عبـــــــدالله خلــــــــيفة : جذور الصراع الطائفي اللبناني
فصل من كتاب صراع الطوائف والطبقات في المشرق العربي وإيران
جغرافية لبنان الجبلية العالية وتشكل مدنه وراء هذه الجبال الحارسة الصادة لطغيان ملوك الشرق وأباطرته الباذخين الناهبين السرمديين، هي التي أعطتْ مدنَهُ وأريافه إمكانيات أن تكون لها رؤوسٌ عالية، وأرادةٌ نضالية، حين جمعت هذه المدن بين الأسوار وروح النضال وعقلية البحث والتجارة.
ولكن الحرية غير مكتملة لأن المدن على مرمى حجر من طغاة الشرق، كما أن هؤلاء قادرين على التسلل بين الجبال وحرق المدن أو الإستيلاء عليها.
ولهذا كان لبنان وما يقاربه من سوريا هو أرضُ المنفيين، والمهاجرين المعذبين، والتجار المغامرين، ولم تفلح ثورتهُ الفكريةُ الديمقراطية داخله وإنتقلتْ لبلاد الأغريق حيث الإتساع الكبير والحماية الجغرافية المنيعة.
فاضتْ عليه الدياناتُ والأمبراطورياتُ المسيحية والإسلامية، وجاءه المعذبون والمناضلون الذين فشلوا في نضالاتهم، والموظفون الحاكمون مندوبو الدول، فتكونت فيه فسيفساءٌ دينيةٌ مذهبية إجتماعية، من موظفي الخلفاء الراشدين إلى حكام الخلافات الإستغلالية التالية. من قادة يرسلهم عمر بن الخطاب إلى القبيلة العربية المهزومة بعد حرب صفين، وزُرعت فيه كلماتُ المنفي المناضل أبوذر الغفاري وقوى الحلم الإسلامي بالعدل وأصطفت إلى جانب المعذبين المسيحيين الهاربين من الاضطهاد.
لم تعد المدن التجارية الموانئ المزدهرة هي فقط ما ينتجه العربُ المسيحيون والمسلمون بل الأرياف المزدهرة والمحمية بالأحراش وغابات الأرز التي صارت عنواناً للحماية وشموخاً وإختباءً.
زرعتْ فيه الدولُ الاستغلالية الأحقادَ الدينية والشكوك، فكلما جاءت قوةٌ مهيمنة قتلتْ أصحابَ العقائد الأخرى، ونفختْ في عقيدتها بالأجهزة وموظفي الخراج مصاصي الدماء.
في القرون الحديثة غدت هذه الفسيفساء الدينية الطائفية ساحات للشطرنج السياسي، فالإقطاع الزراعي ومادته الخام المستغلة الفلاحون، هو الرقعةُ الكبرى التي تجري فوقها خيولُ المصالح، وكل إمبراطورية تتقدم بمجموعة من البيادق الاجتماعية السياسية، الأمبراطورية العثمانية ختام القيح الإقطاعي أخذت تواجه تمرد الفلاحين المُحرَّضين من قبل الغزو الغربي الإستعماري، وشكلَّ هذا التغلغل الغربي أدواته من خلال الثقافة الدينية السياسية فحافظ على الإقطاع الديني السياسي كواجهةٍ زائفة للحضارة الأوربية المسيطرة، وجعل الدين الإسلامي بمذاهبه أكسسورات مكملة للسيطرة العليا المارونية.
السنة في نموهم المدني، والشيعة بكدحهم الفلاحي، يقدمون البضائعَ للتاجر الماروني، كوكيل للاستعمار الفرنسي، لكن المسلمين من خلال توالدهم الكثيف، وحراك منطقتهم التي يسيطرون عليها، وصراعهم المتشنج مع اليهودية، راحوا يغيرون الثالوث اللبناني أو يسقطونه فوق رؤوسهم.
هذا الظرف المنوع المتصارع مكن الاستعمار الفرنسي من تشكيل دولة طائفية يرأسها الموارنة، وتتدرج في سلمها الاجتماعي السياسي المتصارع الملتبس بين الطوائف الإسلامية والطوائف الأخرى.
أعطى العصرُ الحديثُ إمكانيات كبيرة للبنان كي يتحرر وينفصل بذاته عن إستبدادية الشرق الملاصق له، ففرنسا مؤسسة الحداثة الغربية النضالية هي راعيته، وغذت فيه الثقافة الحديثة عبر المؤسسات التجارية التصديرية الاستيرادية، وكان الموارنة – برجوازية لبنان – هم الوكلاء، ومنذ القرن التاسع عشر تدفقت سيول هذه الثقافة التنويرية الأدبية، لكن بقيت في طابعها الثقافي العام غير قادرة على خلق ثقافة وطنية توحيدية.
فإنتاجُ الثقافةِ من خلال الطائفةِ بشكلٍ إستيرادي يجلبُ مفاهيمَ المصدر، وحتى هنا حين قام الموارنة بجلب الثقافة الفرنسية التحديثية حجّموها في مفاهيم نهضويةٍ مجردةٍ غيرِ قادرةٍ على النقد النضالي للطائفية وإنتاج ثقافة ديمقراطية علمانية، فقادَ هذا الطوائفَ الأخرى لجلبِ ثقافات طائفية من مصادر أخرى.
فواجه لبنان ثقافةً تابعةً للحداثة الشكلية الغربية، وهيمنة دينية إقطاعية شرقية كبرى متعددة الأشكال. سياسياً تجسد ذلك في ظهور حزب(الكتائب) بشكل فاشي، مستوحياً نموذجه من أسبانيا فرانكو، وليس من ثقافة هدم الباستيل الفرنسي، مما أكد جذور الإقطاع الماروني العسكري أكثر من إنفتاح الحداثة الديمقراطي، ووضح عدم قدرة البرجوازية الطائفية على خلقِ ثقافةٍ وطنية ديمقراطية، وهذا قادَ المسلمين إلى بعثِ النماذج الدكتاتورية السياسية لطوائفِهم المختلفة، وهم يقبعون كذلك في الإرث الاجتماعي التقليدي.
وذلك يتشكلُ عسكرياً بطابع المليشيا التابعة للحزب الشمولي.
إن كل طائفة حسب هذا التطور تصعدُ دكتاتوريتَها الخاصة، حسب تدفق الثراء داخل قياداتها، وعلاقتها بطرف عالمي مهيمن، وعلاقتها بطرفٍ عربي إسلامي ناهض أو موسع لسيطرته. فيغدو لبنان صدى للخارج، وداخلهُ يمورُ بحركةٍ غير منتجة مؤسسة.
أحجام الطوائف مهمة وتحالفاتها مهمة كذلك، وأيضاً دور القيادات الارستقراطية والإقطاعية وشبه البرجوازية المهيمنة وإتجاهاتها في الحقول الوطنية والمناطقية والعالمية .
ففيما كانت الهيمنةُ الغربيةُ تواجه إنحساراً مؤقتاً خلال نهوض الشرق التحرري صعدتْ القوى القومية العربية في سوريا ومصر والعراق وغيرها من الدول العربية، صانعةً نموذجَ رأسماليةِ الدولةِ الوطنية الاستبدادية، وهو شكلٌ يؤكدُ ضعفَ السوق الحر والقوى الوسطى وهيمنة قوى وسطية هامشية خاصة الضباط الكبار، فتمددتْ على لبنان وتصارعت فيه وأصطدمت بنموذجه الليبرالي المتغرب.
تواجه هذا الصراع بين النموذج الليبرالي الغربي التابع، ونموذج الشرق العربي التحرري الشمولي، ولم يكن لبنان قادراً على الانحياز لكلا الشكلين من التطور، فتلك دولٌ عربيةٌ كبيرةٌ موحدةٌ قادرةٌ على إنتاجِ الدولةِ المركزية، فيما لبنان ليس بمستوى ذلك، كما أنه غيرُ قادرٍ على إنتاجِ نموذجِ الغرب الديمقراطي التحديثي العلماني من جهة أخرى، فأكتوى صراعاً وناراً بين الجهتين.
كان لا بد للمسلمين من الانحياز ضد النموذج الغربي التحديثي الديمقراطي التابع، في أثناء صعود نماذج الدول الوطنية الشمولية، فأدى عددهم الكبير ونشاطهم من تحجيم المحور الآخر لكن دون القدرة على هزيمته، ودون القدرة على إنتاج نموذج وطني ديمقراطي توحيدي من جهةٍ أخرى، فبقيت الطوائفُ في إختلافها وصراعاتها، وبقيت قواعدُها وقممها المفتتة غير الملتحمة طبقياً.
تغدو التحالفات والمفارقات نتاجاً لحراك طائفي داخلي، فالقيادة المارونية الغنية ذات الشعار الغربي وجدت نفسها في صعود الغرب ونزوله، فيما صعد المسلمون مع نمو الدول العربية والإسلامية، عبر حراك طوائفهم وظروفها وصراعاتها كذلك والتي سوف تصل لاحقاً إلى مستويات كارثية.
كان صراعُ المسلمين ضد المسيحية المارونية صراعاً طائفياً، وليس صراعاً تحديثياً ديمقراطياً، فكانت له نتائجه السلبية الاجتماعية والسياسية.
فالقيادات والقوى التي إشتغلت على هذا الصراع من الجانب الديني الإسلامي كانت محافظة تقليدية، وهي تشيرُ كذلك إلى التفتتِ المناطقي وحراك قوى الإقطاع المختلفة وإستخدام الجمهور العامي الفاقد لدورهِ النضالي، أي كان ذلك كله تعبيراً عن صراعات القرون الوسطى البالية.
الدولةُ المصريةُ أخلتْ المكانَ للدولة السورية، ذات الحضور التقليدي في خاصرةِ التطور اللبناني، كانت في بداياتها الوطنية الخمسينية التعددية تشكل علاقة تداخل مفيدة ونضالية مع اللبنانيي، مع تصاعد جهاز الدولة المركزي وهيمنته راحت تصعدُ رأسماليةَ دولة شمولية عسكرية، وتهزم تحالف(الجبهة الوطنية اللبنانية) الذي حاول هزيمة المارونية.
لم تكن جبهةً وطنية لأنها لم تستطع دمج المسيحيين في نضالها الموهوم، وعدمُ إنتاج نضالٍ وطني ديمقراطي متغلغلٍ في كافة شرائح الشعب اللبناني، تعبيرٌ عن غياب النضال الوطني الديمقراطي، وتجميع تحالفات شموليات سياسية عدة.
ومثلما كان المسيحيون إقتصر نضال المسلمين التحديثي على شرائح فوقية، وكانوا وكلاء منتوجات إقتصادية أو وكلاء منتوجات سياسية إستبدادية أو مهيمنين على العاملين.
هزيمة المسيحيين أو هزيمة المسلمين قبل الحرب الأهلية أو بعدها لا تُغني الثقافة، ولا تُحدث نقلةً إجتماعيةً تطورية، نظراً لبقاء الفسيفساء الطائفية، لكنها تغير أحجام السكان وحراكهم، عبر الصراعات والحروب المرضية وليس عبر حراك تنموي صحي.
في هذه الأثناء كانت سوريا الدولة الشمولية تنتقل لنظام عسكري إستخبارتي تدخلي، ثم تفرض سطوتها في الجنوب عبر مؤيديها المذهبيين السياسيين.
إن الطائفة الشيعية الأكثر عدداً والأوسع فقراً والأكثر تعرضاً للهجمات الإسرائيلية، تنتقل من مناطق التخلف البعيدة وتحتشد في جنوب العاصمة اللبنانية وتتمركز الطوائف الأخرى في خنادقها بقوة.
وكان حراك الريفيين نحو المدن العربية يسبب فوضى وعودة إجتماعية للوراء عموماً، وهذا ترافق مع العدوان الإسرائيلي المستمر، ومع ظروف العامة الفقيرة المأزومة والباحثة عن تغيير إجتماعي.
في هذه الأثناء كان المشروع العربي القومي ينهار، بسبب عجز الرأسماليات الحكومية الشمولية عن محاربة الاستغلال والفقر والبطالة، وكانت هي منتجةٌ لها بإسم محاربتها. لهذا تصاعدت النزعاتُ الطائفيةُ بشكل واسع وجامح. وغدت أكثر وضوحاً وفجاجة. وظهرتْ رأسماليةٌ حكومية جديدة في المشرق العربي الإسلامي في إيران التي راحت تتمدد فوق نسيج طائفي واسع منتهجة نهجاً عسكرياً.
الفئات السنية والمسيحية لاصقت الحياة التجارية والانفتاح حيث لم يعد ثمة رأسمالية دولة، بل غربٌ يكرسُ سيادة الرأسمالية.
التفسخ الداخلي لرأسمالية الدولة السورية والعجز عن تحرير الأرض المحتلة وتقديم التطور والديمقراطية والشبع للشعب تلاقت مع ذات المشكلات لرأسمالية الدولة الإيرانية. فوجدت الاثنتان نفسيهما في موقف سياسي عريض واحد.
كان السيد موسى الصدر يعمل في الطائفة الشيعية من أجل أن يكون للطائفة حضور سياسي إجتماعي بارز وبشكل منفتح متعاون مع بقية الطوائف وخلقَ علاقات جيدة مع رجال دين مسيحيين فكان نقطة تحول في حياة لبنان، فأُزيح من خلال مؤامرة كبيرة لعدة دول كما يبدو وإختفى في ليبيا، وتصاعد تنظيمان مذهبيان هما حركة أمل وحزب الله بعد ذلك، وعملا على منع تطور النضال الوطني الديمقراطي في لبنان والجنوب خاصة، وتصفية القوى المعارضة للحكم السوري، أي كان دورهما مثل المليشيا الطائفية المختلفة السابقة أي عبر إستخدام العاملين الفقراء المُفرَّغين من عقولهم ومن أرضهم.
توزعت القوى السياسية الطائفية اللبنانية على محوري العالم العربي الإسلامي المتصارعين اللذين يمثلان شموليات متعددة متقاربة، ليس فيها ديمقراطية عميقة، فهنا مركزية شديدة وهيمنة للرأسمالية الحكومية العسكرية وهناك مركزية أقل وحرية أوسع للقطاعات الخاصة وبعض الحريات اليسيرة.
وجمعت القوى السياسية اللبنانية ولاءات لهذه الأنظمة المتصارعة المتقاربة، لكونها تمدها بالمساعدات المختلفة، كما أن بعض هذه القوى السياسية اللبنانية غدا إمتداداً سياسياً وإيديولوجياً وعسكرياً لها، مما نقل أزمات وقضايا تلك الأنظمة إلى الداخل اللبناني.
لا يمكن إنقاذ لبنان سوى بإمتداد التحولات الديمقراطية العربية الجديدة إلى الأنظمة الشديدة المركزية المؤثرة على لبنان والمعرقلة لتطوره الوطني الديمقراطي، وحدوث فيض ديمقراطي شبابي واسع النطاق، يتغلغل في الحشود اللبنانية العادية ويدفعها لإزاحة التنظيمات الطائفية من التصدر في الساحة ويهزم إيديولوجياتها المستوردة.
جغرافية لبنان الجبلية العالية وتشكل مدنه وراء هذه الجبال الحارسة الصادة لطغيان ملوك الشرق وأباطرته الباذخين الناهبين السرمديين، هي التي أعطتْ مدنَهُ وأريافه إمكانيات أن تكون لها رؤوسٌ عالية، وأرادةٌ نضالية، حين جمعت هذه المدن بين الأسوار وروح النضال وعقلية البحث والتجارة.
ولكن الحرية غير مكتملة لأن المدن على مرمى حجر من طغاة الشرق، كما أن هؤلاء قادرين على التسلل بين الجبال وحرق المدن أو الإستيلاء عليها.
ولهذا كان لبنان وما يقاربه من سوريا هو أرضُ المنفيين، والمهاجرين المعذبين، والتجار المغامرين، ولم تفلح ثورتهُ الفكريةُ الديمقراطية داخله وإنتقلتْ لبلاد الأغريق حيث الإتساع الكبير والحماية الجغرافية المنيعة.
فاضتْ عليه الدياناتُ والأمبراطورياتُ المسيحية والإسلامية، وجاءه المعذبون والمناضلون الذين فشلوا في نضالاتهم، والموظفون الحاكمون مندوبو الدول، فتكونت فيه فسيفساءٌ دينيةٌ مذهبية إجتماعية، من موظفي الخلفاء الراشدين إلى حكام الخلافات الإستغلالية التالية. من قادة يرسلهم عمر بن الخطاب إلى القبيلة العربية المهزومة بعد حرب صفين، وزُرعت فيه كلماتُ المنفي المناضل أبوذر الغفاري وقوى الحلم الإسلامي بالعدل وأصطفت إلى جانب المعذبين المسيحيين الهاربين من الاضطهاد.
لم تعد المدن التجارية الموانئ المزدهرة هي فقط ما ينتجه العربُ المسيحيون والمسلمون بل الأرياف المزدهرة والمحمية بالأحراش وغابات الأرز التي صارت عنواناً للحماية وشموخاً وإختباءً.
زرعتْ فيه الدولُ الاستغلالية الأحقادَ الدينية والشكوك، فكلما جاءت قوةٌ مهيمنة قتلتْ أصحابَ العقائد الأخرى، ونفختْ في عقيدتها بالأجهزة وموظفي الخراج مصاصي الدماء.
في القرون الحديثة غدت هذه الفسيفساء الدينية الطائفية ساحات للشطرنج السياسي، فالإقطاع الزراعي ومادته الخام المستغلة الفلاحون، هو الرقعةُ الكبرى التي تجري فوقها خيولُ المصالح، وكل إمبراطورية تتقدم بمجموعة من البيادق الاجتماعية السياسية، الأمبراطورية العثمانية ختام القيح الإقطاعي أخذت تواجه تمرد الفلاحين المُحرَّضين من قبل الغزو الغربي الإستعماري، وشكلَّ هذا التغلغل الغربي أدواته من خلال الثقافة الدينية السياسية فحافظ على الإقطاع الديني السياسي كواجهةٍ زائفة للحضارة الأوربية المسيطرة، وجعل الدين الإسلامي بمذاهبه أكسسورات مكملة للسيطرة العليا المارونية.
السنة في نموهم المدني، والشيعة بكدحهم الفلاحي، يقدمون البضائعَ للتاجر الماروني، كوكيل للاستعمار الفرنسي، لكن المسلمين من خلال توالدهم الكثيف، وحراك منطقتهم التي يسيطرون عليها، وصراعهم المتشنج مع اليهودية، راحوا يغيرون الثالوث اللبناني أو يسقطونه فوق رؤوسهم.
هذا الظرف المنوع المتصارع مكن الاستعمار الفرنسي من تشكيل دولة طائفية يرأسها الموارنة، وتتدرج في سلمها الاجتماعي السياسي المتصارع الملتبس بين الطوائف الإسلامية والطوائف الأخرى.
أعطى العصرُ الحديثُ إمكانيات كبيرة للبنان كي يتحرر وينفصل بذاته عن إستبدادية الشرق الملاصق له، ففرنسا مؤسسة الحداثة الغربية النضالية هي راعيته، وغذت فيه الثقافة الحديثة عبر المؤسسات التجارية التصديرية الاستيرادية، وكان الموارنة – برجوازية لبنان – هم الوكلاء، ومنذ القرن التاسع عشر تدفقت سيول هذه الثقافة التنويرية الأدبية، لكن بقيت في طابعها الثقافي العام غير قادرة على خلق ثقافة وطنية توحيدية.
فإنتاجُ الثقافةِ من خلال الطائفةِ بشكلٍ إستيرادي يجلبُ مفاهيمَ المصدر، وحتى هنا حين قام الموارنة بجلب الثقافة الفرنسية التحديثية حجّموها في مفاهيم نهضويةٍ مجردةٍ غيرِ قادرةٍ على النقد النضالي للطائفية وإنتاج ثقافة ديمقراطية علمانية، فقادَ هذا الطوائفَ الأخرى لجلبِ ثقافات طائفية من مصادر أخرى.
فواجه لبنان ثقافةً تابعةً للحداثة الشكلية الغربية، وهيمنة دينية إقطاعية شرقية كبرى متعددة الأشكال. سياسياً تجسد ذلك في ظهور حزب(الكتائب) بشكل فاشي، مستوحياً نموذجه من أسبانيا فرانكو، وليس من ثقافة هدم الباستيل الفرنسي، مما أكد جذور الإقطاع الماروني العسكري أكثر من إنفتاح الحداثة الديمقراطي، ووضح عدم قدرة البرجوازية الطائفية على خلقِ ثقافةٍ وطنية ديمقراطية، وهذا قادَ المسلمين إلى بعثِ النماذج الدكتاتورية السياسية لطوائفِهم المختلفة، وهم يقبعون كذلك في الإرث الاجتماعي التقليدي.
وذلك يتشكلُ عسكرياً بطابع المليشيا التابعة للحزب الشمولي.
إن كل طائفة حسب هذا التطور تصعدُ دكتاتوريتَها الخاصة، حسب تدفق الثراء داخل قياداتها، وعلاقتها بطرف عالمي مهيمن، وعلاقتها بطرفٍ عربي إسلامي ناهض أو موسع لسيطرته. فيغدو لبنان صدى للخارج، وداخلهُ يمورُ بحركةٍ غير منتجة مؤسسة.
أحجام الطوائف مهمة وتحالفاتها مهمة كذلك، وأيضاً دور القيادات الارستقراطية والإقطاعية وشبه البرجوازية المهيمنة وإتجاهاتها في الحقول الوطنية والمناطقية والعالمية .
ففيما كانت الهيمنةُ الغربيةُ تواجه إنحساراً مؤقتاً خلال نهوض الشرق التحرري صعدتْ القوى القومية العربية في سوريا ومصر والعراق وغيرها من الدول العربية، صانعةً نموذجَ رأسماليةِ الدولةِ الوطنية الاستبدادية، وهو شكلٌ يؤكدُ ضعفَ السوق الحر والقوى الوسطى وهيمنة قوى وسطية هامشية خاصة الضباط الكبار، فتمددتْ على لبنان وتصارعت فيه وأصطدمت بنموذجه الليبرالي المتغرب.
تواجه هذا الصراع بين النموذج الليبرالي الغربي التابع، ونموذج الشرق العربي التحرري الشمولي، ولم يكن لبنان قادراً على الانحياز لكلا الشكلين من التطور، فتلك دولٌ عربيةٌ كبيرةٌ موحدةٌ قادرةٌ على إنتاجِ الدولةِ المركزية، فيما لبنان ليس بمستوى ذلك، كما أنه غيرُ قادرٍ على إنتاجِ نموذجِ الغرب الديمقراطي التحديثي العلماني من جهة أخرى، فأكتوى صراعاً وناراً بين الجهتين.
كان لا بد للمسلمين من الانحياز ضد النموذج الغربي التحديثي الديمقراطي التابع، في أثناء صعود نماذج الدول الوطنية الشمولية، فأدى عددهم الكبير ونشاطهم من تحجيم المحور الآخر لكن دون القدرة على هزيمته، ودون القدرة على إنتاج نموذج وطني ديمقراطي توحيدي من جهةٍ أخرى، فبقيت الطوائفُ في إختلافها وصراعاتها، وبقيت قواعدُها وقممها المفتتة غير الملتحمة طبقياً.
تغدو التحالفات والمفارقات نتاجاً لحراك طائفي داخلي، فالقيادة المارونية الغنية ذات الشعار الغربي وجدت نفسها في صعود الغرب ونزوله، فيما صعد المسلمون مع نمو الدول العربية والإسلامية، عبر حراك طوائفهم وظروفها وصراعاتها كذلك والتي سوف تصل لاحقاً إلى مستويات كارثية.
كان صراعُ المسلمين ضد المسيحية المارونية صراعاً طائفياً، وليس صراعاً تحديثياً ديمقراطياً، فكانت له نتائجه السلبية الاجتماعية والسياسية.
فالقيادات والقوى التي إشتغلت على هذا الصراع من الجانب الديني الإسلامي كانت محافظة تقليدية، وهي تشيرُ كذلك إلى التفتتِ المناطقي وحراك قوى الإقطاع المختلفة وإستخدام الجمهور العامي الفاقد لدورهِ النضالي، أي كان ذلك كله تعبيراً عن صراعات القرون الوسطى البالية.
الدولةُ المصريةُ أخلتْ المكانَ للدولة السورية، ذات الحضور التقليدي في خاصرةِ التطور اللبناني، كانت في بداياتها الوطنية الخمسينية التعددية تشكل علاقة تداخل مفيدة ونضالية مع اللبنانيي، مع تصاعد جهاز الدولة المركزي وهيمنته راحت تصعدُ رأسماليةَ دولة شمولية عسكرية، وتهزم تحالف(الجبهة الوطنية اللبنانية) الذي حاول هزيمة المارونية.
لم تكن جبهةً وطنية لأنها لم تستطع دمج المسيحيين في نضالها الموهوم، وعدمُ إنتاج نضالٍ وطني ديمقراطي متغلغلٍ في كافة شرائح الشعب اللبناني، تعبيرٌ عن غياب النضال الوطني الديمقراطي، وتجميع تحالفات شموليات سياسية عدة.
ومثلما كان المسيحيون إقتصر نضال المسلمين التحديثي على شرائح فوقية، وكانوا وكلاء منتوجات إقتصادية أو وكلاء منتوجات سياسية إستبدادية أو مهيمنين على العاملين.
هزيمة المسيحيين أو هزيمة المسلمين قبل الحرب الأهلية أو بعدها لا تُغني الثقافة، ولا تُحدث نقلةً إجتماعيةً تطورية، نظراً لبقاء الفسيفساء الطائفية، لكنها تغير أحجام السكان وحراكهم، عبر الصراعات والحروب المرضية وليس عبر حراك تنموي صحي.
في هذه الأثناء كانت سوريا الدولة الشمولية تنتقل لنظام عسكري إستخبارتي تدخلي، ثم تفرض سطوتها في الجنوب عبر مؤيديها المذهبيين السياسيين.
إن الطائفة الشيعية الأكثر عدداً والأوسع فقراً والأكثر تعرضاً للهجمات الإسرائيلية، تنتقل من مناطق التخلف البعيدة وتحتشد في جنوب العاصمة اللبنانية وتتمركز الطوائف الأخرى في خنادقها بقوة.
وكان حراك الريفيين نحو المدن العربية يسبب فوضى وعودة إجتماعية للوراء عموماً، وهذا ترافق مع العدوان الإسرائيلي المستمر، ومع ظروف العامة الفقيرة المأزومة والباحثة عن تغيير إجتماعي.
في هذه الأثناء كان المشروع العربي القومي ينهار، بسبب عجز الرأسماليات الحكومية الشمولية عن محاربة الاستغلال والفقر والبطالة، وكانت هي منتجةٌ لها بإسم محاربتها. لهذا تصاعدت النزعاتُ الطائفيةُ بشكل واسع وجامح. وغدت أكثر وضوحاً وفجاجة. وظهرتْ رأسماليةٌ حكومية جديدة في المشرق العربي الإسلامي في إيران التي راحت تتمدد فوق نسيج طائفي واسع منتهجة نهجاً عسكرياً.
الفئات السنية والمسيحية لاصقت الحياة التجارية والانفتاح حيث لم يعد ثمة رأسمالية دولة، بل غربٌ يكرسُ سيادة الرأسمالية.
التفسخ الداخلي لرأسمالية الدولة السورية والعجز عن تحرير الأرض المحتلة وتقديم التطور والديمقراطية والشبع للشعب تلاقت مع ذات المشكلات لرأسمالية الدولة الإيرانية. فوجدت الاثنتان نفسيهما في موقف سياسي عريض واحد.
كان السيد موسى الصدر يعمل في الطائفة الشيعية من أجل أن يكون للطائفة حضور سياسي إجتماعي بارز وبشكل منفتح متعاون مع بقية الطوائف وخلقَ علاقات جيدة مع رجال دين مسيحيين فكان نقطة تحول في حياة لبنان، فأُزيح من خلال مؤامرة كبيرة لعدة دول كما يبدو وإختفى في ليبيا، وتصاعد تنظيمان مذهبيان هما حركة أمل وحزب الله بعد ذلك، وعملا على منع تطور النضال الوطني الديمقراطي في لبنان والجنوب خاصة، وتصفية القوى المعارضة للحكم السوري، أي كان دورهما مثل المليشيا الطائفية المختلفة السابقة أي عبر إستخدام العاملين الفقراء المُفرَّغين من عقولهم ومن أرضهم.
توزعت القوى السياسية الطائفية اللبنانية على محوري العالم العربي الإسلامي المتصارعين اللذين يمثلان شموليات متعددة متقاربة، ليس فيها ديمقراطية عميقة، فهنا مركزية شديدة وهيمنة للرأسمالية الحكومية العسكرية وهناك مركزية أقل وحرية أوسع للقطاعات الخاصة وبعض الحريات اليسيرة.
وجمعت القوى السياسية اللبنانية ولاءات لهذه الأنظمة المتصارعة المتقاربة، لكونها تمدها بالمساعدات المختلفة، كما أن بعض هذه القوى السياسية اللبنانية غدا إمتداداً سياسياً وإيديولوجياً وعسكرياً لها، مما نقل أزمات وقضايا تلك الأنظمة إلى الداخل اللبناني.
لا يمكن إنقاذ لبنان سوى بإمتداد التحولات الديمقراطية العربية الجديدة إلى الأنظمة الشديدة المركزية المؤثرة على لبنان والمعرقلة لتطوره الوطني الديمقراطي، وحدوث فيض ديمقراطي شبابي واسع النطاق، يتغلغل في الحشود اللبنانية العادية ويدفعها لإزاحة التنظيمات الطائفية من التصدر في الساحة ويهزم إيديولوجياتها المستوردة.
Published on October 25, 2019 12:18
No comments have been added yet.


