عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الأديان والماركسية

لا يمكن أن تُفهم الأديان والتراث السابق للبشرية بشكل موضوعي حقيقي إلا من قبل الماركسية. ولكن ليست أي ماركسية، فالماركسية غدت ماركسيات، مثلما أن الإسلام غدا مذاهب وتيارات لا حصر لها.

 فالإسلام بكل أطيافه يظل متوحداً في بنية كلاسيكية لم يستطع المنتجون الفكريون والسياسيون المنتمون إليها تغييرها، وليس للإسلام كدين عريض لكي يبقى سوى أن يتحد بالمستقبل والتطور، في حين أن أغلبية المنتجين السابقين يقودونه إلى الماضي ويمنعون مقلديه من المضي إلى الحداثة، لأنهم لا يفهمون تركيبة الإسلام الماضوية الحقيقية.

 وقد نظر الدينيون في الغرب والمشرق الإسلامي الى الماركسية باعتبارها أداة هدم وإزالة للأديان، خلطاً منهم بين الماركسية الارادية الذاتية وبين الماركسية الموضوعية، بين الماركسية كما تشكلت في دول الشرق الاستبدادية وبين الماركسية كما تنامت في حقول المعرفة الحديثة.

 لقد تشكلت ماركسية القرن التاسع عشر في أوروبا الغربية كتتويج لنزعات التنوير والإلحاد والنضال العمالي ضد الكنيسة وراس المال، بعد أن تم على نحو مهم إبعاد الدين عن العمل السياسي العام، وهي معبرة عن مصالح الطبقة العاملة تحديداً، التي ظلت تعمل من أجلها، فتوجهت للعمل السياسي مشكلة أحزاباً لم تستطع أن تصل إلى السلطة، بحكم أن طبقة رأس المال استطاعت أن تجذر سلطتها في نواحي الحياة كافة.

 كما تشكلت أصولُ الماركسية بين نزعات الحداثة المختلفة، التي اتسمت بطابع معرفي متقارب، هو كون نظراتها كما تعتقد هي النظرات الوحيدة الصائبة، فالعقل لديها هو عقلٌ مطلق، وهو العقلُ المطلقُ الذي انتقل إلى روسيا والصين وغيرهما وصار نظاماً اجتماعياً متوحداً بالعقل الديني. فتغدو أحكامها نهائية، من حيث اعتبار دولتها أبدية، وثورتها مطلقة، ونظرتها باقية على مر الزمن.

 فتشكلت في العالم المتخلف ماركسية أصولية، فهي تعتمد على أصول أبدية، خارج التاريخ، وهي نظرية تاريخية نسبية! ولا يمكن لهذه الماركسية الأصولية أن تختفي من الأحزاب التى آمنت بها، وهي ذاتها جاءت من مرتكزات دينية، كما لا يمكن بسهولة أن تظهر ماركسية تجديدية تاريخية نسبية، فتعتقد أن ما تقدمه من أطروحات وبرامج شيء نسبي وأن برامجها ونظراتها الفكرية هي نسبية كذلك.

يعوق ذلك الوضعُ الاجتماعي الذي تتشكلُ فيه هذه الأفكار، ومستويات الأعضاء القادمين من بيئات فقيرة محدودة التعليم، ومحدودة القراءة. وهكذا حدث للماركسية ما حدث للأديان، من حيث تفككها إلى مذاهب، فتقومُ كلُ دولة ذات نفوذ كبير، وكل حزب كبير، بصياغة ماركسيته المشكلة على مصالح سلطته، لا على تشكيل عقل ديمقراطي جماعي للتنظيم، نسبي في تاريخه، منفصل عن السلطة المطلقة، وسواء كان دولةً أو جماعة أو ديناً . ومن هنا كانت عبادة الأصنام والمناطق والشخصيات والتجارب، لا باعتبارها تجارب تاريخية نسبية يجب ألا تُعبد.

 وهكذا ظهرت الماركسية العربية في تبعية للمراكز الخارجية، إلى أن بدأت تظهر عقولٌ نقديةٌ باحثة، ظلت هي الأخرى تشتغلُ تحت مظلةِ العقل المطلق، عقل الحداثة، لأنها تتصور أن عقلها قادر على إزاحة كل العقول المتخلفة المحيطة، فهو النفي المطلق للدين، والنفي المطلق للاستغلال، والنفي المطلق للقومية.

 وحين ظهرت محدوديةُ العقلِ المطلق الماركسي هذا في تجارب روسيا والصين وكوبا الخ.. غدا الشك موجهاً للتطبيقات وللتدخلات العدائية القادمة من الخارج ضد بنيته النقية، وليس في نقد هذا العقل المطلق نفسه، ولعدم اعترافه بنسبيته ومحدوديته في زخم التاريخ.

 إن الأنظمةَ والجماعات الدكتاتورية التي شكلت إسلاماً دكتاتورياً بعقل مطلق وأبدي كما حدث ذلك في الماركسية، والإسلام والماركسية كفكرين ثوريين من عصرين مختلفين، يحويان بذور التفكير النضالي الإنساني بأدوات تعبيرية ومنهجية مختلفة حسب مستوى العصور، لكن الأنظمة والجماعات الشمولية تسيطرُ على ذلك المضمون وتحوله إلى شكلٍ مفرغٍ من دلالاته الكفاحية.

كان الإسلام والمسيحية واليهودية ثورات في أزمنتها وحسب مواقع ومستويات تطور شعوبها التي ظهرت فيها، وكانت الماركسية نظرية للثورة العمالية فى العصر الحديث، لكنها كذلك تحوي نظرة لرؤية العالم مختلفة نوعياً عن طرائق فهم الأديان للعالم.

 وبسبب ذلك تشكلت صراعات معقدة بين الأديان والماركسية، وأخذ ذلك مجرى الصراع الإلغائي بين الماركسية المطلقة، أي الماركسية الشمولية، وبين الأديان كما جيرتها الأنظمة الشمولية على مر التاريخ.

  إن الأدوات المعرفية والتعبيرية في الأديان هي نتاج تاريخ طويل للبشر، ففكرة الإله الواحد أو فكرة الآلهة المتعددة والأقانيم والأرواح المتحكمة والسماء المسيطرة على الأرض واليوم الآخر والثواب والعقاب الأخروي وغيرها هي أدوات تُفهم على أنحاء مختلفة، ففي حين يفهمها المؤمن بها على أنها أجزاء موضوعية حقيقية من العالم، يفهمها الماركسي على أنها تعبير عميق معقد عن ظروف الشعوب وكفاحاتها المجسدة بالمفاهيم، فاليوم الآخر هو تعبير عن سلطة أخلاقية فوق الزمن، تحاكم المجرمين والاستغلاليين بشكل نهائي وحاسم عما اقترفوه. وبغض النظر عن الغيب والواقع، فإن اليوم الآخر كفكرة حكمت الملايين بضمير أخلاقي وبتفكير في الثواب والعقاب قد هذبت من انحرافاتهم وجرائمهم في وقت ظهرت فيه سلطاتٌ مطلقة تقفز فوق الخير وتتلاعب بالخيرات، وحين تظهر العدمية تجاه الدين فإن غرائز الإنسان تنفلت، ويعتبر نفسه فوق الخير والشر، فلا يؤمن بإله يراقبه، وبضمير يحاسبه، وإذا كانت قوى الاستغلال الشرهة العديمة الضمير لا تؤمن في حقيقة الأمر بإله يراقبها ويحاكمها في خاتمة المطاف، فإن الجمهور يؤمن بذلك، وتدفعه الفكرة إلى التمسك بالأخلاق، بشكل نسبي بين الجماعات والأفراد، حسب مستوى الإيمان بالإله المعبر والمجسد لهذه الأخلاق. وهكذا فإن قوى الاستغلال الدينية والحكومية الشرهة للمال العام والخاص والعدميين التحديثيين الذين يبيعون أنفسهم لمن يدفع، تلتقي كلها في عدم الإيمان بالإله العادل وبالشعب الذي يجب أن يتملك خيراته. إن العدالة الإلهية والديمقراطية الشعبية هما مظهران لمضمون واحد.

 إن الثورة الشعبية الإسلامية الذي ظهرت في ظروف إنسانية معينة، تماثل النضالات الشعبية والعمالية في الزمن العربي الحديث، حيث قوانين التحالف الشعبي بين التجار والعمال لتشكيل دول عربية ديمقراطية مطلوبة، للتخلص من عصر تقليدي تفكيكي متخلف سابق.

 وإذا كانت أقسام من قوى هذه الثورات تؤمن بالغيب وبالتاريخ الماضي بكل ألوانه وتنغمس فيه لدرجة نسيان الحاضر، فإن أقساماً أخرى تندفع بشدة إلى الحاضر، وترفض الماضي.

 لكن شكلي الوعى مختلفان، فالأديان ثمرةٌ لتفكير البشر في ظروفهم ولتغييرها ولكن عبر ركائز غيبية، وتتجسد عبر عبادات ومعاملات، في حين أن الماركسية والآراء الديمقراطية الحديثة وجهات نظر دنيوية منقطعة عن الغيب وما بعد الطبيعة، وتسعى لتغيير حياة البشر كذلك.

 وإذا كانت الماركسية الأصولية توحدت مع منهج الأديان محولة نفسها إلى بناء كلي وسيطرة شاملة، فإن الأديان كما صاغتها قوى الاستغلال عبر مئات السنين السابقة، كانت مثل ذلك، وليس الأمر يعود لبنائي التفكير المختلفين بل للبناء الاجتماعى السياسي الشمولي الذي يحول كل فكرة سواء أكانت دينية أم حديثة إلى شكل للسيطرة المغلقة.

 وهو أمرٌ لا يتبدى في الدول بل في الجماعات والأسر والتكوينات الفكرية والثقافية، فالماعون الفاسد يفسد كل الطبخات. لأنه ماعون يقوم على ذلك العقل المطلق الذي يعتقد انه كل الوعي والوجود والمصير. ومن هنا تتحول الكتب الدينية والسياسية الحديثة إلى كلمة أخيرة للإنسان.

 وتحوّل قوى الاستغلال الحكومية – الدينية الثقافةَ إلى بناء يلغي كل أسئلة الإنسان؛ ويحول حياته وإجاباته ونمط عيشه إلى طقوس لا تخرق، لكن التغيير يشق طريقه سواء عبر كنسية التضامن البولندية العمالية أم عبر أفكار اليسار اللاتيني، فالجمهور يبحث عمّن يدافع عن مصالحه التي تُخنق عبر مؤسسات الإفقار والقمع الشاملة، ثم يدرك الجمهور أن قوى الكنسية غير قادرة على النضال من أجل العمال، كما تدرك شعوب أمريكا اللاتينية ضرورة وجود برجوازية حرة صناعية مستقلة عن هيمنة أمريكا الشمالية بضرورة تصفية إرث الإقطاع في الملكيات الكبيرة الريفية.

 إن الجمهور يتحرك ضمن إرثه الديني ثم يكتشف عبر معاركه الاجتماعية أهمية التركيز على فهم الواقع، ورؤية مشكلات الاقتصاد الحديث، ولكنه كذلك يحتفظ بدينه ويحافظ على صلواته!

 إن الأديان والماركسية والتوجهات الديمقراطية الحديثة عموماً تتعاون على تغيير حياة إنسان هذا العصر، عبر مناهج مختلفة، وتغدو مقاربات متعددة، وعقول نسبية، يحتفظ كل منها بمساراته وفضاءاته الفكرية متعاوناً على ما هو مشترك ومعوق للناس.

__ATA.cmd.push(function() { __ATA.initDynamicSlot({ id: 'atatags-26942-613209a4774f7', location: 120, formFactor: '001', label: { text: 'الإعلانات', }, creative: { reportAd: { text: 'الإبلاغ عن هذا الإعلان', }, privacySettings: { text: 'الخصوصية', } } }); });
 •  5 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 02, 2021 17:53
Comments Showing 1-5 of 5 (5 new)    post a comment »
dateUp arrow    newest »

عبـــــــدالله خلــــــــيفة أفق
عبـــــــدالله خلــــــــيفة
الفنون في الأديان
أضطر العرب المسلمون في نقلتهم الحضارية بين الجزيرة البدوية الصعبة ذات التاريخ المرير وإحتلالهم للشمال الزراعي الغني أن يختزلوا الكثير من المظاهر الحضرية ويشكلوا سمات حضرية خاصة بهم دون أن تكون هذه السمات متناسقة تمام التناسق.
من الجوانب البارزة في هذا الموقف الرسمي من الفنون، والموقف الرسمي هو الموقف المسجل في الوثائق الدينية المعتمدة للأنظمة السياسية التي تتالت بعد هذا.
كانت الشعوب القديمة الوثنية بطبيعة دياناتها تقدس الفنون، فهي مدار حياتها، فالإنتاج كالبذر والحصاد والصيد وبالتالي الأعراس والولادات والختان كلها تجري من خلال فنون الشعر والغناء والرسم والنحت، ولكن هذه الفنون تجري بتقديس الآلهة لهذه الشعوب، فهي جزءٌ من حياتها وإحتفالاتها.
وقد وجد العربُ المسلمون أنفسَهم مع قدومِهم لمسرح التاريخ في المنطقة بشكلٍ متأخر، أنهم يحاربون الوثنيات بقوة، وهي التي تمثل تعدديات الدول وتنوعها وسلطات المدن والقبائل والشعوب المتختلفة. ولم يكن مستواهم الثقافي في ذلك الوقت يتيح التمييز الدقيق والفصل بين ما هو وثني وما هو فني إنساني.
فلم يفصلوا بين محاربتهم للوثنية ومحاربتهم للفنون، التي كانت هي مندمجة فيها، بحكم التطور الطويل السابق، فظلت الأحكامُ الفقهية في الأجيال التالية دون معرفة العلل فيها، ثم تغيرت الظروفُ الوثنية المرتبطة بتلك الفنون، لكن الأحكامَ الفقيهة بقيتْ على حالها!
كان الساحرُ قديماً هو الفنان النحات والشاعر والراقص والصياد، ثم تخصصت صفاته في فنانين متنوعين، فالشاعر المغني أنفصل عن الساحر، ثم أن الشاعر كذلك أنفصل عن المغني وعن رجل الدين، لكنه انفصال غير تام وحاسم، فالثلاثة في علاقة متداخلة، كأشكال متقاربة من الثقافة، نظراً لأن الموسيقى والقداسة تجمعها.
فهذه هي كلها في عرف القدماء نتاج السماء أو وادي عبقر أو الروح أو الألهام، فرجل الدين يصنع الشعر ويغنيه ويؤثر من خلاله على الجمهور.
ومن هنا بقيت في الكنيسة المسيحية علاقة رجل الدين بالغناء، فهو إن لم يتحول إلى مغنٍ تماماً فهو ينشد، أو يقرأ بموسيقية ما، ويضعُ آلة موسيقية في الكنيسة، ويدعو المؤمنين للترتيل معه، أو الإنشاد أو الغناء.
المسيحيون كسكان مناطق زراعية متحضرة قديمة، لم ينشئوا دولة بسرعة العرب المسلمين، ولهذا احتفظوا بتقاليد فيها وثنية وتعددية إلهية وتراث موسيقي قديم، وأنتقلت تدريجياً إلى أوربا وبعد قرون ومع البعث النهضوي والترجمات الإغريقية تحولت إلى نهضة جديدة عالمية.
أما العرب فعلى العكس أرادوا أزالة المظاهر الوثنية بقوةٍ وسرعةٍ حتى لا تتفكك دولتهم الطرية، فعارضوا أي تذكير بالماضي حتى لو كان فنياً وإحتفالياً فرحاً، وكان يمكن لهذه الاحتفاليات والمظاهر الوثنية أن ترتبط كذلك بمعارضاتِ الشعوبِ ومؤامرات الأمبراطوريات الكبيرة المهزومة في ساحات القتال.
وفيما بعد حين زالت تلك المظاهر التاريخية السلبية المؤقتة، لم يكن بإمكان الفقه الحكومي المتصلب أن يقرأ ذلك على ضوء التحولات، وبقي في الموقف الرسمي وخاصة في الاتجاهات السنية، وكلما زاد في بدويته وشكلانيته قل تعليله للتاريخ الاجتماعي الديني.
لكن الشعوب الإسلامية لم تكن تعبأ بالموقف الرسمي الديني، فقد كانت شعوباً أدبية وفنية بحكم تقاليدها الطويلة وتجاربها الإنسانية، فانتشرت الفنون والآداب على نحو هائل فيها، فكانت أكثر الشعوب إنتاجاً وقتذاك في التراث الإنساني.
وقد حافظت كذلك على الوحدانية، لكن العلاقة بين رجل الدين والفنون ظلت متضادة، فحافظ رجلُ الدينِ المسلم على طبيعةِ الراهب المتشددة فيما يتعلق بالفنون في زمن الفتوح الإسلامية، أي ذلك الراهب المجافي للغناء والفنون عامة، خاصة الحركية منها والمرتبطة بالرقص فهذه أشد اقتراباً من الماضي الملغوم، الماضي المرتبط بالفنون المذمومة، والشهوات، وفقدان الوعي، من أجل أن لا ينزلق إليها المؤمن ولا يهوى في الوثنية، رغم أنها جميعاً غدت لا علاقة لها بذلك الماضي البعيد، وأن المسلمين انتصروا منذ زمن بعيد وأن تلك الروح الحربية لم تعد ابنة زمانها. لكن روح الأحكام العرفية مستمرة خاصة مع حكم المناطق العربية المحررة من هيمنة الدول السابقة، والتي كانت تزدهر بالفنون الوثنية لكن بعد إستقرار الفتح العربي تلاشت، وبحثت الفنونُ العربية الإسلامية عن الجمع بين التوحيد والفرح والرقص والتشكيل والمسرح والموسيقى.
لكن موقف الرجل الدين التقليدي أستمر وظلت معاداته للفنون قائمة حتى بعد زوال أسبابها. فهو يعارض كافة أنواع الفنون حتى لو كانت التجريدية منها وغير المرتبطة بالحراك الجسمي المبتذل، والمصعدة للنفس والروح في حالات إنسانية راقية. فيبدو له إن الفنون تخفي ورآها أوثاناً.
وهذا يعود لاستمرار الأحكام التقليدية الفقهية طوال قرون سيطرات الأسر الخاصة.
لكن ذلك يغدو مستحيلاً خاصة في العصر الحديث فالموسيقى تملأ الحياة والسياسة والعالم، والموسيقى لا بد أن تدخل في كل مكان، ومن هنا تنازل رجل الدين التقليدي للموسيقى الحربية أن تدخل عالمه، فهي تماثل روحه القتالية المستمرة، فاستعان بها للأناشيد والجنائز.
ولا شك أن قضية إدخال الموسيقى في الفرح والاحتفال ستظل هاجساً، وقضية خطيرة، بسبب انتشار الثقافة الغربية وأعتماد الموسيقى والفنون كمناخ إحتفالي اجتماعي جذاب، لكن هذه الثقافة تختلط فيها الجوانب العظيمة والجوانب المبتذلة، كما تغدو وسيلة إجتماعية لنشر المخدرات والجريمة في بعض الملتقيات. ومن هنا ضرورة الفصل بين هذه الأنواع وعدم التعميم.


عبـــــــدالله خلــــــــيفة أفق
عبـــــــدالله خلــــــــيفة

الخيال والواقع في الأديان

تعتمدُ الأديانُ على الخيالِ غالباً، لأنها تشكلت منذ أكثر من أربعين ألف سنة على فكرتي الأرواح الخيرة والأرواح الشريرة، فهذا السديمُ من الصورِ والمعاني يشتبكُ غالباً بالواقعِ ومشكلاتهِ من حروبٍ وأمراضٍ وصيدٍ وزواج الخ.
بداياتُ الأديان هي بداياتُ الانتقالِ للحضارة، وهي لا تعدو أن تكون 1% من التاريخ البشري، وقبلها ملايينٌ من التاريخِ المجهول للإنسان، حسب ما يقول فراس السواح.
ولهذا فإن فرزَ الجمادِ من الروح كانت ثورةً فكرية كبرى! حيث انفصل عن الإنسان عن الحجر والنهر والغابة ولكن ليس بشكل كلي، فإلى مدى طويل ستظل الأشياءُ ذات قوى روحية أو أرواحية، وسيظلُ الإنسانُ هذا الكائنَ الهشَ المعلقَ في خشبةِ الوجودِ السائرة في الأنهار.
وتتوجه الإراداتُ البشرية لطلب المساعدة من هذه الأرواح، مرة بالخير ومرة بالشر، وتصيرُ الآلهةُ نمطين مثلهما، آلهة تحكمُ بالخير وللخير، وأخرى للشر وبالشر.
وهذه المعاني العامة سنجدُها لدى البوذيين أو الهنود الحمر. وكلما تطورتْ الحضارةُ تخضعُ الأفكارَ الدينيةَ للتقاليد والمواصفات الإجتماعية وللمؤسسات السياسية.
ونظراً لكونِ الأفكار الدينيةِ متصلةً بعالمِ الأرواح فهي تبقى غامضةً، متعددةَ الرؤى، مختلفةَ التفاسير، ويتيحُ لها ذلك النموَّ التاريخيَّ، العقلاني مرة، وغير العقلاني مرة أخرى. وأن تقع في قبضاتٍ مختلفة، وإرادات متناقضة، وتصيرُ مرة للبناء ومرة للهدم.
ليس في عالم الأرواح تجريب وبرهان، ويقول صانعو الأديان إنهم يسمعون أصواتاً، وأن نداءات تأتيهم، وإن رسائلَ بُعثتْ لهم، وآخرون يقولون إنهم شاهدوا أحلاماً، وكل هذا يجري في السديم الغامض، في عالم الأرواح، حتى تبدأ الكتابة الملموسة للدين من خلال الكلمات، والقوانين، سواءً كانت في ورقٍ أو حجر، ويتحولُ الغموضُ الخارجيُّ الفوقي السماوي أو الأرضي، إلى جماعةٍ أو إلى نصوصٍ أو عبادات أو أوامر ونواهٍ إجتماعية.
عالمُ الأرواح الذي يتم التراسلُ معهُ أرضياً وبشرياً والمتسم بالغموضِ واللاتحدد من المتسحيل أن يعطي رسالةً واحدةً، وكما أن الأرضَ ذاتَ خرائطٍ وأصواتٍ مختلفة، فكذلك فإن الرسائلَ تتباين، وتتعددُ الأديان.
يعزلُ عالمَ الأرواح مع تصاعد المؤسسات الدينية والسياسية، إن عالم الأرواح الغامض لا بد من السيطرة عليه إجتماعياً، وأن يكون الدين مؤسسةً ثم مؤسسات، حسب تنازع القوى والمؤمنين أو تآلفهم، إن الأرواحَ الخيرةَ هي التي تتجسدُ في المؤسسة الدينية، لأن الدينَ في غاياتهِ الأولى كان بهدف خير، فقد كانت الرسائل الدينية تظهر لدى قادة روحيين مضحين، يشقون طرقاً لتطور البشر. فالرسالةُ في حدِ ذاتها تضحية، وبطولة، ولكنها تصيرُ مؤسسةً، وتنحازُ لهذا الطرف الاجتماعي أو ذاك، فينقسم الدينُ ويصير مذاهب وحركات سياسية وإختلافات.
الركائز الأولى للدين من ألوهية وإنقسام للأرض والسماء والدنيا والآخرة وغيرها من ركائز تصورية كبرى، هي ركائزٌ عرفتها البشريةُ كلها، حتى دون أن تتشكلَ علاقاتٌ مباشرةٌ بين بعضِها البعض، وهي تقومُ على أساسِ التضاداتِ الكبرى في الحياةِ البشريةِ غيرِ الممكنِ ردمها أو إزالتها. التناقضُ بين الحياة والموت، وهو أكثر التناقضاتِ رهبةً وبقاءً للجنس البشري والحيواني عامة. التناقضُ بين الوجودِ والعدمِ هو من أكثرِ المناطقِ خصوبةً لإنتاجِ الوعي الديني، والأفكار عامة، وهو الذي بدأَ تحريكَ الوعي باتجاه أن يكون الكائنُ النسبي مطلقاً، والعابرُ أبدياً.
وكذلك هناك التناقضُ بين الأرضِ والسماءِ، وهو شكلٌ آخر للتناقضِ بين الإنسانِ والوجود، ثم التناقضُ بين الحاكم والمحكوم وهو التناقضُ المولدُ للحركةِ الاجتماعية، ويتداخلُ مع التناقضين السابقين في توليدِ التصوراتِ وفي نسجِها بين الخالد والعابر، بين الفقير والغني، بين اللاموجود والموجود.
تنقشع ضبابيةُ الأرواح لدى المؤسسات، التي تحيلُ الدينَ لنصوصية قانونية وراءها العقوبات والسجون، والتقاليد، والحلال والحرام، وعلى مدى وجود العناصر العقلانية القارئة للآلام البشرية وحاجات العاملين أو عدم وجودها، تتحدد تطورات الأديان، بين ازدياد للعقلانية أو هجوم للجنون، فالحياة الاجتماعية تولد سلاسلَ من التطورات الدينية واللادينية، من الفرق المتبصرة أو (من الهلوسات)، ومن التخصصات الدينية المدققة العاكفة على التطور التدريجي، ومن النصوصية الجامدة المريضة، ومن هجوم الفرق السياسية على الدين وإختطافه من حياته العبادية العادية، إلى حماية الدين بإبعاده عن التجارة والحروب السياسية.


عبـــــــدالله خلــــــــيفة أفق
عبـــــــدالله خلــــــــيفة

الأديانُ والتحولاتُ

تختلف العناصرُ الفكريةُ الاجتماعية في الأديان حسب ظهورها التاريخي والمهمات التي أدتها في تأسيسها، ثم تحول أو بقاء هذه العناصر في المراحل التالية لتطور هذه الأديان.
هذا يعتمدُ على البُنى الاجتماعية التي تدخلُ فيها، وتتأثرُ بأجوائِها، فرغم تباين تلك العناصر بين الدينيين المسيحي والإسلامي فإنها تعرضتْ لتأثيراتِ البُنى المختلفة والعصور.
فقد كان عنصرُ العنف مرفوضاً ومنتفياً في نشأةِ وظهور المسيحية، لأن الإمبراطوريةَ الرومانية كانت قائمةً على العنف الوحشي ضد الشعوب ولهذا عبرتْ المسيحيةُ عن التسامحِ والمحبة والإخاء بين الشعوب المتعددة، وهي القيم التي وضعت حداً لتلك الإمبراطورية في خاتمة المطاف ولكن بأساليب عنيفة!
إلغاءُ التسامحِ المطلق وإعادةُ العنف للمسيحية جرى بسببِ حاجاتِ الأنظمة والقوى السياسية للعنف كأداةٍ للسيطرة والحروب.
كان الأمرُ مغايراً بالنسبة للإسلام الذي إعتمد الحرب ضد الوثنيين ثم أساساً للفتوحات. وإستُثمرت هذه النشأةَ الأنظمةُ الاستغلالية والحركاتُ المتعصبة فيما بعد لتؤسسَّ منها رؤيةً مطلقة تبررُ ما تقوم به أعمال سياسية ذات مصالح ذاتية.
ومن هنا تباينت أوضاعُ مذاهب المسيحية حيال النهضةِ والتحولاتِ الديمقراطية في زمنِ الافتراق عن العصور الوسطى، ففي الوقت الذي كانت فيه البروتستانتية تقفُ مع الإصلاح وضد هيمنة البابا الحاكم المطلق على رأس الإقطاع الدنيوي البغيض ولكن الثمين، فإنها في ألمانيا إختلفت عن غيرها من الدول التي سارعت للتوحد القومي والنمو الرأسمالي، فقد تلكأتْ قدرتُها على التوحيد القومي، ونقد الكنيسة، فيما أن الكاثوليكية وهي المذهب المحافظ تبدلتْ أوضاعها في فرنسا مركز الحركة الثورية الأوربية، التي كانت ذات تطور إقتصادي أكبر من ألمانيا وفجرت التحول في قلب أوربا والعالم، ثم صار لها نفوذٌ إستعماري كبير.
هكذا فإن العناصرَ الفكريةَ الاجتماعية داخل الأديان ثم داخل المذاهب التي تنمو من خلال الإختلافات الدينية المعبرة عن صراعات إجتماعية عميقة في المجتمعات، تخضع للبُنى الاجتماعية في البلدان الكبيرة المؤثرة على التطور السياسي.
ولكن السياقَ الاستعماري لكلا البلدين فرنسا وألمانيا، أخضع البلدين لسيرورته.
ففيما فرنسا كانت متمتعة بالمستعمرات وتمارس عنفها داخلها، وتصمتْ الكاثوليكية فيها عن المجازر، كانت البروتستانتية في ألمانيا لا تستجيب لطموحات رجال الأعمال الشرسين الذين فقدوا حتى مستعمرات دولتهم بعد الحرب العالمية الأولى، وتولد تعصبٌ قومي تجسدَ في هتلرية الصليب المعقوف بدلاً من الصليب العادي. وقد دخلتْ العناصرِ القومية الشمولية من هذه الثقافة الألمانية في بعض الحركات القومية والدينية العربية والإسلامية.
في المذاهب الإسلامية الراهنة وعلاقاتها بالثورات والصراعات يغدو التوجه للنضالات السلمية مميزاً، فظهور هذه النضالات وتدفق الملايين عبرها أتاح التوحيد للشعوب، وأظهر الدينيون من الإسلاميين والمسيحيين تعاونهم المشترك لبناء بلدان مختلفة، رغم أن خطابات إسلامية عديدة لا تزال في القراءات العنيفة.
وقد تبدل حراكُ المذاهب خلال العقود الأخيرة، خاصة داخل المذهبين الإسلاميين الكبيرين، ففيما عُرف أحدهما بالمحافظة والوقوف مع بعض السلطات، أتجه الثاني للثورات، وتأييد التحولات، لكن هذا الأمر تغير الآن ففيما الأول تحول عن المحافظة وشارك في الثورات، تحول الآخر إلى المحافظة ويشارك بعضُ جماعاته في قمع ثورة عربية كبيرة.
لعل الإطلاق هنا غير دقيق فقد ظهرت تياراتٌ سياسية متعددة من المذهبين، والأمر هنا يعتمد على مواقف التيارات داخل الأنظمة السياسية، ودورها في تنمية عناصر ديمقراطية فكرية وإجتماعية أم لا.
فنجد إن تيارات مذهب واحد تتباين في مواقفها، وأن القسمين الليبرالي والمحافظ موجدان ولكن مشاركتهما في التغييرات العاصفة متباينة، فيما أن المذهب الآخر حين سيطرت على حركاته دولةٌ واحدة فقدت تياراته زخمها التحولي.
تعددية المذاهب ومقاربتها للحراك الاجتماعي ممكنة مع تبدل (البابوية)، وسيطرةُ المركز الواحد، تقل لكنها لا تزول لأن الدول تنشىءُ مراكزَ جديدة لتوجيه المذاهب والتيارات السياسية المنبثقة عنها.
وعلى مدى تطور التحولات الاجتماعية والسياسية القادمة وإنبثاق دول ديمقراطية مدنية، ستجد المذاهبُ والمرجعياتُ إستقلالَها وعودتها للبحوث وقراءة التاريخ والفقه، وسوف تخلق التأثير العميق، وتتطور بشكل أكبر من زمنية خضوعها للدول الشمولية التي وجهتها وجهات واحدة ضيقة.


عبـــــــدالله خلــــــــيفة أفق
عبـــــــدالله خلــــــــيفة
الأديان السماوية والتطور

تربت أغلبية البشرية على ما أُنتج في المنطقة العربية من مثل وأفكار، وقد تطورت تلك المناطق تطوراً كبيراً وظلت المنطقة العربية في تخلفها المريع!
الحضارات الأولى، عشرات الآلاف من السنين، وتجارب هائلة وعمت الإنسانية ثورات هائلة من ما أُنتج في هذه المنطقة، وظلت المنطقة العربية في ماضيها.
اليهودية والمسيحية والإسلام، الأديان الشقيقة، التي تكملُ بعضها بعضاً، ميراث الإنتاج الروحي الطويل، هي نفسها تعيش في عداء مستحكم!
لماذا؟ لماذا؟
لماذا الأشقاء تعادوا، ونبات السماء صار خناجر وسيوفاً؟
هل كان هذا من أفكار الأديان أم أن السلطات وقوى الإستغلال فرقت بين الأخوة؟!
يقولون إن مصادر الأديان هي نبع زلازل وخير، فلماذا تكدرت؟ هل لأنها خالطت الأرض العكرة وتطورات الشعوب في دولها وصراعاتها السياسية ومناحي حياتها في التجارة والسلطان والغزو؟
اليهودية أول الأديان السماوية وأقلها حضوراً من حيث الكم، وأقواها حضوراً من حيث الكيف!؟
اليهودية بدأت رعاةً وصارت فلاحين قليلين وتجاراً كثيرين وصيارفة وأصحاب بنوك مناطقية فعالمية!
نظراً لإنحباسها الشعوبي لم تصبحْ كماً هائلاً، كانت تهتمُ بالكيف المتطور، استعلتْ على الشعوب الوثنية البدائية لغايةٍ كبيرة هي أن تكون فوق الشعوب.
الكثيرُ من طقوسِها الدينيةِ هي بغرضِ أن تكونَ أقلية متطورة وسط حشود متخلفة لكي تستثمرَها ولكي تتطور هي فوقها!
علمتها تجاربُ الألمِ والمعاناةِ والأسر أن تركز على عناصر التفوق وهي التجارة المتطورة والثقافة.
ورغم مئات السنين من الاضطهاد لم تتخل عن بنائها الاجتماعي القائم على الأسرة الصغيرة والعمل بالمال ودراسة كتبها وتنقيحها باستمرار، والإضافة إليها.
ومن هنا توسعتْ خارج المنطقة العربية البدوية ذات الأسرة الكبيرة تبحث عن شرايين التجارة العالمية واتجاهاتها، فتلاقت مع المسيحية بشكل كبير، رغم قيام المسيحية باضطهادها.
والمسيحية التي نشأت متجاورة مع اليهودية تركزت على الفلاحين، أصحاب الأرض، ذوي التقاليد القديمة، الذين كانت أقدامهم في الزراعة أكثر من الاقتصاد المالي والفائدة، وتقاربوا مع اليهودية في الأسرة الصغيرة، وابتعدوا عن عالم القبيلة، وكان الثالوث الإلهي هو جزء من عالم الفلاحين التعددي، الذين كانوا طوال قرون الشرق مختلفين عن البدو ذوي الإله الواحد الصارم.
ثم كان الإسلام هو الملائم لجمهور الشرق البدوي الواسع، الممتد من الصين حتى أفريقيا، حيث الصحارى الكبرى، وحيث العائلة الواسعة، والرجل المسيطر متعدد الزوجات، والمعارض للفائدة المالية التي تمزق العائلة الواحدة.
كلُ دينٍ مثلَّ مجموعات بشرية معينة، وتقاليد وظروف، الاقتصاد الرعوي الواسع في هذه المنطقة الصحراوية الهائلة أهلَّ الإسلام ليكون دين المنطقة التي وعى تقاليد أهلها ومثل حياتهم وطور عناصرها التجارية والثقافية العقلانية لكن دون أن تتمكن المنطقة من خلق القفزة الحضارية الحديثة، والمسيحية تركزت في المناطق الزراعية والمدنية ثم رحلت بأكبر قواها البشرية والثقافية إلى أوربا، واليهودية تنامت في عالم المدن التجارية حتى وجدت من الغرب السوق التي ازدهرت فيها كل خصالها المالية.
وبعد الغزوات والحروب المشتركة بين هذه الأديان الشقيقة، وهي فترة من العداء والكراهية والخسائر المشتركة، والتلاقح الثقافي كذلك، حلت فترة مختلفة، تكشف أسباب الأطماع والإستغلال وبدأ التفكير في السلام والتآخي!
الحضارة المسيحية – اليهودية غدت هي الحضارة الرأسمالية المسيطرة، والتي صار نموذجها هو المحتذى في كل الدنيا، العناصر المتضافرة من الملكية الفردية والإنتاج الحديث والأسرة والثقافة الإنسانية والديمقراطية هي تتويج تاريخ المشرق، وقد تشكل خارجه.
ولكن المكان الذي نتجت فيه وتطورت منه جاءتْ لتسيطر عليه ودخلت في حروب ضارية معه!
وهو بفقره وتخلفه عاجز عن اللحاق بها.
وفيما يتكاثر المسلمون وتضيق بهم المدن يهاجر مسيحيون ويضيق بهم التعصب الديني، فيما ينحصر اليهودية في دولة مسلحة متوسعة!
كل الزمن السابق، تاريخ قرون العداء اللامجدي، يتجسد بأشكال سياسية مضرة، ولهذا فإن التعايش السلمي وإغلاق صفحات الحروب والعداوة صار ضرورة، خاصة للأغلبية الشعبية من مسلمين ومسيحيين ويهود التي هي ضحايا تجار المعارك والإستغلال والعداوات الدينية والقومية!


عبـــــــدالله خلــــــــيفة أفق
عبـــــــدالله خلــــــــيفة

التشكيلةُ لها تاريخٌ

ككلِ التشيكلات الاقتصادية الاجتماعية كالمشاعية والعبودية وغيرهما التي استمرتْ آلاف السنين، التشكيلةُ الرأسماليةُ لها تاريخ.
عناصرُ العملةِ، والسوق، والعملِ المأجور، والربح، وغيرها كانت منذ أزمنةٍ سحيقة ولكن تداخلها وتكونها كنظامٍ إحتاج إلى مقدماتٍ إجتماعيةٍ طويلة، أهمُها تفككُ الإقطاع، وظهورُ أسواقٍ قومية، ونمو الصناعة، ودرجة معينة من تطور العلوم الطبيعية خاصة، وحدوث فيضٍ سكاني كقواعد واسعةٍ للعمل المأجور.
هذا يتكون عبر عقود ويراكم نظرات فكرية وسياسية جديدة التي تغدو ذروة الظهور، فنلاحظ في ثورة بريطانيا قيام مجلس العموم، أن الثمرةَ قد نضجت، وأن الطبقةَ التي كدست أرباح التجارة والصناعة وصار بيدها قرارُ السوق، صارَ بيدها قرارُ الحكم.
هنا بدأَ ظهورُ التشكيلة الرأسمالية، إنها في بلدٍ واحد فيكف تصيرُ تشكيلةً؟ ربما كان هذا حدثاً إستثنائياً؟
إن البلدان التي أنضجت السوقَ الداخلية بكل تلك العناصر الاقتصادية الاجتماعية الثقافية السابقة الذكر المتداخلة تهيءُ البنيةَ الاجتماعية لقفزةٍ سياسيةٍ تنضمُ بموجبها هذه البنية للتشكيلة.
فالتشكيلةُ ليست حدثاً فردياً فهي نتاجُ تطورِ تلك العناصر من سلعٍ وعملة وعمل مأجور ورأس مال وثقافة ديمقراطية من صحف حرة وعلوم ومدارس صناعية والأهم هو تفككُ الإقطاعِ وإحتضاره ودفعه للملايين نحو السوق الحرة، حيث لا تكون الأرضُ مغلقةً على رأس المال، ولهذا فإن فرنسا وهي تناضلُ ضد الإقطاع وتوزع الأرضَ وتصادرُ أملاكَ الأديرة تحركُ السلعَ ورأس وقوى العمل المأجور.
إذن التشيكلة سيرورةٌ تاريخية تنمو حسب عوالم موضوعية، وليس لأن فرنسا مجاورة لبريطانيا، وربما كان عاملُ القرب مؤثراً، ولكن الأسبابَ العميقة هي في تفتحِ البنية القديمة لنمو العناصر الجديدة وتغلغلها فيها وتجاوزها.
أي تحول تلك العناصر الجديدة بناءً جديداً مغايراً.
من هنا كانت أمريكا الشمالية أقرب لدخول التشكيلة من أسبانيا أو إيطاليا، لكون أمريكا الشمالية بلا تاريخ إقطاعي، وهي أرضٌ حرة للاستثمارات المختلفة، وفيها كافة العناصر التشكيلية البنيوية للرأسمالية، بخلافِ أمريكا الجنوبية التي حولها الغزاةُ الأسبان والبرتغاليون إلى دولٍ تقوم على الإقطاع!
ومن هنا غدت أمريكا بعد فترة تتجاوزُ بلدانَ أوربا الغربية المتفردة بريادة التشكيلة بسبب ضخامة تلك العناصر وغزارتها في بلد هائل الموارد.
ما لم يدرسهُ منظورُ الاشتراكية الأوائل هو السيرورة التاريخية للرأسمالية، وتركزت أنظارهم في ظهور تلك العناصر السابقة الذكر في بناها المعزولة عن النمو التاريخي.
ومن هنا فإن الاشتراكيةَ هي رديفةُ الرأسمالية، هي نقيضُها الملازم، في ظلِ تشكيلةٍ واحدة، هي صراعُ المالكين والمنتجين وتغيير البنية الوطنية لكل دولة في مسارٍ تاريخي لا يتوقف.
تتوجه الرأسمالية في تطورها على الممكنات المباشرة وهي تنمو كعلاقات عالمية، وتزيح عالم الإقطاع العالمي الواسع، الذي يتركز في بعض البلدان الأوربية نفسها، وشرق أوربا وروسيا وما يسمى بالعالم الثالث.
فراحت الرأسمالية الغربية سواء في أوربا الغربية أم أمريكا الشمالية، تنمو وتجمد تطور الدول الأخرى المستعَّمرة خاصةً عن أن تكون رأسماليةً مثلها!
أبقت الرأسماليةُ الغربيةُ الإقطاعَ في بقية الأرض، فهذا نقيضها الذي نفتهُ من أرضها حافظتْ على وجود الكثير من أسسهِ في الخارج، بسبب أنها أتجهت للحصول على المواد الخام والأسواق، وتوجه البلدان الأخرى لذات النمط الانتاجي سوف يدمرُ إقتصادَها.
بين القسمين الأوربي الغربي والأمريكي الشمالي وبين إنتشار الرأسمالية في العالم الآخر ثمة ما يقارب القرن، تمكنت فيه الرأسماليةُ الغربيةُ من التفوق والسيطرة على مفاتيح الصناعة والعلوم، وبعدها تغدو المسافةُ موجودة بينها وبين سائر العالم رغم أن بعض الدول تخترقها، أو تحدث إستثناءات لأسبابٍ خاصة كاليابان وإستراليا. والمسافة تتيح بقاء الدول المؤسِّسة للرأسمالية متفوقةً ولا تتضرر من عولمة الرأسمالية في المرحلة الراهنة.
في الدول غير الغربية فإن نمو الرأسمالية أعتمد على نفس التطور بسببياته السابقة، فكلما إنتشرت العناصر السابقة الذكر وتغلغلتْ في البُنى الاجتماعية، وأصبح الإقطاع يحتضر، فإن التطور الرأسمالي التحولي الشامل يغدو متوجاً بديمقراطيات.
إن التشكيلة الرأسمالية في نموها التحضيري منذ عصر النهضة في أوربا إنتقالاً لعصر الكشوف الجغرافية ثم عصر الصناعة الحرفية إحتاجت عدة قرون، وفي تأسسها بعد ذلك مضت عدةُ قرون، وفي إكتساحها الأرضَ قرنين.
ولهذا فإن الحلول الاشتراكية المؤقتة وسعت تطور الرأسمالية وأختزلت بعض الوقت لكنها لم تكمل مقاربة التشكيلة إلا بعد إزاحتها للعوامل المعرقلة، وعدم الانتصار للتشكيلة في بلدان يعود لجمود العلاقات ما قبل الرأسمالية وعرقلتها للتطور والأشكال الكارثية التي تحدث من عدم التحكم الكلي لقوانين التشكيلة خلال ذلك، وهي تحدث لعوامل قومية مضمرة لم تنتشر فيها العلاقاتُ البضاعيةُ النقدية والعلاقات الديمقراطية بعمق خلال عقود، وتحدث لها صدمة من دخول هذه العلاقات ومع كل ما يترافق معها من ضربات للعالم التقليدي الذي عاشت فيه على مدى قرون سابقة.


back to top