ساكي (الراوي)
[image error]
كان يوما حارا، تصاعدت فيه ذروة الحرارة بعد الظهيرة داخل عربة قطار؛ كان يقصد تمْبِلْكومب ببريطانيا، والتي تبعد قرابة ساعة وصولا.. وبداخل إحدى عرباته تواجدت فتاة صغيرة وفتاة تصغرها سنا وولد آخر صغير. اتخذت خالتهم لنفسها مقعدا في جانب العربة وفي الركن المقابل لها كان يوجد رجل أعزب لا يعرفونه. كان الفتاتان والولد الصغير في كل أنحاء العربة كأنهم يمتلكونها والخالة غير القادرة على السيطرة عليهم ظلت تقول لهم “لا تفعلوا كذا وكذا..” بينما يرد عليها الأطفال “لماذا؟” في حين كان الأعزب لا يقول شيئا.
“سيريل… لا… يا ولد!” قالتها للولد حينما بدأ يضرب وسائد المقعد محدثا سُحبا من التراب المتطاير منها. “تعال إلىَّ هنا… وانظر من النافذة” على مضض، جر الولد نفسه إلى النافذة وسألها بغتة. “لماذا تقُتاد تلك الخراف خارج الحقل؟”
“أعتقد أنهم يأخذونهم إلى مراعٍ أخرى أغزر خضرة”
أردف معترضا:
ولكن يوجد فعلا الكثير من العشب في ذلك الحقل!
وأكمل “لا يوجد شيء هنا سوى العشب يا خالتي ولا شيء غيره في هذا الحقل!”
“ربما الحشائش في الحقول الأخرى أفضل” بسذاجة قالتها..
جاء سؤاله بديهيا – ولماذا ذاك العشب أفضل؟
حينئذ هتفت الخالة “آه… انظروا إلى تلك الأبقار!”
تقريبا لم يخلُ حقل من تواجد عددا من الأبقار والثيران، ولكنها قالت ذلك كما لو كان حدثا غير اعتيادي.
– لماذا الحشائش في الحقول الأخرى أفضل؟
داوم سيريل سؤالها وكان العبوس على وجه الأعزب قد تعمق به وصولا للتجْهم. حينما رأته الخالة على حالته هذه حدثت لنفسها أنه حتماً رجل لئيم وغير ودود، وأنه لربما يضحك الآن لأنها لم تجد تفسيرا مجديا لسؤال الولد بشأن الحشائش في الحقل. في حين ارتأت الفتاة الصغرى تسلية نفسها وتسلية الجميع بالبدء في سرد قصيدة تحفظها. كانت تحفظ البيت الأول فقط ولكنها استخدمته أكثر مما ينبغي. ظلت تردد البيت مرارا وتكرارا بصوت حالم تفتقر نبرته إلى الهدوء. اعتقد الأعزب أن أحدهم قد راهنها قبل صعودها القطار أنها لن تقدر على ترديد نفس البيت ألفي مرة تواليا دون توقف. لسوء حظ مُراهِنها والأعزب يبدو أنها كانت متجهة للفوز بالرهان.
قالت الخالة “تعالي هنا… واستمعي إلى قصة” حينئذ حدجها الأعزب بنظره وبدا كما لو كان سيُجد في طلب مُحصل التذاكر. اتجه الصِبْية ناحية خالتهم بلا حماس. لم يخالجهم الظن أن خالتهم قد تكون راوية قصص جيدة. بصوت هادئ لم يقطعه غير ضجيج أسئلة الأطفال، بدأت الخالة قصة غير مثيرة للاهتمام بالمرة تدور حول طفلة صغيرة طيبة المعشر، لكونها طيبة كونت صداقات عِدة وفى الأخيرة أنقذت من حوافر ثور هائج بواسطة الأشخاص الذين أعجبوا بكونها طيبة المِعشر.
“هل كانوا سينقذونها أيضاً إذ لم تكُن طيبة؟” سألت الأخت الكبرى من الفتاتين الصغيرتين. كان هو نفسه السؤال الدائر في خلد الأعزب وأراد أن يسأله.
أجابت الخالة – بالتأكيد، نعم.
واستطرت لائمة – ولكن لا أعتقد أنهم كانوا سيهرعون لإنقاذها بسرعة لو لم يكن يحبونها كثيراً.
“إنها أغبى قصة سمعتها بحياتي” قالتها الفتاة الكبرى بينهما وهي تتشدق بكل كلمة وتعطيها حقها.
وقال سيريل “أنا لم أعد أستمع بعد الجزء الأول، لأنه كان سخيفا جدا” واكتفت الفتاة الأصغر بعدم التعليق ولكن لم يستغرقها الأمر طويلا حتى بدأت تكرر البيت الأول من القصيدة مجددا فوزا بالرهان.
“يبدو أنك لا تبدين قاصة بارعة” قالها الأعزب فجأة.
على الفور اتخذت الخالة موقفا عدائيا تجاه هذا الهجوم غير المتوقع منه وقالت له باقتضاب “إنه من الصعب سرد قصص مفهومة وشيقة في ذات الوقت!”
رد بسرعة “اختلف معك تماما”
“ربما تود أن تحكي لهم حكاية، أرنا شطارتك!” ألقت الخالة سؤالها نحوه..
الفتاة الكبرى توا ما قالت ذلك قالت “قل لنا حكاية”
بدأ العازب قصته قائلا:
“في يوم من الأيام، كانت هناك فتاة صغيرة تُدعى بيرتا، وكانت فتاة طيبة للغاية” بدأ اهتمام الأطفال اللحظي يتلاشى. بدت لهم كل القصص سيان بغض النظر عمن كان قائلها، بدت كلها متشابهة كما هي.
“كانت دائما تفعل ما تُؤمر به، صادقة القول. تُبقي ثيابها مهندمة ونظيفة وتتناول طعاما ذا فائدة لها وليست تلك الوجبات الجاهزة السريعة والحلوى. تحصد درجات جيدة في دراستها وكانت مؤدبة تجاه الجميع”
“هل كانت جميلة؟” قالتها الفتاة الصغرى ببراءة..
أجاب مبتسما “ليست بجَمَال أحدكم” وأكمل “ولكنها كانت شنيعة الطيبة”
أعجب الأطفال لهذا الجزء من القصة، فارتباط كلمة الشناعة مع الطيبة في جملة واحدة كان شيئا جديدا على أذنهم وأعجبوا بذلك. كانت تبدو قصة حقيقية وصادقة على عكس قصص الخالة عن الأطفال.
أسهب الأعزب “كانت جدا جيدة لدرجة أنهم أعطوها أوْسِمة عديدة لطيبتها الشديدة، وكانت ترتديها دائما بواسطة دبابيس تثبت بزيها. وسام لاتباع الأوامر وآخر لعدم تخلفها عن المواعيد والأخير للسلوك الجيد الرزين. كانت أوسمة كبيرة من الحديد وكان يضرب بعضها بعضا كلما سارت فتحدث صلصلة وضجيجا بمشيتها. كان لا يوجد في البلدة غيرها لديه ثلاث أوسمة على صدره مرة واحدة لذلك عرف جميع من بالبلدة أنها بالغة الطيبة”
“شنيعة الطيبة” قالها سيريل مصححاً.. أكمل الراوي “وكل البلدة تحدثت عن مدى طيبتها حتى ذاع صيتها وعلم بأمرها أمير البلاد وقرر منحها نزهة كل أسبوع في حديقته الخاصة خارج البلدة. كانت حديقة رائعة بحق وكانت سابقة أولى وكان شرفا عظيما تناله بيرتا إذ لم يكن يسمح بدخول الأطفال بها من قبل.”
“هل كان ثمة خراف في هذه الحديقة؟” تساءل سيريل..
“لا” وأتبع “لم يكن يوجد البتة”
“ولماذا لا يوجد؟” لم يكن ثمة مفر من هذا السؤال إذن، وارتسم ثغر الخالة بابتسامة تشفيا به.
“لم يوجد أي خراف في تلك الحديقة لأن والدة الأمير واتها رؤية ذات ليلة مفادها بأن ابنها سيموت بواسطة شاه أو بواسطة ساعة حائط تنزل على رأسه فتشجه، لذلك الأمير لم يحتفظ بأي خراف في مزرعة أو ساعة حائط في قصره المهيب”
ابتلعت الخالة شهقة إعجاب بإجابة الأعزب على وجهها، كيف وهو الذي تفادى هذا السؤال الصعب.
“هل مات الأمير بواسطة ساعة حائط أو شاه؟ ” قالها سيريل باستفهام..
“لا نعرف بعد فما زاله حيا يُرزق لذلك نحن لا نعرف صحة الحلم من عدمه!”
“على أي حال. لم يوجد أي خراف في الحديقة ولكن كان يوجد قطعان من الخنازير تعيث فسادا في كل أنحاء الحديقة”
“ما كان لونها؟”
” البعض منها سوداء مع وجوه بيض، والبعض أبيض مع رقط سود، والبعض مكتمل السواد والبعض رمادية مع رقع بيضاء في حين تناثرت بعض من الخنازير البيضاء هنا وهناك”
توقف الراوي عن السرد برهة ليترك العنان لخيال الأطفال التحرر وخلق كل هذه الأشياء معا ثم أتبع قائلا “كانت بيرتا مستاءة لأنها لم تجد زهورا في الحديقة. بالدمع يسبقها كانت قد وعدت خالاتها ألا تقطف زهرة واحدة من هناك وحينما أرادت ‘يفاء وعدها وجدت نفسها ويالا السخف في حديقة بلا زهور من الأساس للقطف!”
“لماذا لم يوجد بالحديقة أي أزهار؟”
قال بسرعة “لأن الخنازير التهمت إياها وكان بستانيو الأمير عدة تشاوروا معه على أنه لا يقدر على الاحتفاظ بكل منِ الزهور والخنازير معا فأثر الأمير الاحتفاظ بالخنازير ونسيان أمر الزهور”
أزهرت وجوه الأولاد بهجة لاختيار الأمير وحيث أن عديدا من الناس كانوا سيختارون -إن خيروا-الزهور على الخنازير.
“كان يوجد في الحديقة أشياء جميلة للرؤية مريحة للعين تسر الناظرين، بحيرات بها أسماك ملونة ذهبية، وزرقاء، وخضراء، وهنالك أشجار سامقة بها ببغاوات متكلمة وطيور الطنان تترنم بألحان جميلة”
“راحت بيرتا تذرع الحديقة جيئة وذهابا محدثة نفسها مزهوة بأنها إن لم تكن على ذلك القدر من الطيبة ما سمحوا لها بأن تطأ عشب الحديقة وتتمتع فيها وجلجلة صوت الأوسمة ذكرتها هي الأخرى بذلك ولم تدرِ أن هناك ذئب كبير أتى للحديقة متربصا لخنزير صغير يراه عشاءه”
الأطفال في نفس واحد والذي بدا اهتمامهم جليا بالقصة “ماذا كان لون الذئب؟”
“كان الطين يغطيه كله، ذو لسان أسود وعينان رماديتين كالحتين يطل منهما الشرر”
“أول ما رأى… رأى بيرتا في الحديقة، لم يكن يوما مناسبا لارتداء فستانها الأبيض الناصع كالثلج، كان يمكن رؤيتها به من ميل!”
“تلجمت بيرتا من الخوف عندما وجدت الذئب يقترب نحوها وتمنت لو أنها لم تدعى إلى الحديقة من البداية. جرت بأسرع ما حملتها عليه قدماها والذئب يجري في إثرها بوثبات وقفزات متتابعة وأفلحت في أن تصل إلى أجمَّة واختبأت خلفها. تشمَّم الذئب الأجمة التي تختبأ خلفها وهي استرقت النظر عبر فتحة بها فرأت لسانه الأسود الفاحم بارزا من فمه وعينه تلتمع بالغضب. اعترى بيرتا خوف عظيم ولعنت طيبتها التي ورطتها بهذا الرعب وظنت أنها إن لم تكن بمثل هذه الطيبة كانت وقتها آمنة على حياتها في بلدتها!”
“كانت رائحة الآجام والأغصان من القوة بحيث لم تسمح لرائحة الفتاة البضة أن تعبر إلى الذئب أو حتى يرى بيرتا عبرها فيأس الأخير وقرر أن يعاود صيد الخنازير عوضا عنها”
“كانت بيرتا خائفة للغاية من الذئب، وبدأت أعضاؤها تصطك من الخوف معا مع أوسمتها للطيبة وتخشخش مع الأجمة. التف الذئب من جديد حينما سمع ذلك وأصغى السمع عبر الآجام حينما خشخشت مرة أخرى خوفا. اندفع عبر أجمتها بعينيه البارقتين وسحب جسد بيرتا خارجا وأكلها كلها إلى آخر قطعة، ولم يُبقِ منها إلا حذاءها وقطعة من ثيابها وعليها الثلاث أوسمة الخاصة بالطيبة.
“هل قَتَل بعدها أي من الخنازير؟”
“لا… كلهم هربوا”
قالت الطفلة الأصغر منهما ” بدأت القصة سيئة في البداية” وتوقفت “وانتهت بنهاية جميلة”
وبسرعة قالت الطفلة الكبرى يعتليها الجدية “هذه أجمل قصة سمعتها في حياتي”
وقال سيريل “هذه القصة الوحيدة التي أكملت سماعها لآخرها”
وقالت الخالة معقبة “كانت هذه القصة غير ملائمة للقول أمام أطفال! لقد هدمت سنينا من التعليم القويم”
“على أي حال” قالها الأعزب وهو يجمع أشياءه من العربة لكي يغادر القطار واستطرد “على الأقل استطعت أن أبقيهم ساكنين لمدة عشر دقائق وهذا أفضل مما استطعتِ أنتِ فعله”
وقال محدثا نفسه “امرأة مسكينة” وهو يعبر الرصيف الخاص بمحطة تمبلكومب، ولست أشهر قادمة، ترجَّى الأطفال الخالة على الملأ لتخبرهم قصة غير ملائمة.