هل الشعوب الخليجية مستعدة لاستحقاقات الديمقراطية؟

في السنوات الطويلة التي قضيتها في الخارج وتنقلت فيها في أكثر من دولة، كانت الأسئلة حول بلدي تنهمر كالمطر، والاتهامات المعلبة جاهزة، فالصورة المتخيلة للحياة في بلادنا خاصة ودول الخليج العربي عامة هي صورة مخيفة غذتها وسائل إعلام متحاملة على العرب والمسلمين وحاقدة على دول الخليج النفطية بشكل أساسي. فهم يتخيلون بلداناً تُقطع فيها الأيدي والأرجل بحسب تعبيرهم، ولكل رجل فيها أربعة نساء، وهؤلاء النسوة مقيدات بلا حقوق، والأطفال يتعلمون كيف يقتلون الغربيين في المدارس، والجمال تسرح وتمرح في شوارعنا سعيدة !


قد تبدو هذه الصورة كاريكتورية بعض الشيء، لكنني صدقاً وجدتها مازالت في أذهان بعض المتعلمين والمثقفين حتى في عصر الإنترنت، وهي بلدان لا يتمنون زيارتها أبداً إلا من باب تصوير عجائب الدنيا والفوز بلقطة العام ربما في مسابقة دولية للتصوير الرقمي ! لكن كل ذلك يتغير ويبدأ بعضهم بالسؤال عن فرص العمل فيها حالما يسمعون بالحقيقة التالية : هذه بلدان ليس فيها ضرائب ! عندها سيخفت الحديث عن الديمقراطية والحرية وغيرها لصالح المكسب المادي، فالمواطن الأوربي أو الأمريكي البسيط، لا يبدو معنياً كثيراً بمن يحكم بلده أو كيف يحكم، وربما لم يذهب لمقر إنتخابي منذ سنوات، وما يفكر فيه في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة هو كيف ينمي مدخراته ويشتري بيته الحلم ويستمتع بحياته.


ينشط الكثير من الشباب الخليجي هذه الأيام في المطالبة بالمزيد من الاصلاحات والحريات والمشاركة الشعبية، وهو أمر محمودٌ ما دام يتم في النور وبشكل سلمي ولا يهدد مصالح الأوطان أو يعمد للإساءة إليها أو الاستقواء بالخارج بحال من الأحوال، وهؤلاء الناشطون كثيراً ما ينظرون بإكبار إلى النماذج الغربية في احترام حقوق الإنسان والأقليات ووجود قوانين صارمة منظمة تطبق على الجميع وعلى حسن الإدارة والنظافة والنظام وجودة التعليم والرعاية الصحية وغيرها في تلك الدول. وهي أمور مثيرة للإعجاب حتماً، ولكن السؤال الذي يثير اهتمامي هو هل يعي هؤلاء الشباب الوجه الآخر للعملة؟ 


هذا المقال ليس للتخويف من الديمقراطية ولا التقليل من أهمية المشاركة الشعبية، وإنما رغبة في إثارة النقاش حول استحقاقات هذه التغييرات، وهل هذه " الحقوق " مطروحة بالتوازي مع " الواجبات " في أذهان المتحمسين لها؟ فالعلاقة بين الدولة والشعب في منطقة الخليج تكاد تكون فريدة من نوعها، فالدولة توفر " نظرياً على الأقل " لمواطنها كل شيء مجاناً : الصحة والتعليم ( من المرحلة الابتدائية وحتى الجامعة ) والتدريب والابتعاث ومنحة الأرض وقرض السكن وتنظيم وتنظيف الأحياء وصيانة الشوارع والغذاء المدعوم والطاقة الرخيصة، وهي أمور يأخذها المواطن الخليجي كمسلمات بل وواجبات غير قابلة للنقاش، فمجانية كل شيء في الحياة وعقلية الهبات والمنح والمكرمات راسخة في ذهنه. وفي المقابل فإن مساهمة هذا المواطن في صنع القرار، وفي المشاركة الشعبية، وحريته في التعبير بالقول أو الفعل ( الاعتصامات والاضرابات ) تعد منخفضة كثيراً بالمعيار الدولي.


يمارس المواطن الغربي بطريقة يحسد عليها حقه الديمقراطي والانتخابي في الانتخابات البلدية والبرلمانية والرئاسية ( في الجمهوريات ) وحرية التعبير ومحاسبة حكومته التي لا بد أن تدير البلاد ومواردها بشفافية، لكنه في المقابل أن يلتزم بقوانين صارمة ويدفع سلسلة من الضرائب اللامنتهية، وهي ضرائب قد لا يحس بها الكثير من الطلبة المبتعثين لهذه الدول لكونهم " طلبة " معفون من جلها، لكن فيما لو توظف أحدهم هناك فسيشعر بها حتماً. فهناك ضرائب دخل سواء كنت موظفاً أو رجل أعمال أو حتى مصمم صفحات ويب أو كاتب مقالة يومية تعمل من بيتك ( قد تصل إلى ٤٠٪ في بريطانيا بحسب الدخل الشهري ) ، وهناك ضرائب على المدخرات، وضرائب بلدية حسب منطقة السكن، وضرائب على البيت الذي يملكه المرء، وأخرى تعليميةوصحية وبيئية وضرائب على المواصلات الخاصة والعامة بما فيها الشوارع والخطوط السريعة، وضريبة على الطعام والشراب وكل شيء يُبتاع بما في ذلك الملابس والأدوات الكهربائية والأثاث، في حين تعفي معظم هذه الدول الضرائب على الأمور المتعلقة بالثقافة كالكتب وغيرها.


وأجد شخصياً الأمور في أمريكا أصعب من أوربا، فمع أن ضرائب أوربا قد تكون أعلى من مثيلاتها في أمريكا، إلا أن الدول هناك تقدم مقابلاً مقبولاً للناس من حيث هناك شبه مجانية في التعليم والصحة ودعم كبير من قبل الدولة للفقراء وللنساء العازبات وللأطفال والعجائز وغيرهم. في حين أن المواطن الأمريكي عليه يكاد لا يحصل على شيء مجاناً، والمشردون في شوارع واشنطن ونيويورك بالآلآف. لن أسترسل حتى لا يُفهم من ما ذكرته هنا أنني أحاول تصوير الوضع في دول الخليج على أنه وردي وبالمقابل شيطنة الوضع في الدول الغربية المتقدمة، فأخشى ما أخشاه أن يصنف المقال في خانة " الحمد لله نحن أحسن من غيرنا " أو " الله لا يغير علينا " أو " احمدوا ربكم شوفوا الناس كيف عايشين " ، فالحمد لله دوماً وأبداً ولكن هناك فرق بين حمد الله وبين القبول بما يجب أن يتغير لمصلحة البلاد والعباد.


الفكرة هي أن لكل تغيير إيجابي استحقاقات أخرى قد تكون سلبية على الصعيد الشخصي ( من يريد أن يستلم راتباً نُزع منه ٤٠٪ من قيمته مثلاً !) ولكنها مفيده للصالح العام، فأصحاب المباديء ومن يرون الصورة الأكبر يدركون ذلك، ومع ذلك يواصلون مساعيهم لتحقيق ما يرونه صواباً وفي مصلحة أوطانهم، وهم مستعدون لكل هذه الاستحقاقات ما دامت لن تستثني أحداً، وما دامت ستصب في عدالة توزيع الثروات والمسؤوليات وفي حسن إدارة البلدان، وهؤلاء يستحقوق الاحترام لذلك. أما الفئات الأخرى، فهم الذين يعتقدون أنهم يستطيعون أن يغيروا ما يريدون تغييره فقط في حين تظل الأمور التي تعجبهم على حالها، وكأن النفط باقٍ للأبد، أو أن أسعاره ستستمر في الصعود إلى ما لا نهاية، وأن الموازنات السنوية لا تتعرض لاهتزازات لظروف داخلية وخارجية، وأن عدد السكان لا يتضاعف مسبباً ضغطاً على الموارد ( التي لا تزيد بدورها ) والمرافق وغيرها، وهؤلاء هم الذين عليهم أن يفكروا ملياً فيما يطالبون به، فلا شيء بلا ثمن..حتى الحرية .


المقال كما نشر في الوطن


 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 18, 2012 13:37
No comments have been added yet.


مرام عبد الرحمن مكاوي's Blog

مرام عبد الرحمن مكاوي
مرام عبد الرحمن مكاوي isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow مرام عبد الرحمن مكاوي's blog with rss.