عبـــــــدالله خلــــــــيفة : حياة متشظية في القصص الأخيرة
الواقع المنهار، والعلاقات الهامشية، وحياة الناس التي تتحول بسرعة إلى قهوة مُرّةُ المذاق، لا يستسيغها اصحابها ولا الآخرون، ووحدهم من يبنون على مآسي الناس ثرواتهم يرفلون بالفرح والحياة المتخمة، والحلم بالمستقبل.
شخصيات قصص عبـــــــدالله خلــــــــيفة الآخيرة مركبة من حيوات صحفيين وكتاب مجهضة احلامهم، كبروا وهم يتجرعون الفقر والبؤس ويتذكرون أيام السجن، وقد غدوا نفوساً ميتة وأكثر موتاً من ” نفوس” الكاتب الروسي نيقولاي غوغول في روايته الخالدة ” نفوس ميتة ” في مجتمع ــ علاقاته هشة ــ يلهث أفراده وراء الكماليات والبحث عن الحقوق الضائعة، والمعاناة اليومية.
نساؤه جميلات وذكيات أذابت سنوات العنوسة، والعمل الوظيفي الروتيني جمالهن وذكائهن، وجعلتهن يستعدن أيامهن الماضية، ناحبات وباكيات على مكاتب الوظائف، وهن يجترّن حكايات مُعادة عن المكياج، وآخر النمائم في أقسام العمل، حالمات بالفارس الذي لا يأتي أبداً، وإذا شاء الحظ الحسن وجاء، فإنه سيكون شيخاً هرماً حطمته السنوات، وأكل كبده الكحول وأتلفت روحه الحياة المُحبطة، التي قضاها في هذه الوظيفة، وذلك العمل، وهو يحاول أن يرضي مديره الفلاني ومسؤوله العلاني لكي لا يقطع أسباب عيشه. أما المتزوجات فقد ترهلن وامتلأت أجسادهن بالشحم واللحم، وهن يعشن المعاناة اليومية مع الزوج الباحث عن سعادته في أمكنة خارج بيت الزوجية في البارات ودور اللهو، وديوانيات الأصدقاء، وهن يحكين معاناتهن المريرة مع الأطفال وأمراض أرتفاع السكر وأرتفاع ضغط الدم، ومتطلبات الحياة.
وضعنا القاص عبـــــــدالله خلــــــــيفة في كل فقرة من فقرات قصصه الأربع في أزقة المحرق والبحرين، تلك الأزقة الضيقة التي يتذكر من خلالها القاص خليفة طفولته وشبابه في منطقة القضيبية والحورة ورأس الرمان والفاضل والعوضية، حيث بيوت العمال والفقراء من البحارة والصيادين والباحثين عن اللؤلؤ من أهل البحرين في الفترة التي سبقت اكتشاف ثروة النفط، والكاتب سجل في قصصه لمحات من جهاد الأباء في توفير العيش الكريم والتعليم للأبناء، ومن يقرأ القصص يحب الشعب البحريني البسيط والطيب، الذي تآخى أفراده في المسرات والأوجاع.
حكايات مركبة
بطل قصته الضمير[2] لا يجد عملاً شريفاً يعيش منه بكرامة في قريته المنعزلة، فيمارس السرقة واعمال الرذيلة ليلاً، وفي الصباح يمارس النفاق الاجتماعي كشاب شريف، فيظهر مع المصلين وشيوخ الجوامع، وجبينه ينقط ورعاً وزهداً في الحياة، وهو ليس وحيداً في هذا التشظي النفسي، والصراع المرير بين احتياجاته التي لا تلبى وفق القانون ولكنها تلبى بالخروج على القانون، وبدل أن يحصل على اللقمة الحلال تصير لقمته حراماً خالصاً، ولكي يبرر سلامة موقفه مع ضميره، يقارن نفسه بشيخ الجامع عبد الباسط، الذي لا يتقي الله تعالى ويفعل ما يفعل في الخفاء، فيقول عنه بمنللوج مؤثر: ” يلمح الشيخ عبد الباسط .. أنه متصل برموز السماء.. فلماذا لا يطبق بقبضته على عنقه؟ أهو سر من السماء تعطيه فرصاً لكي يتوب ؟ “
بطل قصة الضمير يذهب ليلاً ليسرق بيت أحد بخلاء قريته، الذي يعيش في بيت متداع ويخفي أمواله في حفرة في إحدى الغرف، وعندما ينجح بإخراج المال المدفون يواجهه عند الخروج شخص ما من داخل البيت، فيقتله بطعنة سكين وفي لحظة القتل عرف أنه قتل سامي الترابي، ومن المفارقات انه لا يقبض عليه لجرائمه في السرقة، والقتل بل يلقى عليه القبض من قبل الشرطة ظنأً منهم أنه من المشاركين في إحدى المظاهرات المناوئة للحكومة.
القصة لدى القاص عبـــــــدالله خلــــــــيفة حكاية مركبة من عدة حكايات، ولكنها تقود في النهاية إلى مسلمات سردية تطرح أشكالية المواطن مع السلطة القاهرة التي لا تعطي ولكنها تاخذ، السلطة القامعة الغبية التي لا يهمها ما يحدث من حوادث تخل بالأمن للمواطنين بقدر اهتمامها بالقمع السياسي.
شخصيات عدمية
وفي قصة «الموت حباً»[3] المهداة إلى ذكرى محمد الماجد، يضعنا القاص أمام أنموذج شاعر كبير، تم تحويله إلى شاعر عدمي، فمن الممارسات التي وقعت عليه وحولته، أنه بالرغم من موهبته الشعرية الكبيرة شغلوه في الجريدة بعمل روتيني لا إبداع فيه، ومثلما عبر السارد عن ذلك العمل ساخراً ” لقد عُين برتبة راد على رسائل القراء ” ” ظن أنه سيعطيه منصباً لكن ها هو يدخل تلة من رسائل القراء ليرد عليها ” ولكي يعيش كباقي خلق الله تعالى، ولأنه مفلس من الأموال عمل عملاً إضافياً بعد الظهر “اعتزل الصخب في غرفة مصرف يعد النقود والأرباح لغيره “.
وبالرغم من الشخصيات العدمية والمُعقدة في الموت حباً، إلا اننا لا نجد فارقاً كبيراً بين شخصية محمد ومحمود وخميس، ولكن يبقى كل واحد منهم يكمل الآخر في عدميته وعُقده النفسية، يقول محمد متعجباً لزوجته التي أنجبت منه طفلاً: ” ثمة إبن لي ؟ أنا اللامنتمي صرت أباً ؟ أنا الضائع في هذا الوجود مددت جذوراً في الأرض الواسعة، لم أعد نطفة بل قبيلة ! ” يقول محمود الذي هو كاتب قصة لمحمد : ” لو أنك أبصرت يا محمد نصيب مدير الاعمال من صاحبتك الساحرة وكيف صار مقاولاً وصرافاً لبكيت على حظوظنا في هذه الجريدة .. لقد حجموا قصتي من أجل إعلانه !! ” يموت محمود القاص من ضخامة الجسم وكثرة الأكل ومات خميس بحادثة سيارة، ومحمد صار عجوزاً متداعياً بعد أن أدمن على شرب الكحول وأصيب بتشمع الكبد، وتوقف عن إبداعه الشعري الذي كان يبشر بموهبة كبيرة !!
في قصة « الأسود »[4] يتهكم القاص من حياة بطله الصحفي ” إدريس الماجد ” الموظف في الإذاعة، الذي يبحث لولده سالم الصحفي عن فرصة زواج من فتاة بيضاء جميلة، لتحسين جينات العائلة، فيطلب من أبنه أن لا يتزوج صديقته الصحفية جوهرة، التي احبها وكان ينوي الزواج منها، لأن سحنتها تميل إلى السواد، والمفارقة أن إدريس الأب ينحدر من سلالة البحارة البسطاء، الذين لوحت وجوههم الشمس، فهو يقول عنهم في منللوج مؤثر ” ما زالت النوارس ترفرف والموج يصطخب والحياة تتدفق من تحت الأسلاك الشائكة، والبحارة ما زالوا يصارعون القارب المتغلغل بين الحصى وينزفون الماء ويكسرون أسنان البحر . “
إلا أن جوهرة كانت مصرة على الزواج من سالم الأبن لأنها علمته النزول إلى الحياة والناس، وأن وجهه لوحته الشمس الآن مثل وجهها، وأنهما ملح الأرض، مهما بلغت ثقافتهما ودرجتهما الوظيفية، وفي القصة الرابعة «عالية»[5] وضعنا القاص عبـــــــدالله خلــــــــيفة ازاء ما يُحكى على مكاتب الصحفيين بين الصحفيات والصحفيين، فنعيش مع صحفيات عانسات يندبن حظوظهن، وصحفيين تعدت أعمارهم سن الشباب وفاتهم قطار الزواج، نور، هالة، يصف الأخيرة: ” وجه متناسق، شعر منسرح على جبينها، أنف وفم دقيقان وقامة معتدلة ” فيتذكر كيف أنه طلب فتاة من أبيها للزواج فيما مضى من السنوات، فسأله الأب باحتقار ” ومن أنت ؟ ” وغادره، وآخر سأله عن قبيلته، وغادره من دون أن يسمع إجابته، وأزاء هذا الجزء من المجتمع الرافض لذاته، يعود السارد بذاكرته إلى ماضي البحرين ليعيد تشكيله في الحاضر من خلال تقنية عين الكاميرا السينمائية ” البحارة هياكل عظمية، يلبسون ثيابهم في البراحات الباردة، مسامير السفن الصدئة، الغزاة يغرقون، ثلة في المقاعد الأولى تنهض وتنفض الغبار خلفها “.
القصص الأربع الأخيرة للراوئي عبـــــــدالله خلــــــــيفة.. حياة متشظية لجميع أبطالها، والقصص نشرتها إحدى الجرائد البحرينية الرئيسية في المملكة البحرينية، وقد رسمت لوحة بانورامية للحياة في المجتمعات الخليجية النفطية، التي شهدت طفرات اقتصادية كبيرة في العقود السبع الأخيرة، ولم تواكبها رؤى متطورة، اجتماعية وثقافية وسياسية شاملة، لمواكبة التغييرات في حياة الناس، ورسم صورة مدروسة لمستقبلهم ومستقبل الأجيال الجديدة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(2) قصة الضمير نشرت في ثقافية جريدة أخبار الخليج العدد 13154 في 29 مارس 2014.
(3) قصة الموت حباً نشرت في ثقافية جريدة أخبار الخليج العدد 13147في 22 مارس 2014.
(4) قصة الأسود نشرت في ثقافية جريدة أخبار الخليج العدد 13140 في 15 مارس 2014.
(5) قصة عالية نشرت في ثقافية جريدة أخبار الخليج العدد 13133 في 8 مارس 2014.
فيصل عبدالحسن : كاتب عراقي مقيم في المغرب
__ATA.cmd.push(function() { __ATA.initDynamicSlot({ id: 'atatags-26942-612ecef9205d5', location: 120, formFactor: '001', label: { text: 'الإعلانات', }, creative: { reportAd: { text: 'الإبلاغ عن هذا الإعلان', }, privacySettings: { text: 'الخصوصية', } } }); });

