مراجعة كتاب أبي الذي أكره

أبي الذي أكره أبي الذي أكره by عماد رشاد عثمان

My rating: 4 of 5 stars


... بقدر كل ذلك الحب الذي أشعر به تجاه الأطفال، وتلك الابتسامة الدافئة التي تحتضنني حين رؤيتهم، وبقدر تلك الحركات البلهاء والحالة الجنونية، بقدر كل هذا يكون الخوف، والغريب في الأمر أن ذلك الخوف كنت أشعر به وأنا لا أزال صبيا لا يدرك معنى المسؤولية تجاه هؤلاء الأطفال، وكأن تلك المسؤولية شيء فطري ينقذف في قلوبنا كما تنقذف تلك السعادة، وهنا لا يمكنني تصور تلك اللا مبالاة في تعامل الناس، بل الأسوأ تعامل الآباء مع أطفالهم، وكأن مجال رؤيتهم به عطب ما.
... وهنا يتولد لدي شعور آخر عند رؤية طفل ما، شعور بالانزعاج تجاه ذلك الأب وتلك الأم اللذين لا أعرفهما، بل ربما لم أرهما حتى، عندما أرى طفل في حالة يزرى لها لا يكون مقدار استيائي له وشعوري بالعطف نحوه بقدر شعوري بالانزعاج من أولئك الذين أعطوا حرية لا يستحقونها، فخيلت لهم حق إنجاب أطفال ثم إطلاقهم هكذا دون مسؤولية، بل دون وعي.
... وبالعودة هنا إلى الكتاب محل المراجعة "أبي الذي أكره" والذي يرى البعض أن العنوان مبالغ فيه، أو هو دعائي أكثر من كونه حقيقي ومرتبط بالكتاب والحياة، ولكن شعور الانزعاج والكره تجاه أب لا أعرفه لطفل لا أعرفه، لا يمكن إنكاره عند ذلك الطفل نفسه، والمقولات الإنشائية من أمثلة " لا أب يكره ابنه" و "لا طفل يكره أباه" غير حقيقية، بل إن بعض الأبناء لا يبالون لوالديهم، وذاك أكبر بكثير من مجرد الكره، فالكره استمرار وجود علاقة.
... فالعنوان حقيقي ومرتبط بالمضمون وليس دعائيا فقط، والعنوان الثانوي _رغم أنني لا أحب العناوين الثانوية_ بدونه ربما حصل الكتاب على تقييم أقل، فالعنوان الرئيسي وفهرس الكتاب وكون الكاتب طبيب نفسي، يوصلون بسقف توقعاتنا إلى مستوى أكثر اتساعا، وأكثر منهجية علمية، ولكن العنوان الثانوي "تأملات حول التعافي من إساءات الأبوين وصدمات النشأة" يعيد توقعاتنا إلى مستواها الطبيعي.
... وبالحديث عن لغة الكتاب، فهي بسيطة بالقدر الذي يجعلها مفهومة لمن لا يستسيغ الفصحى، جيدة لمن يتلذذ بها، ولكن الأسلوب لم يكن سلسا، لا لمشكلة في الأسلوب نفسه، فأي فقرة أو صفحة من الكتاب تقرأها ستجدها مفهومة وسلسة، ولكن التعقيد البسيط الذي وجدته في بعض المواضع يعود لعدم الترتيب أو لأكون أكثر دقة عدم التبعية، ففي بعض المواضع في الكتاب احتجت أن أعيد القراءة أكثر من مرة لأدرك الترابط بين الفقرات وبالتالي أدرك ما الذي يريد قوله.
... وهناك نقطة أخرى في الأسلوب، ولكنني لم أستطع الجزم بسلبيتها أم لا، وهي التكرار، فالكتاب مكون من ثلاثمائة صفحة يمكن أن تكون مئتين فقط، ولكن التكرار هنا يقع تحت مفهوم الشرح، فهو يشبه تكرار شرح مسألة رياضية، التكرار فيها لا يشعر به إلا عندما يتحقق الفهم، ويكون ما بعد ذلك ملل وربما حتى هجر، وبالتالي فالتكرار هنا نسبي يختلف الشعور به من قارئ لآخر.
... يبدأ الكتاب بفصل اختار له الكاتب السجن عنوانا، قام الكاتب فيه بتجميع مجموعة من القصص يحكها أصحابها الحقيقيون حول تجاربهم مع إساءات الأبوين، وكأن الإساءة هنا سجن حقا، سجن ربما للعلاقة فهي لم تنم وتتطور كما كان لا بد لها، وسجن ربما للابن يعيقه عن التعبير والتعامل، لا مع أبويه فقط، بل مع الحياة بكل ما فيها من تعددية، وسجن ربما للأب نفسه بحيث يصير معزولا ويزداد ذلك العزل كلما كبر الابن وقلت احتياجاته له.
... يقول أحدهم: "يظن الآباء أنهم بصفعاتهم يؤهلوننا لعالم قاس لن يربت على ظهورنا، لا يدرون أن ربتاتهم الغائبة هي ما كانت ستؤهلنا لقسوته، وأن صفعاتهم لم تصنع فينا سوى أن منحت الخوف وطنا داخل نفوسنا! .... كنت خائفا على الدوام، فردات أفعاله لم تكن متوقعة قط، كان يغضب لأقل الأشياء .... لم يزل حتى اللحظة يفزعني اتصاله الهاتفي؛ ظهور رقمه على هاتفي يمنحني رعدة خوف .... كان يظن أنه ينشئ رجلا ويقوي ظهره ويمنح جلدي خشونة لازمة، ولم يمنحني سوى قشرة رجولة ظاهرية ...." ص16، المشكلة الأكثر انتشارا، والحقيقة أنها لا تحتاج لإيضاح، والحقيقة أن ذلك الأب نفسه لا يزال يعاني من أثار تلك القسوة، ولا يجد المرء تعليلا لها ولا لتكررها في الأجيال المتلاحقة غير ذلك التعليل الذي ذكره الكاتب، وهو أن تلك القسوة التي عانينا منها للأسف صارت هي لغتنا في الحياة والعلاقات، فنحن لم نفهم أو نجرب غيرها، صارت ردات فعل تلقائية تجاه أي مؤثر من تلك المؤثرات التي كنا نحدثها فتنصب علينا.
... وزنزانة أخرى من تلك الزنزانات بالفصل الأول تتحدث عن غياب الأب، وفي الواقع نرى الناس تتحدث عن الهجرة والاغتراب بسلاسة غريبة وكأن ليس لها أية تبعات، وإذا تحدث أحدهم عن تلك التبعات لم يذكر إلا التي تخصه فقط، وبالمثل الحديث عن الطلاق، وإن كنا نسمع عبارات هنا عن الأبناء، ولكنها في الغالب تكون التفاف ماكر لإثناء أحد الطرفين عن رغبته، وكل هؤلاء لا يدركون حقا معنى غياب أحد الأبوين، أين سيرى الابن أو الابنة صورة الرجل والمرأة أول ما يريا إلا في البيت، إن غياب أحد الأبوين يشبه تماما معادلة اختفى منها فجأة أحد معطياتها، ثم نطالب بأن نجد لها حلا، إن وجود الأبوين مماثل لوجود الحواس، كلاهما مهم للإدراك ومن ثم التكوين، وبالتالي غياب ولو جزء بسيط منها لن يصل أبدا إلى تكوين سليم تام.
... وزنزانة أخرى يتحدث عنها الكاتب، وهي التحرش، ولا يتحدث الكاتب هنا عن التحرش بصفة عامة، بل عن التحرش من الأهل، وكيف أن الضحية تقع في حيرة بين ما ينبغي أن يكون عليه الأهل والحب الذي يفترض أنهم مصدره، وبين تلك الإساءة، وحيرة بين الحضن الآمن الذي تلقي فيه همومها، والخوف من ذلك الحضن نفسه، وتؤول بها تلك الحيرة إلى اضطراب في المفاهيم، فربما شعرت أن العيب بها وأنها هي الرجس نفسه، ولا يمكن أن نتصور إنسان يسير في الحياة مصحوبا بذلك التصور، وأحيانا تؤول به تلك الحيرة إلى العبثية، ومعهم كل الحق في ذلك، فأي شيء قد يكون أكثر عبثية من التحرش من الأهل، ويتسع شعورهم ذلك بالعبثية ليشمل الحياة بأسرها، بل وما وراء الحياة، فالإيمان عندهم عبث، والعلاقة بينهم وبين الله عبث.
... ينتقل الكاتب بعد ذلك في الفصل الثاني ليتحدث عن آثار تلك الإساءات في التكوين، فمثلا الذي نشأ في بيئة تطلب منه دائما الأفضل، بل ما فوق الأفضل، فلم ينجح فقط بينما قريب منه حصل كذا وكذا، ومن نشأ في بيئة الحب فيها مشروط من أمثلة "لو عملت كذا سأحبك ..."، أو من نشأ في بيئة لا تثق في قدراته، فهو لن يقدر .... لن يعرف ..... لن .... ولن....، كل هؤلاء لا تقف عندهم الإساءة إلى ذلك الحد، بل تصير طبيعة حياة وطريقة يعالجون بها كل ما يعتريهم، فتلك الإساءات تحولهم إلى باحثين عن الكمالية غير الموجودة، فيرهقهم شدة التفكير في أبسط الأمور، ويعيقهم التردد ويبطأهم، ويصل ببعضهم الأمر إلى ما يسمى بالوسواس القهري.
... ومثال آخر عن الناشئ في بيئة متدينة، ولكن قاسية، ثم تبرير تلك القسوة بالحب، فيختلط هنا عند ذلك الابن الحب والقسوة والدين، فإما أن يصير الحب والدين عنده قسوة، ويصبح ذلك هو المفهوم الذي يتعامل به مع الدين ومع من حوله، وهنا لا نستغرب أن يصير متشددا أو حتى إرهابيا، فهذا التشدد وذلك الإرهاب ما هما إلا حب تجاه تلك الفئة الضعيفة التي لا تفقه شيئا والذي كان هو في يوم ما واحد منها.
... أو يأخذ مسارا مخالفا تماما، مسارا يتجاهل الحب ولا يدرك سوى القسوة، فيكره ذلك الأب الذي يقسو عليه، وعندما كان الأب يقسو عليه باسم الدين أو بوازع ديني، يكره الابن ذلك الدين أيضا، فالله الذي يقسو عليه لا يحبه، ولذلك هو لا يؤمن به، يقول أحدهم: "كنت أتعمد أن أعرف عمن يصمهم بوصمات (الضال المضل)، ومن يكتب عنهم تحذير من ضلالات (فلان)، ومن يشنع بهم على المنبر ويصفهم بالمبتدعة والزنادقة والمارقين، فأدلف إلى عالمي السري لأتابع حكاياهم، وخروجهم عن المألوف. لقد كانوا يمثلون لي الخروج عن سطوة أبي، فصاروا جميعا أبطالي!" ص27.
... وأثر آخر من آثار الإساءات في التكوين، والحق أن الإساءة هنا من نوع مختلف، وهي من الإساءات غير المباشرة، وهي إساءة الأب المثالي، نعم فالمثالية الزائدة عن الحد هي إساءة، يقول الكاتب: "ولما كان الأطفال يستمدون ضميرهم الأخلاقي من النموذج الأبوي (افعل ولا تفعل) و(ذلك عيب) و(هذا حرام) مقابل (تلك فضيلة وهذه أخلاق)، لذا فإن الضمير المستمد من شخصية مثالية ظاهريا يصبح ضميرا متضخما للغاية ومتورما بشدة وكأنه يحمل دستورا سرطاني النمو وينغرس داخل عقول الأبناء إنجيلا أبويا ممتلئا بالصفحات والوصايا. وبالتالي يحمل الفرد منا حينها ضجيجا ذهنيا مفرطا يلومنا تجاه كل فعل نقوم به .... ستصبح أنت أمام عقلك دوما متهما" ص67، وهنا تذكرت ثلاثية عم نجيب، وأثر المثالية المفرطة التي كان يظهرها السيد أحمد أمام أبنائه، وكيف كانت تلك المثالية تقلقهم، بل وتخيفهم من مجرد الحديث معه، كيف لأمينة وهي تسكن جوار الحسين ولم تزره أبدا، كيف تحول كمال من طفل يحكي لأمه يوميا عن دروس الدين، ويسير من أمام دكان أبيه مستعيذا منه بالمعوذتين، كيف تحول إلى ملحد عندما سقطت تلك الصورة المثالية لأبيه كما سقطت كل خرافة آمن بها، واتضحت له الصورة الأخرى التي حاول السيد أحمد جاهدا إخفاءها.
... كل هذه الإساءات وغيرها تكون بداخلنا شخصية وهمية غير شخصيتنا الحقيقية، نحتمي بها من إساءات المجتمع المستمرة ومن الزيف المنغرس فيه، بل إن ذلك المجتمع لا يهدأ له بال حتى تتحول تلك الشخصية الوهمية من مجرد قناع نحتمي به إلى شخصية وهمية دائمة، نستبدلها بشخصيتنا الحقيقية.
... ثم يركز الكاتب الحديث في الفصل الثالث على آثار الإساءات على العلاقات، فيقول مثلا: "الشاب صاحب جرح الإيذاء من الأم ربما يتحول إلى (دونجوان) تعددي لا تشبعه علاقة.. يبحث عن ثأره ويركز دوما على صورته لدى الأنثى.." ص103، وأعود إلى الثلاثية مرة أخرى وأتذكر ياسين، وكيف أن أمه لم تحوله فقط إلى دونجوان، بل إلى حيوان يريد أن يقيم علاقة مع كل أنثى تقع عيناه عليها حتى وإن كانت عجوز فوق الستين. "وصاحب جرح الغياب من الأب ربما يكون إرضائيا يخاف الرفض ويركز في علاقاته على الصداقات مع الذكور ويمنحها أهمية كبرى. والمرأة صاحبة جرح الإساءة من الأب تجدها أحيانا تبدو كتومة.. تبحث عن علاقة مثالية.. حذرة في التعاملات الذكورية.. رغم كون حياتها بشكل أو آخر تتمحور حول البحث عن العلاقة المثالية.." ص103.
... ويكمل ويقول إن الإساءات تركز بداخلنا شعور بالخزي والنقص، نحاول التغلب عليه بالحكم على الناس، وإظهار عيوبهم؛ محاولة منا أن نخبر أنفسنا أن الجميع سيء ليس نحن فقط، ثم يصير الموضوع مع الوقت إلى عادة، فلا يمكننا التوقف عن الحكم على الآخرين، بل تنقلب تلك العادة علينا فلا يمر موقف دون أن نحاكم أنفسنا عليه ونلهبها جلدا وتعذيبا، فنشعر بالخزي، فنحكم على الآخرين، ونستمر في نفس الدائرة المغلقة.
... ثم يأتي الفصلان الأخيران من الكتاب ليتحدثا عن التعافي ومراحله، يقول الكاتب: " ويبدأ الألم حين نكف عن أن نكون (الفاعل) في حياتنا ونتحول إلى (مفعول به).. مجرد مستقبل لأفعالهم بنا. .... تبدأ الحيرة حين تنفتح حياتنا "أرضا" مشاعا للعابرين، يحطون فيها متى شاءوا ويرحلون وقتما أرادوا!" ص221، وتلك مرحلة مهمة من مراحل التعافي، أن ندرك أن حياتنا ملك لنا، وأن لها قيمة، بل هي أكبر قيمة على الأرض، لا ينبغي أن نضيع فيها ولو لحظة من أجل الآخرين مهما كانوا، ولا ينبغي أن تمر بنا لحظة ونحن حبيسون لأفكارهم وأراءهم ورغباتهم.
... ومن مراحل التعافي المهمة أيضا البوح، والتعبير الشعبي "وكأن حاجة شيلت من على صدري" تعبير صحيح مئة بالمئة، فحتى وإن بحت بما داخلك لنفسك بصوت عال، أو كتابة، أو في صورة تسجيل صوتي، سيشعرك ذلك بالراحة، لأنك ببساطة قمت بتلك المهمة المزعجة التي يقوم بها العقل الباطن من تكرار تذكيرنا بتلك الإساءة التي تعرضنا إليها، فبالبوح تخبره أن يأخذ إجازة إلى أجل مسمى؛ فأنت تتذكرها بالفعل ولا تحتاج إليه.
... وفي المجمل كانت تجربتي مع الكتاب تجربة مختلفة مع نوعية مختلفة من الكتب، ولا أعتقد أن هناك من سيقرأ الكتاب ولا يجد جزء بسيط من نفسه في سطر من سطوره، وذلك شعور غريب ومهم أن تجد نفسك أمامك تصرخ لك ها أنا ذا رغم محاولتك المستمرة في دفني وإنكاري.




View all my reviews
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 20, 2022 13:38
No comments have been added yet.