مراجعة كتاب القرآن كائن حي لمصطفى محمود

القرآن كائن حي القرآن كائن حي by مصطفى محمود

My rating: 4 of 5 stars


... القرآن كائن حي، اثنا عشر مقالا مجمعة في كتاب، هذا العنوان لأحدها، ولكنه كذلك يصلح أن يكون عنوانا لأكثر من نصفها، لذلك فهو ليس بالعنوان الخادع الذي يقصد به الجذب وفقط، بل هو عنوان جذب وعنوان مضمون وعنوان تفاعل.

... يتحدث مصطفى محمود في المقال الأول والذي يحمل اسم الكتاب عن القرآن ويقول: " ما أشبه القرآن في ذلك بالكائن الحي! الكلمة فيه أشبه بالخلية، فالخلايا تتكرر وتتشابه في الكائن الحي، ومع ذلك فهي لا تتكرر أبدا، وإنما تتنوع وتختلف، وكذلك الكلمة القرآنية فإننا نراها تتكرر في السياق القرآني ربما مئات المرات، ثم نكتشف أنها لا تتكرر أبدا برغم ذلك، إذ هي في كل مرة تحمل مشهدا جديدا.... وهذا هو القرآن حكمه حكم بدن فيه روح. ولهذا يقول لنبيه عن القرآن: "وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا"" ص٤-١١، ويضرب مصطفى محمود أمثلة عن تلك الروح، ومنها كلمة "نطفة" وكيف أنها تكررت في أكثر من سورة وأكثر من موقع ولكنها في كل موقع هي نطفة جديدة تزيد الأولى كمالا وتتمة، ففي البداية كانت "نطفة"، ثم كملت بأن صارت "نطفة أمشاج" أي خليط من الصفات الوراثية، ثم زادت كمالا بقوله تعالى: " وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ (45) مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ" أي أن تلك النطفة الموجودة في مني الرجل هي التي تحدد نوع الجنين، ثم ازداد المشهد كمالا حيث صارت "في قرار مكين" أي الرحم، ثم تتمة المشهد بالمراحل التي مرت بها النطفة إلى أن صارت جنينا.

... ثم ينتقل مصطفى محمود من صورة الخلايا التي تتكرر لتتكامل معا في بناء الكائن الحي إلى صورة الخلايا التي يفقد الكائن الحي اتزانه بفقدها، فيقول: "يقول القرآن عن الصبر على المصيبة: "إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ" ثم نراه يضيف حرف "اللام" للتوكيد حينما يتكلم عن الصبر على أذى الآخرين فيقول: "وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ" لماذا أضاف حرف "اللام" في الآية الثانية؟ لأن الصبر على أذى الغريم الذي تستطيع أن ترد عليه بأذى مثله يحتاج منك إلى عزم أكبر، فالصبر هنا ليس كالصبر على مصيبة لا حيلة لك فيها." ص١٣، ومثال آخر عن كيف يقول الله لليهود "اتقوا النار" ويقول للمؤمنين "اتقون"، فالعقول المادية غير المؤمنة لن تخاف إلا شيئا ماديا يمكنها إدراكه، أما المؤمنون فيعلمون أن الله أحق بالتقوى. والأمثلة في المقال كثيرة، والصفحات القليلة للمقال كانت كافية لتعرفنا على روح القرآن، تلك الروح التي تتفاعل معنا كما نتفاعل معها، وتنمو كما ننمو، ونجد عندها جديد في كل مرة نجلس إليها.

... ويتحدث مصطفى محمود في المقال الثاني، والذي يحمل عنوان "النفس والروح" عن الإنسان وكيف أنه جسد من طين، وروح نفخها الله من روحه، ونفس هي ذاته المضطربة اضطرابا مستمرا بين قطبي الروح والجسد، فنفس الإنسان هي التي تحيا، هي التي تتعلم، هي التي تفعل، وهي التي تموت، وهي التي تحاسب، وهي في رحلة الحياة التي تسير فيها إما تنجذب إلى طين الجسد فتكون كالحيوانات والشياطين، أو تسمو إلى الروح وتقترب من نورها.

... ثم ينتقل إلى مقال "لماذا خلقنا الله؟"، ويجيب هنا إجابة فلسفية ربما لا تروق إلى البعض، فيجيب بأن الله خلق كل إنسان ليتعرف على ذاته، ثم يتعرف على ذات الله، ثم يعبد الله بما وصل إليه من علم، وأن الإنسان طيلة حياته يتعرض لمواقف ولاختيارات لتنكشف له ذاته وتتعرى مما ترتديه من أقنعة، فيكون ذلك التعري حجة عليه يوم الحساب، يقول: "وكل موقف يتطلب منك اختيارا بين بديلات، ولا يعفيك من الامتحان ألا تختار، لأن عدم الاختيار هو في ذاته نوع من الاختيار، ومعناه أنك ارتضيت لنفسك ما اختارته لك الظروف أو ما اختاره أبوك، أو ما اختارته شلة أصحابك الذين أسلمت نفسك لهم، ويعني هذا أن الحياة تعريك في كل لحظة، وتكشف حقيقتك وتنزع عنك قشرتك لتخرج مكنونك ومكتومك.... "وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ" ص٣٣-٣٦، وتلك الإجابة الفلسفية وإن اعترض عليها البعض، لا تستوي أي إجابة أخرى دونها، فأي فعل يصدر عن إنسان لا يعرف نفسه فهو فعل مَيْسِر، قد يظهر لصاحبه في صورة متعة ومال ولكنه في الأساس بؤس وفقر.

... ونجد في الكتاب مقالات أخرى لا تقل قيمة عما ذكرنا، كمقاله عن تحريف إسرائيل للإنجيل، ومقاله عن العلوم الذرية والإسلام، والإسلام والطب، ومقاله عن الظاهر والباطن، وكيف أن للإنسان بورصة تزداد فيها قيمته وتقل وتستمر في تلك الدائرة المتعاقبة إلى أن تتضح قيمته الحقيقية يوم القيامة، يوم لا مال ولا قوة ولا سلطة وإنما فقط ذاته.

... ومن المآخذ في الكتاب مقاله "الصوفي والبحر"، ورغم أنني قرأت له أعمالا أخرى بها نزعة صوفية وأعجبتني، إلا أنني لم أجد لهذا المقال هدف، فليس هو الواصف للحالة الصوفية التي يصل إليها العارف عند اتصاله بالله، وليس هو بالمناقش للأفكار الصوفية سواء سلبا أم إيجابا، وإنما هو أشبه بقصة قصيرة تفتقد إلى المتعة والحبكة والمضمون. والمأخذ الثاني هو مقال "من أنت" الذي هو تكرار وربما بنفس الصياغة لمقال "النفس والروح"، ولو أنه تم جمعهما في مقال واحد جديد لكان ذلك أفضل للصورة وأتم للمعنى.

... وهذان المأخذان يمكن التغاضي عنهما، لكن مقاله "أسلوب خطبة الجمعة"، وإن كان صحيحا في مضمونه، مهم في موضوعه، إلا أنه لأهميته تصبح فيه الذلة جرما، فقوله: ".... ثم يؤيد كلامه بأحاديث نبوية مرعبة بإسناد طويل عن ابن عنبسة، عن الهيثم بن عدي، عن بن أيوب الموصلي، عن الكلبي، عن التغلبي، عن ابن إدريس، عن ابن الحضرمي... وكل هؤلاء نعلم عنهم الآن أنهم كانوا وضاعين للحديث كذابين، وأن أكوام الكتب الصفراء التي تركوها كانت زيفا وتشويها، وأن نبينا، وهو نبي الرحمة والشفاعة والمغفرة، لم يقل شيئا من تلك البشاعات." ص٥٦-٥٧، وإن معلومة كتلك قد تتوغل في نفوس البعض فتبث فيها حيرة وقلقا بدلا من أن تزدهم طمأنينة وسلاما، معلومة كتلك لا توضع هكذا دون ذكر مصادر ومراجع لها، خاصة وأن البحث عنها برغم التقدم التكنولوجي لا يزال صعبا، فذلة كتلك هي جرم، وذلة أخرى هي اللغة العنيفة في المقال التي يخاطب بها، وأقولها كثيرا لا يمكنك أن تخاطب شخصا تود منه أن يتغير وأنت تحدثه بعنف أو ازدراء أو استهزاء، فأي واحدة من هؤلاء كفيلة لصم الأذان، وإن الغضب والعصبية اللذان يعتريان المرء عندما يتحدث عن أمر جلل وخطير، تلك الخصلتان لا بد أن يتخلى عنهما الكاتب عندما يقرر أن يكتب، وإلا صارت كتاباته كجدالات مواقع التواصل الاجتماعي، جدالات للجدال لا غير.

... والمأخذ الأخير هو مقال "في مسألة المخير والمسير"، فالإجابة التي قدمها ليست إجابة وإنما هي التفاف من ذاك الذي نستخدمه عندما لا نمتلك الإجابة ولكننا مجبرون عليها، وإن التفسير الذي وضحه الشيخ الشعراوي في كتابه "القضاء والقدر" كان أفضل بكثير وأوجز، فالإنسان مخير ولكن الكون كله من حوله مسير، فأنا اتفق مع فلان على موعد باختياري، ولكنني لا أملك أن أعيش، أو يعيش، لا أملك الصحة لذلك، أو المال، لا أملك الظروف المحيطة، أو الوقت، أنا أملك الاختيار ولكنني لا أملك أي شيء آخر، وأنا أملك الاختيار، ولكنني لم أُمَلِّكْهُ لنفسي، وإنما هي إرادة الله.

... في النهاية الكتاب كان ممتعا، وما فيه من جيد أكثر بكثير مما عطب، واللغة البسيطة والأسلوب السلس لمصطفى محمود، وما لديه من تنوع في الأفكار، لمما يدفع دائما إلى إعادة القراءة له.






View all my reviews
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 24, 2022 12:10
No comments have been added yet.