عبـــــــدالله خلــــــــيفة :صراعُ الطوائفِ والطبقاتِ في العراق
كان النظامُ العراقي السابقُ يمثل مركزيةً قوية شديدة ضد مكونات المجتمع العراقي، وحين انهار عادت هذه المكونات إلى سابق عهدها فيما قبل الدولة المركزية. لقد عاد المجتمعُ الإقطاعيُّ المتحركُ صوب الرأسمالية بفوضوية وبغيرعقلانية إلى تجمعاته الدينية والعشائرية والمناطقية المختلفة، بكل إرثها المحافظ المتخلف، فظهرت كياناتُ الجنوبِ والوسط والشمال. وإذا كان الشمالُ الكردي تسيطر عليه القوميةُ الكردية، وهي الممنوعةُ من تشكيلِ وطنٍ قومي لها، فتظلُ مترجرجةً بين الكيان الوطني العراقي وكيانٍ قومي مُفترض ومرفوض إقليمياً وعالمياً، فإن الكيانين العربيين الجنوبي والوسطي اللذين كانت توحدهما القوميةُ العربية صارا كيانين مذهبيين سياسيين منفصلين يفرقهما ما يُزعم إنه إسلام عبر ارتكاز النظام السابق على منطقة وطائفة دون منطقة وطائفة أخريين.
لقد كونت الدولةَ العراقية خلال نصف قرن الماضي الفئةُ البيروقراطية العسكرية والمدنية المتحالفة مع كبار التجار والمستثمرين وملاك الأرض ورؤوساء العشائر، وتمثل ذلك في جهاز الدولة العسكري خاصةً وحزب البعث، ولم تكن لهذه الفئات استقلاليةً عن الجهازين العسكري والسياسي، أو قدرةً على إنتاج ثقافة وطنية تصهرُ الشعبَ في كلٍ موحد، بل على العكس فارق الشعبُ الثقافةَ الشعارية السياسية المنتجة من قبل النظام، بسبب إدخالها إياه في حروب كارثية وقمع وتشرد ثم حصار، فكانت الهزيمة العسكرية إعلاناً بتمزقِ كلِ شيء، وكل رابطة توحيدية.
وخلال الضربة العسكرية وتصفية الوجود المادي للنظام السابق، تشكلت قوى سياسية جديدة متنفذة من سرقة أموال الدولة السابقة ومن خلال النهب السريع الواسع للثروة الوطنية، فتشكلت مجموعاتٌ استولت(على الأراضي ووزعتها على المؤيدين لها)، (من كتاب الاحتلال الأمريكي وانهيار الدولة العراقية، للباحث د. لطفي حاتم). وفي تحليل للحزب الشيوعي العراقي اعتبر عمليات النهب تلك صادرةً عن قوى إجرامية غير محددة الهوية الاجتماعية.
ظهرت مرجعيتان كبريان هما المرجعية العشائرية والمرجعية الدينية احتلت الإقالمي الثلاثة، فقد سبق للإقليم الكردي أن جعلهما مسيطرتين لكن من خلال الحزبين الكرديين المهيمنين. وبناءً على تحولهما إلى أساس سياسي للدولة العراقية الجديدة، فقد انتفت المرجعيةُ الديمقراطيةُ المُفترضة من تكوين يُقام على أساس مذهبي مناطقي، فمن يعينُ النوابَ حقيقةً هي المرجعيات الطائفية، وليس الانتخاب الحر في بلد يمتلك فيه المواطنون الحرية السياسية والعيش المستقر.
وبهذا فقد تم وضع الأساس لانقسام العراق إلى دول ثلاث، فظهرت كياناتٌ إدارية لهذه الدويلات، وظهر كذلك كيانٌ حكومي موحد، هو تجميعٌ للكيانات الثلاثة على صعيد العاصمة، فهي تشكيلات سياسية فوقية إذا امتدت للجمهور تمتد كجذور مذهبية وإقطاعية متعددة المشارب.
واعتبرت القوى المؤثرةُ ذلك الانقسام بكونه فيدرالية، أي أنه ثلاث أقاليم مستقلة في بعض الخدمات ولكن تبقى هناك دولة مركزية وأساسها الجيش والبرلمان الموحد وغير ذلك من المؤسسات الاتحادية، لكن ذلك يبقى نصوصاً مكتوبة وليس واقعاً إلا إذا استطاعت المؤسسات التوحيدية أن تشكل جيشاً وطنياً حقيقياً.
لم يظهر عراقُ الطائفية والعشائرية الراهن كجسمٍ سوداوي سحري ظهر من باطن الأرض فجأة، بل تشكل خلال العقود الأخيرة ببطء، وكان موجوداً في كل المكونات الاجتماعية والثقافية.
لقد كان حزبُ البعث المفترض كجسمٍ سياسي علماني قومي ينزلقُ نحو هذا اليمين المحافظ بصورة مستمرة، فكان عداؤه التاريخي للحزب الشيوعي العراقي، هو وليدُ الرغبة في المنافسة لتيار يساري جماهيري، عبر تصفيته وإزالة القضايا التي يطرحُها وبركوبِ ظهر العسكر والعشائر، ومن هنا كان احتضانه لقيادة عفلق التي خرجت من سوريا المتجهة لليسار وقتذاك، ورسخ الحزبُ البعثي نفسه بين العسكر والقبائل والطوائف، أي كلما هو محافظ، وكانت المذابح التي كرسها، وأجهزة القمع الواسعة والأفساد للثقافة للوطنية والقومية، كانت هي كلها تضعه ملكاً لقيادةٍ مغامرة.(كان صراع الاشتراكية والرأسمالية المزعوم يجري بشكل مميت في العراق).
وقد ظهرت القيادة المغامرة حين عاد صدامُ الذي قيل إنه ارتبط في القاهرة بالمخابرات الأمريكية، وحين صعد تم الهجوم حتى على بذور الحداثة التي شكلها الحزبُ في تاريخه الطويل. لقد توجه لضرب تحرك العراق نحو الحداثة و(الاشتراكية) لكي ينضم إلى اليمين العربي الإقطاعي وكانت أغلبُ خطواته إستدعاءً مستمراً للاستعمار الأمريكي في منطقة الخليج خاصة.
وكان التعجيل المستمر الذي يطالب به الحزب الشيوعي قد أسهم في المنافسة الضارية بين الجماعتين التحديثيتين، التي كان يُفترض أن يمثل البرجوازية فيها البعثُ ويمثل العمالُ الحزب الشيوعي، ولكن الميراث الدكتاتوري العنيف منع مقاربتيهما المختلفتين طبقةً، المتحدتين حداثة.
إن البعثَ في توجههِ نحو اليمين ارتبط بالموروثِ السني المحافظ، العسكري، كما كونهُ الإقطاعُ المذهبي خلال القرون السابقة، فغدتْ القوميةُ العربية بدويةً عشائرية، وارستقراطية، وأعادتْ تاريخَ الغزو والأسلاب، المتحد مع تكنولوجيا النابالم والأسلحة الكيمائية. ومن جهة اليسار فقد راح يذوب في الطوائف والأقليات المقموعة، دون أن تتيح له الشروط الموضوعية أو وعيه، أن يجمع بين اليسار واليمين، بين السنة والشيعة، بين الشمال والجنوب، في تيار نضالي مشترك، فصار في ذيل الأحداث والقوى المذهبية السياسية الطافحة.
إن القوةَ الكبرى المستفيدةَ خلال ذلك كله هي حكومات الولايات المتحدة المتتابعة، فكان صدامُ وتاريخُ الحماقة الوطنية والنزاعات المذهبية والمراهقة اليسارية، هي كلها الجذور الدموية التي انتجت تفاحة العراق الناضجة دماً ونفطه ومنطقته الاستراتيجية والقواعد الكثيرة وحاملات الطائرات.
لقد حدث التآكلُ السياسي في حزبي العمال والبرجوازية الوطنيين، الشيوعي والبعث، وهو نتيجةٌ للتآكل وعدم معرفة الجذور في الجنوب الشيعي والوسط السني، أي في عجز المذهبية المحافظة والقوموية المتعصبة، والاستيراد الفكري من الخارج عن إنتاج مؤسسات وطنية عقلانية ديمقراطية، بمعنى إن العربَ المسلمين عجزوا عن تشكيل سلطة ديمقراطية توزعُ فوائضَ النفط بين الأقاليم الثلاثة، وأن تشكلَ نهضةً، وغدت رأسماليةُ الدولة التي تحولت إلى تنينٍ بعد التأميم، قوةً كبيرة تلتهمُ البشرَ أكثر مما تحُدِّث الزراعة وتساعد البدو على الانتقال للحداثة، وتعطي مزارعي الجنوبِ الأراضيَّ والمساعدات. لقد توهم كلُ طرفٍ من المسلمين إن الطرف الآخر هو المسؤول عن الكارثة الوطنية، ومع إزالة القوى التحديثية المعارضة، بقيت المجالسُ العشائرية والكيانات المذهبية هي المغناطيس الذي يجذب برادة الحديد الذائب التائهة.
لقد بدأ النظامُ العراقي الجديد طائفياً مهمَّشاً كقدرةٍ عسكرية وطنية عبر حل الجيش العراقي وتسريح ضباطه وجنوده وعدم إعطائهم حقوقهم المعاشية وضرب الإدارة الوطنية، فكان ذلك سبباً في انضمامِ عددٍ كبير منهم للجماعات الخارجة على القانون، وبتغييب قوة سياسية إدارية مركزية وجعلهما بيد الأمريكيين. وكانت محاكماتُ النظام شكلاً آخر لطبيعة النظام الطائفية فتوجهتْ المحاكماتُ رأساً إلى قضية الدجيل بدلاً من المسار الطبيعي لقضايا النظام الأجرامية وأولها إعدام مجموعة من الكوادر البعثيين الكبار ثم ابعاد الرئيس البكر ثم تأتي القضايا الأخرى. بطبيعة الحال إن مثل هذه المحاكمات لو جرت سوف تظهر بأن في البعث قوى مختلفة، ولكن الحاكمين ليسوا في حالةٍ عقلية وطنية تسمحُ لهم بمثل هذه القراءة الرحبة الحكيمة.
كان الثأر من حزب البعث والجيش يحملُ رغبةً إجرامية في تصفية الحداثة العراقية الوطنية، أكثر من كونه يمثل عقاباً سياسياً مشروعاً، وهذه العملية بالتالي ابتعدت عن المحاكمة العقلانية لنتاج النظام السابق، فخلطت بين جرائم مجموعات عسكرية وأمنية وسياسية بعثية وبين مشروع حداثة وطنية فيه أخطاء كبيرة، لكنه صاحب إنجازات وأفضل من الارتداد للوراء، والعودة للطائفية والتبعية، وبهذا قام أصحابُها بمحاكمةِ فرد وجماعةٍ أكثر مما حللوا تجربة سياسية كبيرة.
كان جسمُ البعث والليبراليين والجيش والتجار فيه أكبر قوى الفئات الوسطى، وهو الذي راكم منجزات الحداثة على مدى عقود، ولكن المشروع الأمريكي لتغيير العراق لم يبدأ من إصلاح الجيش والبعث والإدارة، بل توحد مع القوى المذهبية السياسية المحافظة، فيغدو نظام الدويلات الثلاث تتويجاً لذلك بحيث تتحول إلى دول صغيرة تسيطر عليها قوى المحافظين الاجتماعيين من إقطاع ورؤساء عشائر وتجار كبار متحالفين معهم يغدون وكلاء الشركات المتعددة القومية.
إن عدم تطبيق قوانين الدولة الحديثة؛ قوانين العلمانية والديمقراطية والوطنية، أي رفض تشكيل أحزاب دينية ومناطقية، يعني التقسيم الواسع المتدرج والانهيار لحلم (الفدرالية)، فهما يؤديان إلى الانفصال.
إن هذا كان يتطابق مع رؤى المحافظين الجدد في البيت الأبيض الذين راحوا يدخلون المسائل الدينية في السياسة، ويؤكدون على سوق مفتوحة مطلقة تقع في قبضة شركاتهم، وتلغي القطاعات العامة في الدول، وهي ركائز الدول الوطنية المستقلة حديثاً في العالم الثالث، وتعيدها لتكويناتها التقليدية، وهو المشروع الذي سنرى تجسيداته المختلفة في العراق.
لقد صارت القوى المذهبية السياسية والليبرالية والشيوعية الرسمية الموجهة من قبل الإدارة الأمريكية هي القوى المؤثرة على الساحة العراقية، ولم يكن بإمكان الإدارة الأمريكية تنفيذ البرنامج العلماني الديمقراطي، فهي ذاتها تراجعت عنه في بلدها، وكان تنفيذ ذلك يعني الصراع مع التوجهات المذهبية الكردية والشيعية الغالبة على ساحة قوى(التغيير)، ولكن التحالف مع هذه القوى يعني تشكيل نظام الدويلات الثلاث، وحل المؤسسات الوطنية خاصة الجيش. وتصعيد قواها السياسية وقدراتها العسكرية. (وهذا من جهةٍ أخرى في تلك اللحظة من السيناريو المتشكل يتوافق مع رغباتِ كل دول المنطقة في إضعاف العراق عسكرياً. وفيما بعد ستعارض الدولُ المذهبيةُ السنية هذا السيناريو فيظهر الجيشُ العراقي الجديد المحدود وقوات الصحوة لأحداثِ شيءٍ من التوازن وتصعيد الدويلة السنية الطائفية).
ولهذا سنرى إن اقصى هذه التوجهات يتوجه نحو الإعلان عن مشروعه الطائفي أو القومي اللاوطني، وعبر الاستعانة بالمنظمات المسلحة. في حين إن اقصى اليسار سيرفض هذه المساومات ويطالب بدولة عراقية بدون فدرالية أوكونفدرالية، أي بدون سيطرات الإقطاعيات المذهبية المحلية في الأقاليم الثلاثة.
تقول إحدى تنظيمات اقصى اليسار:
(وبموجب تلك الأدلة التي وردت فيما تقدم فإن الفدرالية هي أطروحةٌ رجعية وضد الحرية من منظار الحرية والمساواة ومن منظار الحزب الشيوعي العمالي ويتناقض مع المصالح الإنسانية لجماهير العراق بمجمله. نحن لا نرفضها فقط بل ونشجبها وندينها أيضاً. ونصر ونؤكد مقابل الفدرالية على دولة واحدة. ومن الضروري في هذا السبيل توحيد الصف النضالي للجماهير التحررية والُمضطهَّدة في كل مناطق العراق ومن ضمنها كردستان من أجل إقامة حكومية غير قومية وغير دينية علمانية تتضمن المساواة في الحقوق لكل المواطنين)، (الحزب الشيوعي العراقي العمالي).
إن القوى الاجتماعية العشائرية والمذهبية المحافظة تقوم بتنمية سيطرتها على أقليم جنوب العراق بشكل متدرج، فقد سيطرت هذه القوى على الشمال، أقليم كردستان، فيما لم يستطع السنة العشائريون فعل شيء من هذا القبيل بسبب تأخرهم في استثمار العملية السياسية، وبهذا فإن وضع اليد السياسية على هذه الأقاليم يتضمن السيطرة على الموارد المالية فيه أو على النصيب الكبير من الموارد الوطنية، ثم توسيع السيطرة السياسية وطرد المنافسين وتكوين المليشيا وتكريس خطابها الطائفي في التعليم وأجهزة الثقافة المختلفة، وبالتالي تظهرُ ملامحُ الدولةِ الطائفية المكتملة، وإذا كانت كردستان قد اكتملتْ في هذه السيطرة وكرستْ دولتَها ولم يبق سوى أن تستولي على مدينة (كركوك) المتنازع عليها فجأة بين الأقاليم الثلاثة، لشهيتها الكبيرة في التهام النفط، فإن الإقليمين الآخرين هما في الطريق إلى ذلك، فلا توجد دولةٌ وطنيةٌ تتنازعُ على مدينة داخلها.
لا يمنع كردستان من الانفصال سوى الدولة التركية في الشمال التي ترفض مشروعات الدول الطائفية.
يحدد الحزب السابق الذكر الطبيعة الاجتماعية لهذا المشروع:
(من النتائج الأخرى للفدرالية إنها تصبح سبباً في جر جماهير كل منطقة تحت جناح وقوة جماعة رجعية وستدار كل منطقة حسب قانون معين حسب ماهية القوة السائدة بحجة الثقافة والدين والمذهب)، (ستصبح سبباً لإضفاء الهوية القومية والطائفية والعشائرية على كل منطقة)، (الحزب الشيوعي العمالي).
كان انهيار العراق السياسي التحديثي نتيجة الصراع بين حزب البعث العربي الاشتراكي وبين الحزب الشيوعي العراقي، فهاتان القوتان التحديثيتان واجهتا بعضهما البعض كما قلنا في صراعات دامية، ثم توصلتا لما يُعرف بالجبهة الوطنية القومية التقدمية، وكان مشروعاً وطنياً مهماً، لولا توجه صدام حسين للقضاء عليه والقضاء على التوجهات الوطنية الديمقراطية داخل حزب البعث نفسه.
كانت القوى الاستعمارية والمحافظة في المنطقة تسعى لهدم الجبهة، التي كانت لو استمرتْ لكانت أساساً للاستقرار في العراق والمنطقة، فهي على الأقل سوف تخففُ من وطأةِ القيادة الفردية المطلقة ومغامراتها. ولكن صدام اتخذ الجبهةَ فخاً لاصطياد كوادر الحزب الشيوعي والانقضاض عليه كعادة تكتيكاته.
هذا الأساسُ المضطربُ تشكلَّ على صراعاتٍ ضارية ومنافسات منذ انقلاب تموز سنة 1958، وقبل هذا كان العراق مسرحاً لأعمال عنف لم تتوقف.
كذلك كان التحالف التحديثي يحتاج إلى قوى اجتماعية من الطبقات الحديثة وإلى ازدهار صناعي وكان هذا كله مفتقداً. وكان يحتاج إلى قواعد حزبية عميقة الثقافة سواء بفهم الماركسية أو القومية، يقول أحد الباحثين العراقيين المعروفين:
(وبطبيعة الحال يتحملُ الشيوعي حصة غير قليلة من وزر الأحداث المؤلمة التي انزلق فيها بغرور الكثرة الهابطة النوع بعد عام 1958. فلو سألنا أعضاء بارزين في الحزب، من الذين قضوا صامدين خلال التعذيب، كم منهم أدركَ نظريةَ رأس المال؟)،(واتذكر إني اطلعتُ في ارشيف جريدة (اتحاد الشعب)، (25 آذار 1959)، على برقية ابرقتها منظمة الحزب في منطقة من مناطق الأهوار إلى الزعيم عبدالكريم قاسم تطالبه ببناء مستوصف، وإقامة طريق بري، وتطهير الجهاز الإداري من الفاسدين والخونة وخاصة البلدية والخروج من حلف بغداد!)، (مقالة لرشيد خيون في الشرق الأوسط، 16 مايو 2007).
كان غمرُ الأحزابِ بجموعٍ شعبيةٍ محدودة المعرفة والزج بها في الصراعات السياسية من أكثر المخاطر التي خربت الحزبين البعثي والشيوعي، وحين يتم تسليح هذه الجموع فإن الكوارث تتعاظم بشكل مأساوي، (وهو شكلٌ من الممارسة السياسية تستعيدها الآن التنظيماتُ السياسية المذهبية).
وبطبيعة قسوة وقوة النظام السابق الأمنية لم يستطع الحزب الشيوعي أن يفعل شيئاً ورغم التحالفات المتعددة، فأنها لم تغير شيئاً، ودفعت المجازر والهجرة أعضاء المعارضة إلى التعاون مع الولايات المتحدة وبريطانيا لإزالة النظام، وهم في حالةِ تعبٍ سياسي وانهاك وعوز مادي.
(ولم تنجح القوى السياسية العراقية في إقامة التحالف المنشود القادر على اسقاط النظام. . دفعها الأحباطُ والشعور بالعجز إلى إقامة التحالف مع الولايات المتحدة وبريطانيا لاسقاط النظام. واتخذ الحزب الشيوعي موقفاً واضحاً وصحيحاً من الحرب إذ رفضها، رغم إنه كان يريد الإطاحة بالنظام بقوى الشعب الخاصة)، (كاظم حبيب باحث اقتصادي عراقي، الحزب الشيوعي العراقي والأحداث الجارية في العراق، من موقع الناس الإلكتروني).
كان العملُ مع القوى المذهبية السياسية والقومية المحافظة في اثناء تأسيس النظام الجديد قد جعلَ الحزبَ الشيوعي غير قادرٍ على الدفاع عن نظام علماني ديمقراطي وعن عراق موحد، وهي الأهداف التي لم يسعَ لها بقوة حتى في العهود السابقة، فالعلمانية والفصل بين الدين والسياسة لم تكن من أولوياته، لعمله بين الجمهور المسيس الديني، الإمامي غالباً، وبهذا انساق مع المناخ السياسي الجديد يحاول أن يوجهه صوب الحداثة والديمقراطية، فصعدت القوى الدينيةُ المذهبيةُ وراحت تفرضُ مشروعَ التقسيم ومناطقها التابعة للقوى الإقطاعية المذهبية والعشائرية.
يضيف الدكتور كاظم حبيب في نقده لسياسة الحزب:
(وخلال فترة التحالف مع القوى السياسية العراقية كان الحزب الشيوعي يكف في الغالب الأعم عن تقديم النقد العلني والمجاهرة بملاحظاته إزاء القوى المتحالفة معه، خاصةً إذا كانت تلك القوى في السلطة، وكان يعمد إلى ممارسة النقد الذاتي وعبر مذكرات خاصة).
لكن القوى الدينية المحافظة تزداد شهيتها كلما وجدت هذا التراخي من قبل القوى التقدمية، فتوسعُ مشروعَ الارتداد إلى الماضي، وكان نموذجاً لهذا ما فعله أحدُ المسؤولين الكبار في الحكم تجاه القوانين المتعلقة بالأسرة والمرأة.
(قرر مجلس الحكم بجلسته المنعقدة بتاريخ 29/12/2003 ما يلي:
1 – تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية فيما يخص الزواج والخطبة وعقد الزواج والأهلية واثبات الزواج والمحرمات وزواج الكتابيات والحقوق والرضاعة ونفقة الفروع والأصول والأقارب والوصية والإيصاء والوقف والميراث وكافة المحاكم الشرعية (الأحوال الشخصية) وطبقاً لفرائض مذهبه).
2 – إلغاء كل القوانين والقرارات والتعليمات والبيانات وأحكام المواد التي تخالف الفقرة(1) من هذا القرار.
3 – يعمل به من تاريخ صدوره)، رئيس مجلس الحكم عبدالعزيز الحكيم).
ويقول كاظم حبيب إن هذا القرار لم يُعَّرف به ولم يشكلْ الحزبُ الشيوعي حملةً ضده، أو حتى يذكره، رغم معارضة نائبه في مجلس الحكم هذا القرار، ولم يتم إلغائه إلا من قبل الحاكم الأمريكي وقتذاك وهو كريمر!
لم يحتج سوى 80 منظمة نسائية وهي المتضررات من قرارات رجال الدين المحافظين الذين راحوا يوسعون سطوتهم الفئوية على الأقاليم والعامة.
هذا الانزلاق اليساري باتجاه السيطرة المحافظة اليمينية يقود إلى تجذر القوى المذهبية المحافظة، التي تتوجه إلى استثمار العبادات الإسلامية وتحريكها بشكل جماهيري واسع، مما يرفد هذه الأحزاب بقوى الناس العادية الجاهلة التي لعبت نفس الأدوار السلبية في صراع الحزبين البعثي والشيوعي سابقاً، وعبر هذا تقوم بعرقلة نشؤ عراق تحديثي ديمقراطي. واستغلال الشعائر والمقولات الإسلامية هي عمليات تمويه موسعة لهذه القوى الجديدة في حراكها من أجل المال والنفوذ، ولو كان ذلك صحيحاً لالتزموا بدعوة الإسلام الكبرى من أجل الوحدة وترك المذهبيات السياسية الممزقة للشعوب.
في حين كان انزلاقُ البعث بعد خروجه من السلطة إلى العشائر العربية السنية وإلى التعاون مع القاعدة يعبر عن خراب آخر. وهكذا وجد حزبا التحديث نفسيهما بصراعهما الطويل الضاري أنهما يمشيان وراء القوى الطائفية والعشائرية المتخلفة الممزقة لخريطة العراق الوطنية.
وحين تم التخفيف من الهجوم على المؤسسات الوطنية خاصة الجيش وإعادة بعض الضباط والجنود وغير هذا من إجراءات بدأت بعض أنسجة الوحدة الوطنية تتراءى وحدثت تطورات على صعيدي التطور الاقتصادي والأمن، ولكن كل هذا لا يكفي دون الانعطاف عن سياسة المحاصصة الطائفية والعودة إلى النهج الوطني العراقي العلماني.
صار العراق بدلاً من دولةٍ وطنية حديثة موحَّدةٍ كياناتٍ تتوجهُ لتكون دولاً مستقلة متصارعة، وكما عبرت عن ذلك ظاهراتٌ تم رصدها سابقاً، فإن الصراعَ الأكبر جرى حول موارد البلد وكيفية رؤية تطوره الاقتصادي.
لقد كانت لسلطة الاحتلال خطة خاصة في هذا الشأن، فالاقتصاد في خاتمة المطاف هو بيت القصيد.
في يناير 2007 صدر إعلان النوايا بين الرئيس جورج بوش والسيد نور المالكي وتضمن الالتزام بمبادئ الليبرالية الجديدة، وهي النمط الاقتصادي الذي قلنا بأنه يمثل سياسة المحافظين الجدد الأمريكيين وصارت له نتائج كارثية على الاقتصاد الأمريكي والعالمي في الفترة الأخيرة كما ظهر ذلك في الأزمة المالية، وقد تضمن إعلان الرئيسين الأمريكي ورئيس وزراء العراق، قيام سياسة اقتصادية حرة وتقليص القطاع العام والتركيز على بيع النفط الخام، ويقول الباحث الاقتصادي العراق كاظم حبيب إن ذلك يعني(التخلي عن دور الدولة الكامل في النشاط الاقتصادي وترك المجال كاملاً للقطاع الخاص المحلي والأجنبي، (ونظراً لضعف القطاع الخاص المحلي سيكون الباب مفتوحاً للقطاع الخاص الأجنبي)، وكذلك (التخلي عن التصنيع التحويلي للزراعة)، و(الاعتماد الكامل على الاستيراد وسياسة الباب المفتوح).
ومن شأن هذا كله تحويل السوق إلى مؤسسات تمتص النقدَ السائل وتحوله إلى الخارج، ارباحاً وشراءً للبضائع والأجهزة وكافة السلع، وعلى حد تعبير الباحث الاقتصادي السابق الذكر؛ (إن هذا يعني بأن الاقتصاد العراقي يبقى تابعاً ومرتبطاً عضوياً بالنفط الخام والاستيراد الذي يستنزف كامل الدخل القومي).
وقد تم التخطيط لهذا كله على ضوء قوة العراق البترولية. قال محسن خان مدير قسم الشرق الأوسط بصندوق النقد الدولي بأنه(يتوقع أن ينمو الناتج العراقي خلال سنة 2008 بنسبة 7% وأن يستمر النمو بنسبة 7% أو 8% في عام 2009).
وحسب تقديرات صندوق النقد الدولى فإن متوسط إنتاج النفط العراقي الذي يمثل 70% من الدخل الوطني، أو 80% في تقديرات أخرى، بلغ مليوني برميل يومياً خلال الفترة من عامي 2006 و2007. فبلغت إيرادات العراق سنة 2007 نحو 27 مليار دولار في مقابل 20 مليار دولار سنة 2006.
وقال مهدي الحافظ وهو وزير سابق وباحث بأن الاقتصاد العراقي مشوه وتعتمد موازنته العامة على فوائض النفط فتبلغ 85% من مجموع مصادر التمويل، ولكن هذه الموازنة تتعرض لجهاز دولة بيروقراطي يعاني من قلة الموارد الضريبية، كما تم (رصد موارد غير قليلة لأغراض معينة كفقرة المنافع الاجتماعية لتخصيصات مفتوحة لرئاسة الجمهورية ومجلس الورزاء ومجلس النواب وجهات رسمية أخرى والتي تفتقر لتعريف وضاوبط واضحة مما يثقل لوحة الأنفاق العام)، (مهدي الحافظ، دراسة في مجلة الغد الأردنية).
إن المحاصصة السياسية المذهبية على مستوى الدولة تتحول إلى محاصصات مالية وتشكيل قوى بيروقراطية استغلالية تدعم تلك الدويلات الجنينية، مما يحول الصراع السياسي هنا إلى صراع على المصالح الاقتصادية وعلى الميزانية العامة فكل أقليم يطالب بحصة أعلى، وقد حدثت الصراعات على هذه الحصص، فيظهر أقليمٌ مميز وآخر غير مميز.
ويعرض برنامج الحزب الشيوعي العراقي ذلك دون أن يتطرق إلى الأسماء والجهات وحالات الصراع المريرة فيدعو إلى تنفيذ الأهداف التالية:(تصفية مظاهر التمييز والنزعات الشوفينية والتعصب القومي والديني والمذهبي، التي أفرزتها الدكتاتورية المقبورة وحروبها، وفاقمتها سياسةُ الاحتلال وقوى الأرهاب والسياسات الخاطئة في إعادة بناء مؤسسات الدولة)، (نبذ نهج المحاصصات، وانهاء مظاهر الاستقطاب الطائفي، وتكريس نهج الوحدة الوطنية)، (4و5 من فقرة بناء الدولة، برنامج الحزب الشيوعي العراقي).
وهذه تبقى أمنيات في وقت تتوجه سياسة رئيس الحكومة إلى تقزيم القطاع العام الصناعي وعدم تحويل كمية كبيرة من الفوائض للصناعات المعدنية والبتروكيمائية، وعدم انقاذ الزراعة العراقية المنهارة التي راحت تستورد حتى الخضروات، وكل هذا يتساوق مع السوق المفتوحة الحرة وتغلغل الشركات الأجنبية ومنافع البيروقراطيات السياسية الجديدة التي تموه تبعيتها واستغلالها بالمذاهب الإسلامية والأفكار القومية.
وعبر هذه التوجهات ستبقي سياسة الحكومة العراقية سياسة توزيع مالي وليست دولة مالكة لقطاعات عامة تصنيعية، تقود بها اقتصاداً وطنياً مستقلاً قوياً، وتتحول القوى البيروقراطية الحاكمة إلى قوى متنفذة في السوق، وتنشئ علاقات سياسية فوق مؤسسات الدولة العراقية، فكل أقليم يقيم تحالفاته مع الدول الغربية المسيطرة أو مع الدول المجاورة التي تسعى لتفكيك العراق والسيطرة على أقاليمه.
ومن هنا أهمية نشوء تحالفات ديمقراطية تحديثية تقدمية تشمل العراق كله، وتنشر ثقافة موحدة وتصنع إرادة موحدة جديدة لعراق ديمقراطي علماني بدلاً من الانزلاق في التخلف والتقسيم.
لقد كونت الدولةَ العراقية خلال نصف قرن الماضي الفئةُ البيروقراطية العسكرية والمدنية المتحالفة مع كبار التجار والمستثمرين وملاك الأرض ورؤوساء العشائر، وتمثل ذلك في جهاز الدولة العسكري خاصةً وحزب البعث، ولم تكن لهذه الفئات استقلاليةً عن الجهازين العسكري والسياسي، أو قدرةً على إنتاج ثقافة وطنية تصهرُ الشعبَ في كلٍ موحد، بل على العكس فارق الشعبُ الثقافةَ الشعارية السياسية المنتجة من قبل النظام، بسبب إدخالها إياه في حروب كارثية وقمع وتشرد ثم حصار، فكانت الهزيمة العسكرية إعلاناً بتمزقِ كلِ شيء، وكل رابطة توحيدية.
وخلال الضربة العسكرية وتصفية الوجود المادي للنظام السابق، تشكلت قوى سياسية جديدة متنفذة من سرقة أموال الدولة السابقة ومن خلال النهب السريع الواسع للثروة الوطنية، فتشكلت مجموعاتٌ استولت(على الأراضي ووزعتها على المؤيدين لها)، (من كتاب الاحتلال الأمريكي وانهيار الدولة العراقية، للباحث د. لطفي حاتم). وفي تحليل للحزب الشيوعي العراقي اعتبر عمليات النهب تلك صادرةً عن قوى إجرامية غير محددة الهوية الاجتماعية.
ظهرت مرجعيتان كبريان هما المرجعية العشائرية والمرجعية الدينية احتلت الإقالمي الثلاثة، فقد سبق للإقليم الكردي أن جعلهما مسيطرتين لكن من خلال الحزبين الكرديين المهيمنين. وبناءً على تحولهما إلى أساس سياسي للدولة العراقية الجديدة، فقد انتفت المرجعيةُ الديمقراطيةُ المُفترضة من تكوين يُقام على أساس مذهبي مناطقي، فمن يعينُ النوابَ حقيقةً هي المرجعيات الطائفية، وليس الانتخاب الحر في بلد يمتلك فيه المواطنون الحرية السياسية والعيش المستقر.
وبهذا فقد تم وضع الأساس لانقسام العراق إلى دول ثلاث، فظهرت كياناتٌ إدارية لهذه الدويلات، وظهر كذلك كيانٌ حكومي موحد، هو تجميعٌ للكيانات الثلاثة على صعيد العاصمة، فهي تشكيلات سياسية فوقية إذا امتدت للجمهور تمتد كجذور مذهبية وإقطاعية متعددة المشارب.
واعتبرت القوى المؤثرةُ ذلك الانقسام بكونه فيدرالية، أي أنه ثلاث أقاليم مستقلة في بعض الخدمات ولكن تبقى هناك دولة مركزية وأساسها الجيش والبرلمان الموحد وغير ذلك من المؤسسات الاتحادية، لكن ذلك يبقى نصوصاً مكتوبة وليس واقعاً إلا إذا استطاعت المؤسسات التوحيدية أن تشكل جيشاً وطنياً حقيقياً.
لم يظهر عراقُ الطائفية والعشائرية الراهن كجسمٍ سوداوي سحري ظهر من باطن الأرض فجأة، بل تشكل خلال العقود الأخيرة ببطء، وكان موجوداً في كل المكونات الاجتماعية والثقافية.
لقد كان حزبُ البعث المفترض كجسمٍ سياسي علماني قومي ينزلقُ نحو هذا اليمين المحافظ بصورة مستمرة، فكان عداؤه التاريخي للحزب الشيوعي العراقي، هو وليدُ الرغبة في المنافسة لتيار يساري جماهيري، عبر تصفيته وإزالة القضايا التي يطرحُها وبركوبِ ظهر العسكر والعشائر، ومن هنا كان احتضانه لقيادة عفلق التي خرجت من سوريا المتجهة لليسار وقتذاك، ورسخ الحزبُ البعثي نفسه بين العسكر والقبائل والطوائف، أي كلما هو محافظ، وكانت المذابح التي كرسها، وأجهزة القمع الواسعة والأفساد للثقافة للوطنية والقومية، كانت هي كلها تضعه ملكاً لقيادةٍ مغامرة.(كان صراع الاشتراكية والرأسمالية المزعوم يجري بشكل مميت في العراق).
وقد ظهرت القيادة المغامرة حين عاد صدامُ الذي قيل إنه ارتبط في القاهرة بالمخابرات الأمريكية، وحين صعد تم الهجوم حتى على بذور الحداثة التي شكلها الحزبُ في تاريخه الطويل. لقد توجه لضرب تحرك العراق نحو الحداثة و(الاشتراكية) لكي ينضم إلى اليمين العربي الإقطاعي وكانت أغلبُ خطواته إستدعاءً مستمراً للاستعمار الأمريكي في منطقة الخليج خاصة.
وكان التعجيل المستمر الذي يطالب به الحزب الشيوعي قد أسهم في المنافسة الضارية بين الجماعتين التحديثيتين، التي كان يُفترض أن يمثل البرجوازية فيها البعثُ ويمثل العمالُ الحزب الشيوعي، ولكن الميراث الدكتاتوري العنيف منع مقاربتيهما المختلفتين طبقةً، المتحدتين حداثة.
إن البعثَ في توجههِ نحو اليمين ارتبط بالموروثِ السني المحافظ، العسكري، كما كونهُ الإقطاعُ المذهبي خلال القرون السابقة، فغدتْ القوميةُ العربية بدويةً عشائرية، وارستقراطية، وأعادتْ تاريخَ الغزو والأسلاب، المتحد مع تكنولوجيا النابالم والأسلحة الكيمائية. ومن جهة اليسار فقد راح يذوب في الطوائف والأقليات المقموعة، دون أن تتيح له الشروط الموضوعية أو وعيه، أن يجمع بين اليسار واليمين، بين السنة والشيعة، بين الشمال والجنوب، في تيار نضالي مشترك، فصار في ذيل الأحداث والقوى المذهبية السياسية الطافحة.
إن القوةَ الكبرى المستفيدةَ خلال ذلك كله هي حكومات الولايات المتحدة المتتابعة، فكان صدامُ وتاريخُ الحماقة الوطنية والنزاعات المذهبية والمراهقة اليسارية، هي كلها الجذور الدموية التي انتجت تفاحة العراق الناضجة دماً ونفطه ومنطقته الاستراتيجية والقواعد الكثيرة وحاملات الطائرات.
لقد حدث التآكلُ السياسي في حزبي العمال والبرجوازية الوطنيين، الشيوعي والبعث، وهو نتيجةٌ للتآكل وعدم معرفة الجذور في الجنوب الشيعي والوسط السني، أي في عجز المذهبية المحافظة والقوموية المتعصبة، والاستيراد الفكري من الخارج عن إنتاج مؤسسات وطنية عقلانية ديمقراطية، بمعنى إن العربَ المسلمين عجزوا عن تشكيل سلطة ديمقراطية توزعُ فوائضَ النفط بين الأقاليم الثلاثة، وأن تشكلَ نهضةً، وغدت رأسماليةُ الدولة التي تحولت إلى تنينٍ بعد التأميم، قوةً كبيرة تلتهمُ البشرَ أكثر مما تحُدِّث الزراعة وتساعد البدو على الانتقال للحداثة، وتعطي مزارعي الجنوبِ الأراضيَّ والمساعدات. لقد توهم كلُ طرفٍ من المسلمين إن الطرف الآخر هو المسؤول عن الكارثة الوطنية، ومع إزالة القوى التحديثية المعارضة، بقيت المجالسُ العشائرية والكيانات المذهبية هي المغناطيس الذي يجذب برادة الحديد الذائب التائهة.
لقد بدأ النظامُ العراقي الجديد طائفياً مهمَّشاً كقدرةٍ عسكرية وطنية عبر حل الجيش العراقي وتسريح ضباطه وجنوده وعدم إعطائهم حقوقهم المعاشية وضرب الإدارة الوطنية، فكان ذلك سبباً في انضمامِ عددٍ كبير منهم للجماعات الخارجة على القانون، وبتغييب قوة سياسية إدارية مركزية وجعلهما بيد الأمريكيين. وكانت محاكماتُ النظام شكلاً آخر لطبيعة النظام الطائفية فتوجهتْ المحاكماتُ رأساً إلى قضية الدجيل بدلاً من المسار الطبيعي لقضايا النظام الأجرامية وأولها إعدام مجموعة من الكوادر البعثيين الكبار ثم ابعاد الرئيس البكر ثم تأتي القضايا الأخرى. بطبيعة الحال إن مثل هذه المحاكمات لو جرت سوف تظهر بأن في البعث قوى مختلفة، ولكن الحاكمين ليسوا في حالةٍ عقلية وطنية تسمحُ لهم بمثل هذه القراءة الرحبة الحكيمة.
كان الثأر من حزب البعث والجيش يحملُ رغبةً إجرامية في تصفية الحداثة العراقية الوطنية، أكثر من كونه يمثل عقاباً سياسياً مشروعاً، وهذه العملية بالتالي ابتعدت عن المحاكمة العقلانية لنتاج النظام السابق، فخلطت بين جرائم مجموعات عسكرية وأمنية وسياسية بعثية وبين مشروع حداثة وطنية فيه أخطاء كبيرة، لكنه صاحب إنجازات وأفضل من الارتداد للوراء، والعودة للطائفية والتبعية، وبهذا قام أصحابُها بمحاكمةِ فرد وجماعةٍ أكثر مما حللوا تجربة سياسية كبيرة.
كان جسمُ البعث والليبراليين والجيش والتجار فيه أكبر قوى الفئات الوسطى، وهو الذي راكم منجزات الحداثة على مدى عقود، ولكن المشروع الأمريكي لتغيير العراق لم يبدأ من إصلاح الجيش والبعث والإدارة، بل توحد مع القوى المذهبية السياسية المحافظة، فيغدو نظام الدويلات الثلاث تتويجاً لذلك بحيث تتحول إلى دول صغيرة تسيطر عليها قوى المحافظين الاجتماعيين من إقطاع ورؤساء عشائر وتجار كبار متحالفين معهم يغدون وكلاء الشركات المتعددة القومية.
إن عدم تطبيق قوانين الدولة الحديثة؛ قوانين العلمانية والديمقراطية والوطنية، أي رفض تشكيل أحزاب دينية ومناطقية، يعني التقسيم الواسع المتدرج والانهيار لحلم (الفدرالية)، فهما يؤديان إلى الانفصال.
إن هذا كان يتطابق مع رؤى المحافظين الجدد في البيت الأبيض الذين راحوا يدخلون المسائل الدينية في السياسة، ويؤكدون على سوق مفتوحة مطلقة تقع في قبضة شركاتهم، وتلغي القطاعات العامة في الدول، وهي ركائز الدول الوطنية المستقلة حديثاً في العالم الثالث، وتعيدها لتكويناتها التقليدية، وهو المشروع الذي سنرى تجسيداته المختلفة في العراق.
لقد صارت القوى المذهبية السياسية والليبرالية والشيوعية الرسمية الموجهة من قبل الإدارة الأمريكية هي القوى المؤثرة على الساحة العراقية، ولم يكن بإمكان الإدارة الأمريكية تنفيذ البرنامج العلماني الديمقراطي، فهي ذاتها تراجعت عنه في بلدها، وكان تنفيذ ذلك يعني الصراع مع التوجهات المذهبية الكردية والشيعية الغالبة على ساحة قوى(التغيير)، ولكن التحالف مع هذه القوى يعني تشكيل نظام الدويلات الثلاث، وحل المؤسسات الوطنية خاصة الجيش. وتصعيد قواها السياسية وقدراتها العسكرية. (وهذا من جهةٍ أخرى في تلك اللحظة من السيناريو المتشكل يتوافق مع رغباتِ كل دول المنطقة في إضعاف العراق عسكرياً. وفيما بعد ستعارض الدولُ المذهبيةُ السنية هذا السيناريو فيظهر الجيشُ العراقي الجديد المحدود وقوات الصحوة لأحداثِ شيءٍ من التوازن وتصعيد الدويلة السنية الطائفية).
ولهذا سنرى إن اقصى هذه التوجهات يتوجه نحو الإعلان عن مشروعه الطائفي أو القومي اللاوطني، وعبر الاستعانة بالمنظمات المسلحة. في حين إن اقصى اليسار سيرفض هذه المساومات ويطالب بدولة عراقية بدون فدرالية أوكونفدرالية، أي بدون سيطرات الإقطاعيات المذهبية المحلية في الأقاليم الثلاثة.
تقول إحدى تنظيمات اقصى اليسار:
(وبموجب تلك الأدلة التي وردت فيما تقدم فإن الفدرالية هي أطروحةٌ رجعية وضد الحرية من منظار الحرية والمساواة ومن منظار الحزب الشيوعي العمالي ويتناقض مع المصالح الإنسانية لجماهير العراق بمجمله. نحن لا نرفضها فقط بل ونشجبها وندينها أيضاً. ونصر ونؤكد مقابل الفدرالية على دولة واحدة. ومن الضروري في هذا السبيل توحيد الصف النضالي للجماهير التحررية والُمضطهَّدة في كل مناطق العراق ومن ضمنها كردستان من أجل إقامة حكومية غير قومية وغير دينية علمانية تتضمن المساواة في الحقوق لكل المواطنين)، (الحزب الشيوعي العراقي العمالي).
إن القوى الاجتماعية العشائرية والمذهبية المحافظة تقوم بتنمية سيطرتها على أقليم جنوب العراق بشكل متدرج، فقد سيطرت هذه القوى على الشمال، أقليم كردستان، فيما لم يستطع السنة العشائريون فعل شيء من هذا القبيل بسبب تأخرهم في استثمار العملية السياسية، وبهذا فإن وضع اليد السياسية على هذه الأقاليم يتضمن السيطرة على الموارد المالية فيه أو على النصيب الكبير من الموارد الوطنية، ثم توسيع السيطرة السياسية وطرد المنافسين وتكوين المليشيا وتكريس خطابها الطائفي في التعليم وأجهزة الثقافة المختلفة، وبالتالي تظهرُ ملامحُ الدولةِ الطائفية المكتملة، وإذا كانت كردستان قد اكتملتْ في هذه السيطرة وكرستْ دولتَها ولم يبق سوى أن تستولي على مدينة (كركوك) المتنازع عليها فجأة بين الأقاليم الثلاثة، لشهيتها الكبيرة في التهام النفط، فإن الإقليمين الآخرين هما في الطريق إلى ذلك، فلا توجد دولةٌ وطنيةٌ تتنازعُ على مدينة داخلها.
لا يمنع كردستان من الانفصال سوى الدولة التركية في الشمال التي ترفض مشروعات الدول الطائفية.
يحدد الحزب السابق الذكر الطبيعة الاجتماعية لهذا المشروع:
(من النتائج الأخرى للفدرالية إنها تصبح سبباً في جر جماهير كل منطقة تحت جناح وقوة جماعة رجعية وستدار كل منطقة حسب قانون معين حسب ماهية القوة السائدة بحجة الثقافة والدين والمذهب)، (ستصبح سبباً لإضفاء الهوية القومية والطائفية والعشائرية على كل منطقة)، (الحزب الشيوعي العمالي).
كان انهيار العراق السياسي التحديثي نتيجة الصراع بين حزب البعث العربي الاشتراكي وبين الحزب الشيوعي العراقي، فهاتان القوتان التحديثيتان واجهتا بعضهما البعض كما قلنا في صراعات دامية، ثم توصلتا لما يُعرف بالجبهة الوطنية القومية التقدمية، وكان مشروعاً وطنياً مهماً، لولا توجه صدام حسين للقضاء عليه والقضاء على التوجهات الوطنية الديمقراطية داخل حزب البعث نفسه.
كانت القوى الاستعمارية والمحافظة في المنطقة تسعى لهدم الجبهة، التي كانت لو استمرتْ لكانت أساساً للاستقرار في العراق والمنطقة، فهي على الأقل سوف تخففُ من وطأةِ القيادة الفردية المطلقة ومغامراتها. ولكن صدام اتخذ الجبهةَ فخاً لاصطياد كوادر الحزب الشيوعي والانقضاض عليه كعادة تكتيكاته.
هذا الأساسُ المضطربُ تشكلَّ على صراعاتٍ ضارية ومنافسات منذ انقلاب تموز سنة 1958، وقبل هذا كان العراق مسرحاً لأعمال عنف لم تتوقف.
كذلك كان التحالف التحديثي يحتاج إلى قوى اجتماعية من الطبقات الحديثة وإلى ازدهار صناعي وكان هذا كله مفتقداً. وكان يحتاج إلى قواعد حزبية عميقة الثقافة سواء بفهم الماركسية أو القومية، يقول أحد الباحثين العراقيين المعروفين:
(وبطبيعة الحال يتحملُ الشيوعي حصة غير قليلة من وزر الأحداث المؤلمة التي انزلق فيها بغرور الكثرة الهابطة النوع بعد عام 1958. فلو سألنا أعضاء بارزين في الحزب، من الذين قضوا صامدين خلال التعذيب، كم منهم أدركَ نظريةَ رأس المال؟)،(واتذكر إني اطلعتُ في ارشيف جريدة (اتحاد الشعب)، (25 آذار 1959)، على برقية ابرقتها منظمة الحزب في منطقة من مناطق الأهوار إلى الزعيم عبدالكريم قاسم تطالبه ببناء مستوصف، وإقامة طريق بري، وتطهير الجهاز الإداري من الفاسدين والخونة وخاصة البلدية والخروج من حلف بغداد!)، (مقالة لرشيد خيون في الشرق الأوسط، 16 مايو 2007).
كان غمرُ الأحزابِ بجموعٍ شعبيةٍ محدودة المعرفة والزج بها في الصراعات السياسية من أكثر المخاطر التي خربت الحزبين البعثي والشيوعي، وحين يتم تسليح هذه الجموع فإن الكوارث تتعاظم بشكل مأساوي، (وهو شكلٌ من الممارسة السياسية تستعيدها الآن التنظيماتُ السياسية المذهبية).
وبطبيعة قسوة وقوة النظام السابق الأمنية لم يستطع الحزب الشيوعي أن يفعل شيئاً ورغم التحالفات المتعددة، فأنها لم تغير شيئاً، ودفعت المجازر والهجرة أعضاء المعارضة إلى التعاون مع الولايات المتحدة وبريطانيا لإزالة النظام، وهم في حالةِ تعبٍ سياسي وانهاك وعوز مادي.
(ولم تنجح القوى السياسية العراقية في إقامة التحالف المنشود القادر على اسقاط النظام. . دفعها الأحباطُ والشعور بالعجز إلى إقامة التحالف مع الولايات المتحدة وبريطانيا لاسقاط النظام. واتخذ الحزب الشيوعي موقفاً واضحاً وصحيحاً من الحرب إذ رفضها، رغم إنه كان يريد الإطاحة بالنظام بقوى الشعب الخاصة)، (كاظم حبيب باحث اقتصادي عراقي، الحزب الشيوعي العراقي والأحداث الجارية في العراق، من موقع الناس الإلكتروني).
كان العملُ مع القوى المذهبية السياسية والقومية المحافظة في اثناء تأسيس النظام الجديد قد جعلَ الحزبَ الشيوعي غير قادرٍ على الدفاع عن نظام علماني ديمقراطي وعن عراق موحد، وهي الأهداف التي لم يسعَ لها بقوة حتى في العهود السابقة، فالعلمانية والفصل بين الدين والسياسة لم تكن من أولوياته، لعمله بين الجمهور المسيس الديني، الإمامي غالباً، وبهذا انساق مع المناخ السياسي الجديد يحاول أن يوجهه صوب الحداثة والديمقراطية، فصعدت القوى الدينيةُ المذهبيةُ وراحت تفرضُ مشروعَ التقسيم ومناطقها التابعة للقوى الإقطاعية المذهبية والعشائرية.
يضيف الدكتور كاظم حبيب في نقده لسياسة الحزب:
(وخلال فترة التحالف مع القوى السياسية العراقية كان الحزب الشيوعي يكف في الغالب الأعم عن تقديم النقد العلني والمجاهرة بملاحظاته إزاء القوى المتحالفة معه، خاصةً إذا كانت تلك القوى في السلطة، وكان يعمد إلى ممارسة النقد الذاتي وعبر مذكرات خاصة).
لكن القوى الدينية المحافظة تزداد شهيتها كلما وجدت هذا التراخي من قبل القوى التقدمية، فتوسعُ مشروعَ الارتداد إلى الماضي، وكان نموذجاً لهذا ما فعله أحدُ المسؤولين الكبار في الحكم تجاه القوانين المتعلقة بالأسرة والمرأة.
(قرر مجلس الحكم بجلسته المنعقدة بتاريخ 29/12/2003 ما يلي:
1 – تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية فيما يخص الزواج والخطبة وعقد الزواج والأهلية واثبات الزواج والمحرمات وزواج الكتابيات والحقوق والرضاعة ونفقة الفروع والأصول والأقارب والوصية والإيصاء والوقف والميراث وكافة المحاكم الشرعية (الأحوال الشخصية) وطبقاً لفرائض مذهبه).
2 – إلغاء كل القوانين والقرارات والتعليمات والبيانات وأحكام المواد التي تخالف الفقرة(1) من هذا القرار.
3 – يعمل به من تاريخ صدوره)، رئيس مجلس الحكم عبدالعزيز الحكيم).
ويقول كاظم حبيب إن هذا القرار لم يُعَّرف به ولم يشكلْ الحزبُ الشيوعي حملةً ضده، أو حتى يذكره، رغم معارضة نائبه في مجلس الحكم هذا القرار، ولم يتم إلغائه إلا من قبل الحاكم الأمريكي وقتذاك وهو كريمر!
لم يحتج سوى 80 منظمة نسائية وهي المتضررات من قرارات رجال الدين المحافظين الذين راحوا يوسعون سطوتهم الفئوية على الأقاليم والعامة.
هذا الانزلاق اليساري باتجاه السيطرة المحافظة اليمينية يقود إلى تجذر القوى المذهبية المحافظة، التي تتوجه إلى استثمار العبادات الإسلامية وتحريكها بشكل جماهيري واسع، مما يرفد هذه الأحزاب بقوى الناس العادية الجاهلة التي لعبت نفس الأدوار السلبية في صراع الحزبين البعثي والشيوعي سابقاً، وعبر هذا تقوم بعرقلة نشؤ عراق تحديثي ديمقراطي. واستغلال الشعائر والمقولات الإسلامية هي عمليات تمويه موسعة لهذه القوى الجديدة في حراكها من أجل المال والنفوذ، ولو كان ذلك صحيحاً لالتزموا بدعوة الإسلام الكبرى من أجل الوحدة وترك المذهبيات السياسية الممزقة للشعوب.
في حين كان انزلاقُ البعث بعد خروجه من السلطة إلى العشائر العربية السنية وإلى التعاون مع القاعدة يعبر عن خراب آخر. وهكذا وجد حزبا التحديث نفسيهما بصراعهما الطويل الضاري أنهما يمشيان وراء القوى الطائفية والعشائرية المتخلفة الممزقة لخريطة العراق الوطنية.
وحين تم التخفيف من الهجوم على المؤسسات الوطنية خاصة الجيش وإعادة بعض الضباط والجنود وغير هذا من إجراءات بدأت بعض أنسجة الوحدة الوطنية تتراءى وحدثت تطورات على صعيدي التطور الاقتصادي والأمن، ولكن كل هذا لا يكفي دون الانعطاف عن سياسة المحاصصة الطائفية والعودة إلى النهج الوطني العراقي العلماني.
صار العراق بدلاً من دولةٍ وطنية حديثة موحَّدةٍ كياناتٍ تتوجهُ لتكون دولاً مستقلة متصارعة، وكما عبرت عن ذلك ظاهراتٌ تم رصدها سابقاً، فإن الصراعَ الأكبر جرى حول موارد البلد وكيفية رؤية تطوره الاقتصادي.
لقد كانت لسلطة الاحتلال خطة خاصة في هذا الشأن، فالاقتصاد في خاتمة المطاف هو بيت القصيد.
في يناير 2007 صدر إعلان النوايا بين الرئيس جورج بوش والسيد نور المالكي وتضمن الالتزام بمبادئ الليبرالية الجديدة، وهي النمط الاقتصادي الذي قلنا بأنه يمثل سياسة المحافظين الجدد الأمريكيين وصارت له نتائج كارثية على الاقتصاد الأمريكي والعالمي في الفترة الأخيرة كما ظهر ذلك في الأزمة المالية، وقد تضمن إعلان الرئيسين الأمريكي ورئيس وزراء العراق، قيام سياسة اقتصادية حرة وتقليص القطاع العام والتركيز على بيع النفط الخام، ويقول الباحث الاقتصادي العراق كاظم حبيب إن ذلك يعني(التخلي عن دور الدولة الكامل في النشاط الاقتصادي وترك المجال كاملاً للقطاع الخاص المحلي والأجنبي، (ونظراً لضعف القطاع الخاص المحلي سيكون الباب مفتوحاً للقطاع الخاص الأجنبي)، وكذلك (التخلي عن التصنيع التحويلي للزراعة)، و(الاعتماد الكامل على الاستيراد وسياسة الباب المفتوح).
ومن شأن هذا كله تحويل السوق إلى مؤسسات تمتص النقدَ السائل وتحوله إلى الخارج، ارباحاً وشراءً للبضائع والأجهزة وكافة السلع، وعلى حد تعبير الباحث الاقتصادي السابق الذكر؛ (إن هذا يعني بأن الاقتصاد العراقي يبقى تابعاً ومرتبطاً عضوياً بالنفط الخام والاستيراد الذي يستنزف كامل الدخل القومي).
وقد تم التخطيط لهذا كله على ضوء قوة العراق البترولية. قال محسن خان مدير قسم الشرق الأوسط بصندوق النقد الدولي بأنه(يتوقع أن ينمو الناتج العراقي خلال سنة 2008 بنسبة 7% وأن يستمر النمو بنسبة 7% أو 8% في عام 2009).
وحسب تقديرات صندوق النقد الدولى فإن متوسط إنتاج النفط العراقي الذي يمثل 70% من الدخل الوطني، أو 80% في تقديرات أخرى، بلغ مليوني برميل يومياً خلال الفترة من عامي 2006 و2007. فبلغت إيرادات العراق سنة 2007 نحو 27 مليار دولار في مقابل 20 مليار دولار سنة 2006.
وقال مهدي الحافظ وهو وزير سابق وباحث بأن الاقتصاد العراقي مشوه وتعتمد موازنته العامة على فوائض النفط فتبلغ 85% من مجموع مصادر التمويل، ولكن هذه الموازنة تتعرض لجهاز دولة بيروقراطي يعاني من قلة الموارد الضريبية، كما تم (رصد موارد غير قليلة لأغراض معينة كفقرة المنافع الاجتماعية لتخصيصات مفتوحة لرئاسة الجمهورية ومجلس الورزاء ومجلس النواب وجهات رسمية أخرى والتي تفتقر لتعريف وضاوبط واضحة مما يثقل لوحة الأنفاق العام)، (مهدي الحافظ، دراسة في مجلة الغد الأردنية).
إن المحاصصة السياسية المذهبية على مستوى الدولة تتحول إلى محاصصات مالية وتشكيل قوى بيروقراطية استغلالية تدعم تلك الدويلات الجنينية، مما يحول الصراع السياسي هنا إلى صراع على المصالح الاقتصادية وعلى الميزانية العامة فكل أقليم يطالب بحصة أعلى، وقد حدثت الصراعات على هذه الحصص، فيظهر أقليمٌ مميز وآخر غير مميز.
ويعرض برنامج الحزب الشيوعي العراقي ذلك دون أن يتطرق إلى الأسماء والجهات وحالات الصراع المريرة فيدعو إلى تنفيذ الأهداف التالية:(تصفية مظاهر التمييز والنزعات الشوفينية والتعصب القومي والديني والمذهبي، التي أفرزتها الدكتاتورية المقبورة وحروبها، وفاقمتها سياسةُ الاحتلال وقوى الأرهاب والسياسات الخاطئة في إعادة بناء مؤسسات الدولة)، (نبذ نهج المحاصصات، وانهاء مظاهر الاستقطاب الطائفي، وتكريس نهج الوحدة الوطنية)، (4و5 من فقرة بناء الدولة، برنامج الحزب الشيوعي العراقي).
وهذه تبقى أمنيات في وقت تتوجه سياسة رئيس الحكومة إلى تقزيم القطاع العام الصناعي وعدم تحويل كمية كبيرة من الفوائض للصناعات المعدنية والبتروكيمائية، وعدم انقاذ الزراعة العراقية المنهارة التي راحت تستورد حتى الخضروات، وكل هذا يتساوق مع السوق المفتوحة الحرة وتغلغل الشركات الأجنبية ومنافع البيروقراطيات السياسية الجديدة التي تموه تبعيتها واستغلالها بالمذاهب الإسلامية والأفكار القومية.
وعبر هذه التوجهات ستبقي سياسة الحكومة العراقية سياسة توزيع مالي وليست دولة مالكة لقطاعات عامة تصنيعية، تقود بها اقتصاداً وطنياً مستقلاً قوياً، وتتحول القوى البيروقراطية الحاكمة إلى قوى متنفذة في السوق، وتنشئ علاقات سياسية فوق مؤسسات الدولة العراقية، فكل أقليم يقيم تحالفاته مع الدول الغربية المسيطرة أو مع الدول المجاورة التي تسعى لتفكيك العراق والسيطرة على أقاليمه.
ومن هنا أهمية نشوء تحالفات ديمقراطية تحديثية تقدمية تشمل العراق كله، وتنشر ثقافة موحدة وتصنع إرادة موحدة جديدة لعراق ديمقراطي علماني بدلاً من الانزلاق في التخلف والتقسيم.
Published on November 04, 2019 12:12
No comments have been added yet.


