع السابق ويمهد للمقطع التالي. أنا المفتون بالتقطيع وتتالي المشهدية، كنت مبهوراً بتقطيع كهذا بدا كضفيرة جميلة خاصةً مع القفز بين الزمن الحالي وبداية القرن الماضي.
بعيداً عن الرويات المتضخمة، بدأ جابر نشره بروايات متوسطة وقصيرة الطول (بعضها يمكن وضعها تحت نوع النوفيلا أو الرواية القصيرة/القصة الطويلة.
لجابر روايتان غريبتان في هذا النوع وهما ليسا روايتين تاريخيتين بقدر ما هما أجنح للفانتازيا: "كنت أميراً" التي يستلهم فيها حكاية الأمير الضفدع مخلوطة باستعادة لحكايات يونانية (إذا ما أسعفتني الذاكرة)، و"نظرة أخيرة على كين ساي" ذات الشخصيات... الصينية!
عند قراءتي للروايتين، فضلت "نظرة..." على "كنت أميراً". كنت مفتوناً بهذا الخلط لعقدة أوديب بالسحر والخيال باستلهام التاريخ الصيني في رواية قصيرة. لكني أذكر أيضاً أني كنت معجباً بتقطيع الأجزاء في "كنت أميراً" وهذه التفاصيل التي تتضح عن الفصول السابقة كلما تقدمت في القراءة رغم أن "قصص" الفصول تحدث في أزمنة متباعدة.
ولجابر ايضاً محاولات (ليست ناجحة كثيرة) في وصل الواقع بالفانتازيا: "بيريتوس -مدينة تحت الأرض" عن شخص ينزل تحت بيروت ليجد عالماً آخر ويبقى هناك مريضاً معتنىً به حتى يعود الى العالم فوق. لكني الآن وأنا أستعيد هذه الرواية، أجد أنها كانت تمهيداً ل" بيروت مدينة العالم" ويالأخص في تفاصيل بيروت القديمة وأماكن وجودها.
الروايات الأجمل بالنسبة لي هي رواياته المعاصرة التي صدرت في منتصف التسعينيات وقبلها. وحدها "تقرير ميليس" لم تعجبني. كانت اقتناصاً لحدث آني، وبالرغم من نقلها بأمانة طريقة تصرف اللبنانيين في فترة ٢٠٠٥- ٢٠٠٦ عندما كانوا ينتظرون تقرير ميليس ويشيرون له كأنه طوق نجاتهم، لم تنجح في ترك أي إعجاب عندي. رغم ذلك، أثار الفصل الأخير الذي يستعيد الحرب الأهلية اهتمامي، عندما تمشي الشخصية على طريق الرينج ولا نعرف إن كانت ميتة أو حية ولا نعرف إن كانت تروي حكايتها من فوق أو أن صوتاً آخر يروي حكايتها. المزج هنا كان مثيراً خاصةً أن جابر لعب لعبته المفضلة بتحويل الفصل إلى مشهد بصري.
هذا الفصل تحديداً يتضخم في رواية أخرى هي رواية "الاعترافات" وهي رواية تتحدث عن المجتمع المسيخي بعيد حرب السنتين ربطاً بالحاضر وتتحدث عن هوية الفرد الضائعة. الرواية مذهلة بحق وهي كانت فلتة شوط بين جزئين لبيروت مدينة العالم.٠، ولعل هذه الرواية بالزمن والمجتمع والمكان اللذين تطرقت اليه تضخمت بدورها في روايتها الأخيرة "طيور الهوليداي إن". نحن في الأشرفية من جديد بعيد حرب السنتين، و مع عائلات تنتمي للمجتمعات المصغرة نفسها المتحدث عنها في "الاعترافات". وحدها اللغة هجرها ربيع. منذ "الاعترافات" (وهي رواية تستحق أن تصنع فيلماً) هجر ربيع اللغة تماماً لصالح التاريخ. في العترافات، ساعد صوت الأنا على اعتماد هكذا صياغات لغوية ربما، بعكس الروايات التاريخية. لا أدري. لكني أجدني غير مرتاح لهكذا نمط لغة أقرب للعامية المهذّبة (من دون أن تكون عامّيّة) في روايات تاريخية. وهذا عدم ارتياح يتخطى جابر لكثير من الروايات اللبنانية التي تجهد في الهروب من العامية في الحوارات مثلاً. (بالمناسبة: الحوار مأساة الرواية اللبنانية)
بالعودة إلى رواياته التسعيناتية" المعاصرة، مثير أن تجد ربيع جابر يلعب باللغة . ومثير أكثر أن يكون ربيع جابر الذي انتهى مركزاً في التوثيق والتأريخ والوصف جرّب في أكثر من رواية النمط "الذهني" أو "النفسي". روايته الثانية "شاي أسود" (١٩٩٥) مثال بديع عن سرد يحدث داخل رأس الانسان مع لعب على أوتار السخرية والحوارات الغريبة والصور الخيالية الأغرب بكل ما يجره ذلك من لعب على العبارات واللغة. الرواية تأريخ حقيقي -من دون التوثيق الذي نهجه لاحقاً في الهوليداي ان- لحقبة ما بعد الحرب اللبنانية، لمرحلة السلم المفاجئ، وبها إشارات لا تخلو من سخرية من الواقع السياسي المفروض (يستخدم جابر عبارة "تلازم مسار ومصير" وهو ينظر إلى ذبابة غارقة في عفن الأطباق المرمية في المجلى). الرواية ايضاً عن المكان. الحمراء تحديداً. حمراء التسعينيات. هذه الحمرا لن تجدهل عندما تزورها اليوم، والرواية ايضاً تحية لثقافة جيل حرب عاش على قصص سوبرمان والوطواط. رواية بديعة وقصيرة ولا تتوقف من الصفحة الأولى حتى الأخيرة.
الروياتان المعاصرتان اللتان نشرهما جابر في ١٩٩٦، "رالف رزق الله في المرآة"، و"البيت الأخير" يتشابهان حد الإذهال في استخدامهما شخصيتين حقيقيتين ذريعةً لكتابة رواية. في رالف الشخصية هي الدكتور الجامعي رالف رزق الله الذي وقف قبالة صخرة الروشة وانتحر. في البيت الاخير، الشخصية هي المخرج المعروف مارون بغدادي. الروايتان تتشابهان بالخاتمة نفسها: تقرير شرعي يورد أسباب الوفاة. هذاىالتفصيل يتكرر في "طيور الهوليداي إن" وان لم يأت كخاتمة. نشر جابر لروايتين متشابهتين لهذا الحد في عام واحد يشير أنه لا يهتم فعلاً بهذه التفاصيل. هذا كاتب يكتب وينشر ويراكم ويعيد. يبقى أن لا يعلق في هذه الدائرة المفرغة التي بدأت منذ بيروت مدينة العالم ولما تنتهي بعد. وعليه يبقى أن أتمنى أن يعود جابر لرواياته النفسية المعاصرة سالماً بعد أكثر من عشر سنين على هجره لهذا النمط (إذا ما تخطينا "الاعترافات").
فيما يخص روايته الأولى سيد العتمة، لم أقرأها بعد لكني لاحظت بتصفحها أن جمله قد تمتد لصفحات من دون أن تنتهي!. وقعت مثلاً على جملة ترد فيها صفات متتالية لأكثر من خمسة أسطر ولم يشجعني ذلك وقتها على قراءتها خاصةً أني كنت خارجاً من تجربة بيروت مدينة العالم بأجزائها الثلاثة.
دأب جابر يستحق الحقد فعلاً من كل من ينشغل عن رواياته بتفاصيل الأيام. تبقى الأولويات: دأب مع تكرار، أم أن تُقل وتضيف الجديد (على الأقل بالنسبة لإصدارات الكاتب نفسه السابقة)؟
Published on March 27, 2012 15:55
•
Tags:
rabie-jaber, ربيع-جابر
date
newest »
newest »
message 1:
by
Islam
(new)
Mar 27, 2012 08:52PM
الله عليك :)
reply
|
flag



