يوسف كرم ⊛
      يوسف كرم مؤرخٌ للفلسفةِ ومفكرٌ فيها، جاءت عائلتهُ المسيحيةُ من لبنان وعاشتْ في مصر في ضنكٍ، وعبر اعتمادٍ على عصاميتهِ استطاع يوسف كرم أن يتعلمَ حتى يصل إلى السفر إلى فرنسا ونيل الدكتوراة ، ثم اشتغلَ في التعليم وقامَ بعرضِ الفلسفات الغربيةِ عبر مؤلفاتهِ عن الفلسفة اليونانية والفلسفة الأوربية الوسيطة فالحديثة، ( 1 ) .
بدأ في صياغةِ رؤيتهِ الفلسفية الخاصة عبر كتابيه (العقل والوجود) و (الطبيعة وما بعد الطبيعة) .
يحاولُ يوسف كرم أن يقيمَ توازناً بين العقل والدين ، بين الوعي الإنساني وما بعد الطبيعة ، عبر مركزيةِ موروثهِ الديني المشرقي وبجذورِ الفلسفةِ الأرسطية والإسلامية في العصر السابق ، وهي الموروثاتُ التي تعرضتْ في الغرب لعواصفِ المدارس الفلسفية الحديثة .
وهو يقيمُ تأريخَهُ الفلسفي عبر عرضِ مقولاتِ كل فيلسوف ومفكر ، بدون العلاقة الجدلية بين النص الفلسفي الُمنتّج والوعي الفكري العام والوسط الاجتماعي .
❜❜ ضد الحسية والتصورية
يفتتحُ يوسف كرم كتابَهُ ( العقل والوجود ) بمناقشةِ من يسميهم ( الحسيون ) ، يقول :
(ينكر الحسيون وجود معانٍ في أذهاننا ، ويبنون هذا الإنكار على اعتبارين : أحدهما أنه لما كان كل موجود حسياً كانت معارفنا إما احساسات أو راجعة إلى احساسات . والاعتبار الآخر أن المعنى الكلي تصورٌ متناقض يلغي عجزه صدره إذ الكلية تمنع المعنى من التعيين ، بينما كل موجود وكل تصور فهو معين حتماً .) ، ( 2 ).
إن الحسيين كما يصفهم يوسف كرم ، أو التجريبيين كما يسمون أنفسهم ، يشددون على قضيةِ الوصول للعام من خلال استقراء وبحث الخواص ، فهم لا ينكرون وجود معان بل ينكرون أن يوجد في الذهن أو في الوعي كائنات وأفكار عامة غير مفحوصة معملياً وبحثياً ، ولكن يوسف كرم هنا ينقدهم على هذا التشدد لكنه يعرض رؤيتهم للكل :
(إنها صورةٌ تــُـكتسب بالانتباه إلى الخصائص المشتركة بين الجزئيات وفصلها عن الخصائص الذاتية لكل جزئي ، وهذا هو التجريد عندهم )، ( 3 ) .
لكنه لا يقوم هنا بعرضِ كيفية وسببية هذا التدقيق والاشتراط من قبل التجريبيين للوصول إلى الكلي ، حيث اعتمدت النهضة الأوربية لعزل التصورات غير العلمية عن الأشياء وأفكارنا عنها ، إلى عدم الوصول إلى تعميمٍ بدون تجربة .
ولهذا فهو يحاكم هذه التجريبية بمنطق فلسفي قديم ، يقول :
(ونبدأ بالكلام على الصورة المركبة فنقول : إن الحصول على صورة من هذا القبيل يقتضي أن تكون الصور الجزئية قليلة العدد شديدة التشابه ، فإذا حُذفت إحداها أو أضيفت أخرى تعدلت الصورة الناتجة عنها )، ( 4 ) .
إنه يتوجه إلى عمليةِ تحليلٍ صورية للمعنى الكلي العام ، فــ( كيف نحصل على صورة متوسطة للحيوان باستخدام صور الأنواع الحيوانية .. ؟ ) ، وهو لهذا يستشهد بابن سينا الذي يقول :
(ليس يمكن في الخيال البتة أن نتخيل صورة هي بحال يمكن أن تشترك فيه جميع أشخاص ذلك النوع [ أي الممثل بالصورة ] فإن الإنسان المتخيل يكون كواحد من الناس ) ، ( 5 ) .
إن الوصولَ إلى العام هو رهنُ استقراءِ الخواص ، وهذا في التعميمات العامة النظرية ، أما الوصول إلى استنتاجات كلية ، أي الوصول للقانون في الظاهرة فيحتاج إلى فحص كل جزئي وخاص بشكل تجريبي ، وتحديداً فيما يتعلق بالظاهرة المحددة .
لهذا فإن المنطق النظري التعميمي لابن سينا في عبارته المستشهد بها هنا فإنه لا يصلح في زمن الاكتشاف التجريبي الحديث . فالعام رغم أنه غير موجود إلا في الوعي الفاحص للجوانب المشتركة في الجزئيات ، إلا أن الوصول إليه في هذه الأشياء الخاصة المتعددة ، يأتي عبر الاكتشاف التجريبي الدقيق لخواصها . وبهذا يحدث التعميم .
إن هذه اللغة الفلسفية القديمة للباحث لا تقف أمام أهمية هذه التجريبية :
(ويلاحظ أرسطو في مطلع كتاب السماع الطبيعي تأييداً لهذه أن الأطفال يميزون بين الإنسان واللاإنسان قبل أن يميزوا بين إنسان وآخر ) ، ( 6 ) إن هذا صحيح فيما يتعلق بهذه التعميمات الكبيرة أما في قراءة جزئيات المادة وعلاقاتها الداخلية فالأمر لا يحتاج إلى فحص العادات الاجتماعية والاستعانة بالمنطق الصوري بل عبر البحث التجريبي الذي يظل مفتوحاً دون نهائية معرفية أخيرة.
ويواصل يوسف كرم تحليل هذه القضية قائلاً :
(لا نقصد أن العقل ينفذ فوراً إلى صميم الأشياء ويبلغ دفعةً واحدة إلى خصائصها الجوهرية . إننا لا نزعم للعقل الإنساني مثل هذه المقدرة ، بل لا نخشى أن نعلن أنه لا يصل أبداً إلى ماهيات الماديات ولا يكشف عن فصولها النوعية ، فلا يحدها الحد الذي يشترط المنطق في العلم الكامل ، اللهم فيما سوى الماهية الإنسانية التي نعرف أن النطق فصلها النوعي )، ( 7 ) .
إن كلمات مثل : ( جوهر ) و ( ماهيات ) و ( الحد ) و (الفصل النوعي النطقي للإنسانية ) والتي تشيرُ إلى اللغةِ الفلسفية القديمة ، يتجاوزها الباحثُ حين يتحدث عن ( تعريف العناصر الكيمائية بوزنها وألفتها وآثارها ) ، ( وتــُعرف النباتات والحيوانات بالهيئة الخارجية والتكوين الداخلي ونوع الغذاء ) ، وهي ألفاظٌ تقربنا من العمليات الداخلية المركبة والمتحولة باستمرار في الطبيعة لكن ليس في الظاهرات الاجتماعية التي لا تدخلها العلوم حسب مادة يوسف كرم الفلسفية .
إنه بعد أن توصل إلى خلاصة نظرية عامة بإمكانية الوصول إلى التعميم [العلمي] بشكل نظري مجردٍ عقلي في الطبيعة ، فإن الرياضيات مفروغٌ منها؛ (فمعاني الدرجة الثانية التي هي موضوعات الرياضيات معقولات صرفة من غير شك ، فإنها بريئة عن المادة المحسوسة التي تحجب الماهية ) ، ( 8 ) .
إن كلمة ( بريئة عن المادة ) تحيلنا إلى قاموس الفلسفة العربية الدينية القديمة ، وإلى كون المادة ( حجاب ) عن الماهية ، بخلاف ما اقترب منه سابقاً بأن المادة مجموعةُ عملياتٍ وليست ماهيات متوحدة خارج المادة . كما أن الرياضيات هي ذروة تجريدية لحركية وتداخلات كم المادة وليست جوهراً عقلياً مفارقاً .
وهذا الانتقال المتصاعد ارتفاعاً فوق التجريبية والمادية الملموسة له جانب معقول هو الوصول إلى عملية تجاوز الحسية المباشرة المتجمدة عند هذا المستوى ، غير أن الباحث يريد كذلك الصعود نحو عالم الغيب وما وراء الطبيعة عبر ما يسميه ب ( أحكام العقل).
يقول :
(ومعاني الدرجة الثالثة المجردة عن كل مادة محسوسة أو معقولة ، كمعاني ما بعد الطبيعة والنفس والأخلاق والمنطق . ) ، ( 9 ) . (وعلى ذلك يخطئ الذين يفسرون الكون بتطور المادة ، واضعين في الأصل القوة والاختلاط زمناً غير متناهٍ ، ولو صح زعمهم لما أمكن أن تخرج الأشياء من القوة إلى الفعل ، ومن الاختلاط إلى النظام . وبفضل هذه البديهيات يتفق العقل مع الوجود ، ويصعد إلى فاعل أول . ) ، ( 10 ) .
إن الجانب الأول من رؤيته صحيح تماماً ، ( فإن الصورة الجزئية لا تفسر المعنى على أي وجه أخذناها ) ، ( ص 23 ) ، لكن ليس صحيحاً التجريد الذي ينقله يوسف كرم عن ابن سينا :
(إنه انتزاع الكليات المفردة عن الجزئيات على سبيل تجريد لمعانيها عن المادة وعن علائق المادة ولواحقها) ، ( 11 ) .
فالكليات غدت ليس تجريداً عن المادة ولواحقها بل هي الوصول لقانون عن حركة لها . والوصول إلى هذا القانون يتمظهرُ بأشياءِ المادة ولواحقها ، وإذا أخذنا المادة كذلك بشكلٍ موسع باعتبارها العمليات الموضوعية خارج الذهن .
فإذن يتراكبُ المجردُ والحسي في القانون العلمي الذي يزداد اقتراباً من حركة المادة دون أن يستطيع التطابق الكلي معها . فيغدو مقاربةً لا مطابقة ، أدواته الأولى ظاهراتها للوصول إلى سببياتها . والسببيات هنا هي علاقة مطردة بين أشيائها وحركاتها .
ينهي يوسف كرم هذا المقطع بقوله : ( التجريد إحالة المحسوس معقولاً ) . إن الإحالة إلى التجريد دون الترابط الوثيق بين الظاهرات وسببياتها الداخلية ، قد يقود إلى ما وراء الطبيعة ، خاصةً مع عدم فهم عمليات المادة وكون تغيراتها نتاج تضاداتها الداخلية .
وإذا عدنا لعبارته السابقة ، بقوله (يخطئ الذين يفسرون الكون بتطورِ المادة ، واضعين في الأصل القوة والاختلاط زمناً غير متناهٍ ، ولو صح زعمهم لما أمكن أن تخرج الأشياءُ من القوة إلى الفعل ، ومن الاختلاط إلى النظام الخ . . ) .
تشير العبارةُ هنا كذلك إلى مفرداتِ الفلسفة الدينية القديمة ، حيث المادة الناقصة العاجزة عن التطور ، وكون الأشياء في حالتين : حالة القوة الكامنة غير المعروفة المصدر ، وحالة الفعل الناجز غير المردود إلى حركية المادة الداخلية.
ويصيبُ يوسف كرم في أحكامٍ له عن الحسيين الاسميين الذين يوقفون تطور العمليات الادراكية عند المستوى الحسي، ويرفضون الارتفاع إلى التعميم :
(يلزم من ذلك أن العلوم تدور على أشياء لا على ألفاظ كما يدعون . وقد اعتقد باركلي أنه يؤيد المذهب الحسي في هذه الدعوى باستشهاده بالحساب والجبر كعلمين اسميين يدوران على علامات عرفية لا على أشياء ولكنه كان واهماً : فقد نسلم جدلاً باسمية هذين العلمين فتبقى لدينا موضوعات سائر العلوم وهي تمثل أشياء واقعية ، فهي تتطلب تفسيراً آخر غير الأسمية).
بل أن المؤلف يتراجع عن حكمه السابق بانفصال الرياضيات عن المادة ) فكل الحروف المستخدمة في الجبر، ولكل الأعداد المستخدمة في الحساب، دلالة خاصة تجعل المدلول في حكم الشيء الواقعي) ، (12) .
وعبر هذا المنطق المعقول يريد يوسف كرم أن يجمعَ مرةً أخرى كما جمع فلاسفةُ المسلمين والمسيحيين بين المنطقِ الأرسطي والفلسفة الأرسطية وبين العقلانية المعاصرة، مؤكدين إمكانية تعقل المادة، وتعقل ما هو راء الطبيعة كذلك، غير أنه يتجاوز ارسطو الذي أكد استقلالية العالم نحو جوانب غيبية أبعد، تجمعُ بين العلوم وتجاوز التخلف عبرها، وبين الحفاظ على المبنى الديني:
(وإنا لنلفت النظر إلى هذه النقطة، فقد اختلط الأمر على بعض الفلاسفة، وفي مقدمتهم الحسيون: فإذا قلنا إن لأفعال الكائن الحي علة نسميها النفس، وإن للعالم علة نسميها الله ، قالوا أنهم لا يرون النفس ولا يرون الله ، ونحن لا نطلب إليهم أن يروهما ، بل أن يؤمنوا بوجودهما كما يؤمنون بوجود النار ولنفس السبب الذي هو ضرورة العلة . .)، (13) .
إن من حق المؤلف أن يجعل ثوابت المنطقة كركائز إيمانية وحضارية لتطورها الحديث ، ولكن مسألة تشكيل وعي عقلاني وعلمي مسألة شائكة ومركبة، ونحن لا بد أن نبعدَ الركائزَ الدينيةَ والسياسية والإيديولوجية المختلفة عن مسألةِ البحث العلمي هذه .
إن مسألةَ الوصولِ إلى وعي بالقانون في الظواهر الطبيعية والنفسية وغير ذلك من ظاهرات إنسانية رهن التداول العلمي، وهو بحدِ ذاتهِ أمرٌ قائمٌ على دراسة دواخلها، أي دراسة كياناتها الداخلية والوصول إلى قوانينها بالتالي، والفلسفة الأرسطية لم تستطع الوصول إلى حركية المادة الداخلية، ومن هنا فإن يوسف كرم يسوقُ عبارته السابقة الذكر عن المحركِ من خارجِ المادة ، وهذا إسقاطٌ ديني مباشر، لأننا في مجال دراسة الطبيعة والحياة النفسية والاجتماعية، وهذه الأخيرة لا تحظى بالدخول في عالم الدراسة الموضوعية مثل الطبيعة المباشرة، كما حدث ذلك في الفلسفة العربية القديمة.
فالإيمان الديني مجاله مجالٌ آخر وليس عبر إدراجه من داخل البحث العلمي .
ومن هنا والمؤلف يناقشُ فلاسفةَ التحديثِ الأوربي ، وهو لا يضعهم في سياقهم التاريخي ، بل يأخذُ آراءهم بمعزلٍ عن البنية الاجتماعية التاريخية التي تشكلت فيها ، فيجادلُ ديكارت في ذلك الموقف الفرنسي العقلي الأول في زمن تفتح الحداثة ، فيقول :
(ومن الفلاسفة ، وعلى رأسهم ديكارت وسبينوزا ، من جافوا منطقَ أرسطو حتى تجاهلوا هذا الفهم للحكم ، وقرروا أن في النفس معاني ، وأن الحكم هو التصديق بالمعاني . قال ديكارت : إن العقلَ قوة انفعالية بحتة ، وبالعقل وحده لا اثبت ولا انفي ، بل اقتصر على تصور الأشياء التي أستطيع أن أثبتها أو أنفيها ، والإرادة هي القوة الفاعلية ، وهي التي تحكم الخ . .) ، ( 14 ) .
ويرد يوسف كرم على ديكارت قائلاً بأن ) ليس من شأن الإرادة الإثبات أو النفي ، إلا بتسويغ من العقل) .
وهذا الكلام كأمرٍ مجردٍ صحيح ، ولكن ما هو [ العقل ] في زمن ديكارت ؟ إن العقل التجريبي شبه غائب وهو يتشكل تحت عباءة العقل الديني المسيطر ، ولهذا فإن هذا العقلَ الديني له ثقافة كبرى مسيطرة على العلوم وهي كلها غير مرتكزة على بحث تجريبي ، ومن هنا فإن ديكارت لا يفصلُ العقلَ عن التجربة ، بل يفصل العقلَ الديني عنها ، من أجل أن يتكون مسارٌ ثقافي علمي متراكم ، ولكن يوسف كرم يحاكم ديكارت بشكلٍ تجريدي ، وليس من خلال زمنه التاريخي المعرفي ، كذلك فإنه لا يعتبرُ تلك الخلفيةَ الدينية ، أي ذلك العقل الديني معرقلاً لتطور المعرفة العلمية ولهذا يأخذ كلمة [ العقل] بشكلٍ مجرد وبمعنى وحيد .
ويوسف كرم يقول هو نفسه عن تصورات ديكارت المنهجية :
(ولكن الفكر أشتاتٌ من تصورات جزئية يراها ديكارت غامضة مختلطة ، وتصورات يراها جلية متميزة مرتبطة بعضها ببعض ارتباطاً ضرورياً . الطائفة الأولى تضم احساسات الحياة العادية ، والطائفة الثانية تضم الموضوعات العلمية . ولقد كان من الأهمية بمكان عظيم عند ديكارت ومعاصريه صون العلم وتبريره . . . )، ( 15 ) .
وبهذا قاد المنهجُ ديكارت (في تفسيره لموضوعات العلوم إلى أنها مؤلفة من ( طبائع بسيطة ) غريزية ، مدركة إدراكاً حدسياً بالعقل وحده فلا يخطئ فيها العقل ، وإنما هو يتخذ منها أصولاً لاستنباط العالم أجمع ) ، ( 16 ) .
إن حالةَ ووضع ديكارت في القرن السابع عشر تشبه حالة يوسف كرم والعرب والمسلمين عموماً في القرنين 20 و 21 ، من حيث نقص ارتباط الوعي الفلسفي بمعامل التجريب وبحقول الدراسة في الجامعات ، ولكن ديكارت وهو في حالة التخلف المعرفية – التقنية تلك ، كان يزيحُ الطبقةَ الكثيفة من الوعي العام ، مستنداً على عقلٍ حدسي متوجهاً إلى الوقائع المحددةِ ، تاركاً للوعي الديني مجاله الميتافيزيقي والاجتماعي خارج العلوم .
ومن هنا كان التوجسُ العلمي لدى ديكارت ومعاصريه من الأوهام والظنون ( خارج العارف ) ، ويواصلُ يوسف كرم القولَ عن ذلك:
(ومتى كانت هذه طبيعة المعرفة فهي لا تقع إلا على موضوع باطن ، فلا يسع العارف أن يعرف غير ذاته ، لا يسعه أن يهرب إلى خارج لكي يعرف موضوعاً خارجياً .. ) ، ( 17 ) .
وبطبيعة الحال فهو كما يقول يوسف كرم فإن [ استبعاد الشيء الخارجي ] هو أمرٌ غير ممكن ، فالمثالية الفلسفية هنا لدى التجريبيين والعقليين ، تقوم بحصر المعرفة بين العقل وعملياته الداخلية ، لكونها تتصور الوعي هو الموجود وما هو خارجه غير موجود ، ولهذا فهو يتساءل ؛ (وكيف يمكن أن نحصل على عين الاحساسات إذا لم يكن هناك أشياء ؟)، ص 77 .
لكن التجريبيين والعقليين في ضوء الخروج من ثقافة الكهنوت كان لا بد لهم من التركيز على المعرفة العلمية المحضة ولهذا ( لا يلجأون إلى الله لتعليل اعتقادنا بوجود الأشياء)، ص 77 ، لكن يوسف كرم لا يتابعُ عملياتِ النفي المستمرة لفلسفة المثالية الذاتية ، أي التي تحصر المعرفة بوعي الذات ، حيث قامت الفلسفةُ الهيجلية بتجاوز جدلي بإدغام العقل والأشياء في وحدة جدلية معرفية تنمو بشكل متصاعد ولكن عبر مثالية موضوعية كبرى .
ومن هنا كانت اكتشافات فلاسفة عصر الثورة الصناعية والتنوير المعرفية تقوم على هدم ثقافة العصور السابقة غير الجدلية وغير التاريخية ، كتصور جان لوك بكون عقل الطفل صفحة بيضاء ، على اعتبار أن المعرفة والثقافة عامة تتشكل منذ البدء .
وبعد ذلك حين تتجذر الثورةُ الصناعية في البلدان الأوربية الرئيسية يتمُ تجاوزَ منهجيةِ ديكارت وهيوم ولوك إلى مستوياتٍ أرقى ، ولكن يوسف كرم لا يأخذُ المبنى الفلسفي كنصٍ داخلِ بنيةٍ اجتماعية تاريخية ، ويرى أن المثالية الذاتية تم تجاوزها ، في مثاليات موضوعية كفلسفة هيجل ، أو في فلسفة المادية الجدلية .
ويواصلُ يوسف كرم نقدَهُ للفلسفات المثالية القاصرة عن رؤيةِ الواقع والأشياء الخارجية ، وهو نقدٌ صائب ، كنقدهِ لفلسفةِ ( كانت (الذي يقولُ بأن الامتدادَ ) صورة ذهنية يضيفها الذهن إلى المحسوس ، بدليل أن التجربة جزئية حادثة)، ص 78 . إن (كانت) هنا في تأكيدهِ لقصور الامتداد ، يجعل الذهنَ يتحكمُ في العالم الخارجي ، وينفي كرم ذلك قائلاً : (بل من السائغ جداً أن نقول على مذهب أرسطو إننا نكتسب بالحواس صور الأمكنة الجزئية الحادثة ، ثم نجرد منها معنى المكان البحت بأقطاره الثلاثة ، والمعنى المجرد كلي ضروري كما نعلم ، والقضايا التي تضيف إليه محمولات ذاتية هي كذلك كلية ضرورية . )، ( ص 79 ) .
إن المكان كلي وجزئي ، متصل ومنقطع ، أرضي وكوني ، ومتداخل بالزمان ، ولم يعد منطق أرسطو رغم احتوائه على خلية موضوعية قادراً على فهم المكان بصورة حديثة ، ولكن يوسف كرم وهو يناقش [كانت ] ، كانت ثورات علمية قد جرت لم يضف ثمارها إلى منهجه .
يستند الباحث على الإحساس كباب أولي للمعرفة ، ثم على العقل عبر اعتماد الأدوات التقنية المساعدة ، (ولولا العقل والبحث العلمي لاعتقدنا أن الشمس لا يزيد قطرها على قدم واحدة ) ، (ص 84 ) .
❜❜ أنواع المثاليات
ويفند الباحثُ الفلسفات المثالية المتطرفة كفلسفة أفلاطون والمثالية الذاتية الحديثة ، ويسميها [ النظريات التصورية ] ، ويلاحظ بأن المثاليين ( مع إيمانهم بباطنية المعرفة ، مؤمنون بالعلم الطبيعي الدائر على الأجسام وتغيراتها ) ، كرؤية الفلاسفة المثاليين المسلمين عادة فالمعقولات ليست مرئية في الله ، ( ولكنها نازلة من عقل مجرد في ذاته يسمونه العقل الفعال أو عقل فلك القمر ، يصدر إلى العقل الإنساني ضوءاً يجردُ به الماهياتِ الحالةَ في المادة ، أو يصدر صورَ هذه الماهيات ، وصور الماهيات المجردة في أنفسها ، فنعقلها . ) ، ( 18) .
وكان ديكارت أول من كون المثالية الحديثة بشكل مغاير للمثاليات الدينية القديمة ، ورغم أنه أعطى الدين سيطرة على الوجود إلا أنه في مجال المعرفة اعتبر ( وجود النفس أنها مشتملة منذ وجودها على معانٍ غريزية أو فطرية بسيطة أولية ، ومن ثمة جلية متميزة ، تؤلف منها أشياء كثيرة ، ومن الأشياء عوالم كثيرة ، فلا تحتاج إلى التجربة إلا لتعلم أي عالم هو موجود فعلاً . ) ، ( 19 ) .
ويواصل يوسف كرم تحليل المثاليات ورؤيتها للمعرفة فيضيف :
( وفطن { كانت } إلى وهن هذا الأساس ، وأخذ على عاتقه أن يشيد نظرية العلم حسب مقتضيات المذهب التصوري ، ولكن لا التصورية المطلقة الجاحدة للوجود الخارجي ، وإلا فاتتنا مادة العلم ، بل التصورية المعتدلة التي تعترف بحقيقة للوجود ، بدليل أن الإحساس انفعال ، وأن المنفعل خاضع لتأثير شيءٍ فعال ، وإن كنا لا ندرك من الأشياء سوى انفعالنا بها ) ، ( 20 ) .
ويواصل يوسف كرم تقاليدَ المدرسة الأرسطية و يفند المدارسَ العربيةَ الإسلامية المثالية السابقة والمدارس المثالية الأوربية الحديثة ما قبل هيجل ، متوصلاً إلى نتيجة هامة قائلاً بأن المدرسة الأرسطية :
( وهي تعارض تصور النفس الإنسانية كأنها ملك كريم هبط من السماء حاملاً المعاني أو على استعداد لقبولها من روح علوي ، وتقرر أن الحس متصل بالأشياء اتصالاً مباشراً ، وإن العقل لا يكتسب معرفةً ما إلا إذا تلقى مادتها من الحس ) ، ( 21 ) .
وهكذا فإن يوسف كرم يعطي معنيين مختلفين للعقل المنفعل والعقل الفعال ، بجعلهما داخل ( الوعي ) ، وهو يستخدم تعبير النفس القديم ، فيغدوان مستويين من التحليل فيحدث في الوعي (الانتقال من المحسوس إلى المعقول بتجريد عقلي ) ، ص 92 .
والخلاصة الكبيرة هنا : ( إن اعتقدنا بضرورة القوانين سلمنا بالمطابقة بين العقل والوجود ، وإن لم نعتقد بتلك الضرورة لم يبق لدينا ضمان للعلم . ) ، ص 95 .
هذه الانتقادات هي جوانب جيدة استطاع من خلالها الباحثُ عبر منهجية أرسطو أن يفند محدودية المدارس المثالية الذاتية الحديثة ، فاتحاً الطريق لعلاقة جدلية بين العقل ومعرفة الأشياء لكنها الأشياء الطبيعية وليست الظاهرات الاجتماعية التي تتسربُ من بين أصابع منهجه .
فالوجودُ الذي طالب العقلَ بالمطابقةِ معه ، يظلُ هو القسم الطبيعي ، أما القسم الاجتماعي فإن قضيته أكثر تعقيداً وتركيباً . فهو يريدُ (إثبات النفس والله ومعاني الحرية والخير والفضيلة والجزاء والواجب الخ ) ص 99 ، ولكن كيف؟
إذا كانت المدارس المثالية الذاتية محدودة النظر في مجال فهم التاريخ فإن المدارس المثالية الموضوعية التي قرأت التطور الاجتماعي التاريخي كانت أغنى بمادتها العلمية ، خاصة لدى أوجست كونت وهربرت سبنسر وهيجل ، لكن يوسف كرم لا يستفيد من هذه المادة الاجتماعية المقدمة لقراءة التاريخ ولوضعِ تلك المجردات الميتافيزيقية في دائرة البحث .
فحول نظرية المراحل التاريخية الثلاث لأوجست كونت يقول :
( فدعامة المذهب نظرية الأدوار الثلاثة . لكن أحداً لا يستطيع أن يقيم الدليل على أنها تاريخية . فإن قيل إن الدور اللاهوتي يوافق ما قبل التاريخ وأوائل العهد التاريخية ، أجبنا : إن الإنسان قد عاش في تلك العصور الطويلة وهو يحارب قوى الطبيعة ويستغل ذخائرها ويخترع الصناعات للأستقواء في تلك الحرب وذلك الاستغلال ، وإن كل هذا لم يكن ليتسنى بغير الملاحظة الدقيقة والوقوف على طبائع الأشياء . وإن قيل إن الدور الميتافيزيقي يوافق العصر القديم ، سألنا عن الأرصاد الفلكية ، والصناعات المختلفة في المدنيات الشرقية الخ . . . ) ، ( 22 ) .
يقيمُ يوسف كرم تفنيدَهُ لنظريةِ المراحل التاريخية : السحر ، الدين ، العلم ، على أساس أنها شاملة كاملة ، فعند حدوثِ مرحلةٍ فلا بد أن تقضي على المرحلة السابقة كلياً ، وهو تصورٌ مثالي ميكانيكي ، فهذه المراحلُ المعرفية التاريخية في الواقع ، لا تحدث بهذه الصورة لكن بشكل تاريخي كبير ومتفاوت بين المناطق والمستويات داخل البلدان نفسها ، وعبر قرون عدة ، والجوانبُ المعرفيةُ الجديدة مرتبطةٌ بأساليبِ الإنتاج ، وكما أن أساليبَ الإنتاج تتداخلُ فكذلك المستويات المعرفية الكبرى ، التي تتداخل كذلك مع أشكال الوعي الإيديولوجي ، فزمن السحر يأخذ مدى واسعاً في عصر الانتقال من المشاعيات البدائية حتى العبودية والإقطاع ، لكن أشكال المعرفة السحرية لا تزول ، بل تواصلُ الحياةَ ، بسبب أن حياة الجمهور العامل خلال هذه الحقب لم تتغير بصورةٍ مهمة ، فيظل معتمداً على السحر وعلى الدين بشكل أكبر .
وتتشكل جزرٌ علمية في هذا المحيط الأمي ، ولكن هذه الجزرَ لا تسود ، بل تظل عند نخبٍ معينة . لكن السحرَ كقوةٍ مسيطرة كما كان الأمر في العهود السابقة يتضاءل وينحصر ، ويرتفع الوعي الديني لأسباب فكرية واجتماعية وتاريخية كبرى وهكذا . .
هنا يقومُ يوسف كرم بتفنيدِ مقولات أوغست كونت بطريقةٍ جداليةٍ وليس عبر العودة للتحليل ، كما كان يفعل مع النظرات التجريبية التي يتفوق عليها من جوانب معينة أساسية ، ويقول :
( وإن من مسائل الفلسفة مالا يحتمل المعالجة بالتجربة مطلقاً ، كمسائل النفس والله والواجب والحق والعدل ، لأن موضوعها غير محسوس ظاهراً وباطناً فلا يتناوله المنهج التجريبي . .) ، ( 23 ).
إن العلومَ الاجتماعية لا تتعامل مع الغيبيات بل مع الإنتاج الفكري والاجتماعي ، فمسائل الإيمان خارجة عن هذا النطاق ، بل يجري البحث في كيفية تصور الناس والمفكرين للذات الإلهية وأشكال الفكر الاجتماعي لمسائل العدل والضمير والواجب الخ . . وهذه تــُبحث بأشكالٍ ملموسة كما قلنا حول آراء التجريبي المنطقي زكي نجيب محمود .
وهو يعرضُ رأي هربرت سبنسر كذلك ، رافضاً لا أدريته حول مسائل الإيمان والغيب ، يقول :
( وعلى ذلك فلا محل لما بعد الطبيعة ، والبحث فيه ينتهي إلى متناقضات كثيرة ، فالقوة القائمة خارج الفكر والتي ندل عليها بتلك المعاني لا تشبه ما نعرفه داخل الفكر ، وليس يقابل ما بعد الطبيعة في عقلنا سوى استعداد طبيعي لتوحيد المعرفة ، وهذا الاستعداد يجد رضاه في الفلسفة الواقعية التي هي عبارة عن توحيد العلوم توحيداً تاماً بواسطة قانون علمي وهو قانون التطور من المتجانس إلى المتنوع ) ، ( 24 ) .
إن هذا القانون العلمي للتطور ينطبق على أشكال الوعي الدينية والفكرية الأخرى ، وبالتالي فإن الدين نفسه يتم تطور وانسلاخه من الأشكال البدائية نحو الأشكال التجريدية ، حسب مستوى تطور المعرفة والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية ، ولكن يوسف كرم لا يستفيد من تطورية هربرت سبنسر لتحليل الدين سواء كان مسيحية أم إسلاماً ، ولا يدمج هذه الجوانب التطورية لهربرت سبنسر في منظومته الفلسفية ، وينتقل من فهم الأشياء إلى فهم العلاقات والتطور الفكري والاجتماعي .
بل يقوم بالابتعاد عن نقدها ويطمئن إليها :
( بيد إن هذه اللاأدرية ليست مرادفة للإلحاد ، فإنها تعترف بالمطلق ، وتعتبره أسمى من الإنسان ، وهي إذن تدع الباب مفتوحاً أمام الدين ، وفي الإنسان أصل عميق للعاطفة الدينية . . ) ، ( 25 ) .
يدل رفض المدارس التطورية الاجتماعية للصراع مع الدين على علمانية فكرية غربية ، عبر التركيز على جوانب الوعي التقني والتطوري وإتاحة الفرصة لها للنمو في وعي الناس جنباً لجنب مع المفاهيم الدينية العريقة ، وهو أمرٌ تكرس في الغرب وقاد إلى تحولات عميقة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية ، وفي ذات الوقت فإن لهذه المدارس تحليلاتها للظاهرات الدينية كما لدى أوغست كونت ، ومع هذا فإن يوسف كرم لم يوظف هذه المدارس التطورية الاجتماعية ويدغمها بفلسفته العقلية لكي تكون لها جذور اجتماعية عربية وإسلامية ومسيحية ، بل قام بإبعادها عن دائرة البحث الفلسفي – التاريخي ، فغدت فلسفته قائمة على إرث ارسطي وعربي فلسفي قديم ، يؤكد وجود قوانين لتطور الطبيعة ، ولكن لا يبحث قوانين تطور المجتمع والتاريخ والفكر ، بل يجزئ هذه الجوانب الأخيرة في قيم مطلقة عن [ الله ] و [ الخير ] و [الخلود ] ويضعها في دوائر خارج مسارها الرؤيوي والتحليلي .
إن المقدمات الجيدة التي بدأ بها يوسف كرم فلسفته راح يتخلى عنها مع اقترابه من فلسفة الاجتماع والتاريخ ، وهي نقطةُ ضعفٍ أساسية رأيناها في تاريخ الفلسفة العربية القديمة ، فحول المعرفة البشرية وأصولها راح يرجعها إلى خلفية إلهية ، فيقول :
( فلا بد أن نرجعها إلى عقل أعلى هو قانونها وخالقها كما أن العقل الإنساني قانون مصنوعاته وموجدها . ومن هذه الوجهة العليا نقول إن الحق موجود في العقل فقط : موجود أولاً في العقل الإلهي مصدر الحق ، وثانياً في العقل الإنساني صورته ، وبينهما الأشياء صورة علم الله ومصدر علم الإنسان ، فتلحقها الحقية من الناحيتين : من ناحية العلم الإلهي ، وهذه نسبة ذاتية ، ومن ناحية العلم الإنساني المكون عنها بالتجربة والاستدلال ، وهذه نسبة عرضية إن وجدت لم تزد عليها شيئاً ، وإن عدمت لم تنقص منها شيئاً ) ، ( 25 ) .
إن مطابقة يوسف كرم بين العقل البشري والعقل الإلهي حيث إن الأخير هو المصدر للأول ، يدخل علم المعرفة في الغيبيات مرة أخرى بعد العصر الوسيط ، وهو لهذا وجه انتقاداته الكثيرة المطولة لعلوم الغرب التجريبية و ل( التصورية ) التي هي المثالية الموضوعية المعترفة بالإله ولكن خارج نطاق علم المعرفة ، فيعيد العلوم الطبيعية والإنسانية إلى ما قبل ديكارت ، ويؤسس منهجاً لاهوتياً في الفلسفة .
إن الأشياء تصبحُ لديه هي علم الله مجسداً ، وعلم الإنسان هو الباحث في هذه الأشياء ، والإنسان عندما يبحث في الأشياء يصلُ إلى الله . ولكن لماذا هذه اللفة الطويلة ؟
إن العلوم الطبيعية والإنسانية لا تستهدف الوصل إلى صورة للإله ، بل إلى قوانين المادة والمجتمع للسيطرة عليها وخلق تطبيقات تقنية وسياسية واجتماعية منها ، أما مجال عبادة الإله فهو ميدان آخر .
وبدلاً من استثمار كل تلك العقلانية المتراكمة من أرسطو مروراً بابن سينا وابن رشد فإنه يدخلُ البحثَ الفلسفي الاجتماعي ميدانَ المثاليات المفارقة في بحثه للمسائل الأخلاقية والفكرية العامة.
ويعود هذا كذلك لاستمرار المنهج الأرسطي اللاجدلي ، حيث تغيبُ وحدةُ الأضداد ، وهو لهذا يعيدُ أسباب التغيرات والحركة في الأشياء إلى الخارج ، وليس من داخل بناها ولهذا فهو يقول ( فمبدأ عدم التناقض يعطينا الصيغة الكلية لليقين ] ص 147 . ( أن ما لا قوة له فهو لا يفعل ، اللهم إلا بتحريك خارجي ) ، 154 .
ونستعيدُ العبارةَ السابقة المستشهدَ بها لنواصل قراءةَ المنهجية الغائرة :
( فما من متغير إلا وله مُغير ، أو ما متحرك إلا وله محرك . وعلى ذلك يخطئ الذين يفسرون الكون بتطور المادة ، واضعين في الأصل القوة والاختلاط زمناً غير متناهٍ ، ولو صح زعمهم لما أمكن أن تخرج الأشياء من القوة إلى الفعل ، ومن الاختلاط إلى النظام . وبفضل هذه البديهيات يتفق العقل مع الوجود ، ويصعد إلى فاعل أول . ) ، ص 158 .
إن عدمَ وجودِ التناقض كمحركٍ للأشياء يفتحُ البابَ لمحرك خارجي ، فتغدو الأشياء متجوهرة في ذاتها ، أي تغدو كائنات جوهرية لا تتحرك فعلياً عبر احتدام تناقضاتها الداخلية ، فتظهرُ بشكلِ وجودٍ بالقوة ووجودٍ بالفعل ، فالوجودُ بالقوة لا يعرف تناقضه الُمحرك ، والوجود بالفعل هو صعود التحول الداخلي غير المعروف الأسباب .
ويتحول الموجود إلى موجود بالجوهر وإلى الأعراض ، وهي سمات منهجية تعود للفلسفة الدينية القديمة وقد قام حتى فلاسفة عرب بتجاوز جوانب منها كابن رشد ، ( 26 ) .
ــــــــــــــــــــــــ
انظر عبــدالله خلـــــيفة: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية ، الجزء الرابع ، تطور الفكر العربي الحديث , وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة , 2015 .
ـــــــــــــــــ
المصادر :
( 1 ) : ( راجع الكلمة التي كتبها عنه عاطف العراقي في كتابه (العقل والتنوير ) مصدر سابق . ) .
( 2 ) ، 0 3 ) : ( العقل والوجود ، يوسف كرم ، ص 18 ، دار المعارف بمصر ، 1964 ) .
( 4 ) : ( المصدر السابق ، ص 19 ) .
( 5 ) ، ( 6 ) : ( المصدر السابق ، ص 20 ) .
( 7 ) : ( المصدر السابق ، ص 21 ) .
( 8 ) ، ( 9 ) : ( المصدر السابق ، ص 22 ) .
( 10 ) : ( المصدر السابق ، ص 158 ) .
( 11 ) : ( المصدر السابق ، ص 24 ) .
( 12 ) : ( المصدر السابق ، ص 25 ) .
( 13 ) : ( المصدر السابق ، ص 30 – 31 ) .
( 14) : ( المصدر السابق ، ص 72 ).
( 15 ) : ( المصدر السابق ، ص 72 ) .
( 16 ) ، ( 17 ) : ( المصدر السابق ، 73 ) .
( 18 ) ، ( 19 ) ، ( 20 ) : ( المصدر السابق ، ص 87) .
( 21 ) : ( المصدر السابق ، ص 88 – 89 ) .
( 22 ) : ( المصدر السابق ، ص 103 ) .
( 23 ) : ( المصدر السابق ، ص 104 ) .
( 24 ) ، ( 25 ) : ( المصدر السابق ، ص 105 ) .
( 26 ) : ( راجع في هذه المنهجية خاتمة كتاب الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية ، الجزء الثالث ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ) .
الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية+الجزء الرابع
    
    بدأ في صياغةِ رؤيتهِ الفلسفية الخاصة عبر كتابيه (العقل والوجود) و (الطبيعة وما بعد الطبيعة) .
يحاولُ يوسف كرم أن يقيمَ توازناً بين العقل والدين ، بين الوعي الإنساني وما بعد الطبيعة ، عبر مركزيةِ موروثهِ الديني المشرقي وبجذورِ الفلسفةِ الأرسطية والإسلامية في العصر السابق ، وهي الموروثاتُ التي تعرضتْ في الغرب لعواصفِ المدارس الفلسفية الحديثة .
وهو يقيمُ تأريخَهُ الفلسفي عبر عرضِ مقولاتِ كل فيلسوف ومفكر ، بدون العلاقة الجدلية بين النص الفلسفي الُمنتّج والوعي الفكري العام والوسط الاجتماعي .
❜❜ ضد الحسية والتصورية
يفتتحُ يوسف كرم كتابَهُ ( العقل والوجود ) بمناقشةِ من يسميهم ( الحسيون ) ، يقول :
(ينكر الحسيون وجود معانٍ في أذهاننا ، ويبنون هذا الإنكار على اعتبارين : أحدهما أنه لما كان كل موجود حسياً كانت معارفنا إما احساسات أو راجعة إلى احساسات . والاعتبار الآخر أن المعنى الكلي تصورٌ متناقض يلغي عجزه صدره إذ الكلية تمنع المعنى من التعيين ، بينما كل موجود وكل تصور فهو معين حتماً .) ، ( 2 ).
إن الحسيين كما يصفهم يوسف كرم ، أو التجريبيين كما يسمون أنفسهم ، يشددون على قضيةِ الوصول للعام من خلال استقراء وبحث الخواص ، فهم لا ينكرون وجود معان بل ينكرون أن يوجد في الذهن أو في الوعي كائنات وأفكار عامة غير مفحوصة معملياً وبحثياً ، ولكن يوسف كرم هنا ينقدهم على هذا التشدد لكنه يعرض رؤيتهم للكل :
(إنها صورةٌ تــُـكتسب بالانتباه إلى الخصائص المشتركة بين الجزئيات وفصلها عن الخصائص الذاتية لكل جزئي ، وهذا هو التجريد عندهم )، ( 3 ) .
لكنه لا يقوم هنا بعرضِ كيفية وسببية هذا التدقيق والاشتراط من قبل التجريبيين للوصول إلى الكلي ، حيث اعتمدت النهضة الأوربية لعزل التصورات غير العلمية عن الأشياء وأفكارنا عنها ، إلى عدم الوصول إلى تعميمٍ بدون تجربة .
ولهذا فهو يحاكم هذه التجريبية بمنطق فلسفي قديم ، يقول :
(ونبدأ بالكلام على الصورة المركبة فنقول : إن الحصول على صورة من هذا القبيل يقتضي أن تكون الصور الجزئية قليلة العدد شديدة التشابه ، فإذا حُذفت إحداها أو أضيفت أخرى تعدلت الصورة الناتجة عنها )، ( 4 ) .
إنه يتوجه إلى عمليةِ تحليلٍ صورية للمعنى الكلي العام ، فــ( كيف نحصل على صورة متوسطة للحيوان باستخدام صور الأنواع الحيوانية .. ؟ ) ، وهو لهذا يستشهد بابن سينا الذي يقول :
(ليس يمكن في الخيال البتة أن نتخيل صورة هي بحال يمكن أن تشترك فيه جميع أشخاص ذلك النوع [ أي الممثل بالصورة ] فإن الإنسان المتخيل يكون كواحد من الناس ) ، ( 5 ) .
إن الوصولَ إلى العام هو رهنُ استقراءِ الخواص ، وهذا في التعميمات العامة النظرية ، أما الوصول إلى استنتاجات كلية ، أي الوصول للقانون في الظاهرة فيحتاج إلى فحص كل جزئي وخاص بشكل تجريبي ، وتحديداً فيما يتعلق بالظاهرة المحددة .
لهذا فإن المنطق النظري التعميمي لابن سينا في عبارته المستشهد بها هنا فإنه لا يصلح في زمن الاكتشاف التجريبي الحديث . فالعام رغم أنه غير موجود إلا في الوعي الفاحص للجوانب المشتركة في الجزئيات ، إلا أن الوصول إليه في هذه الأشياء الخاصة المتعددة ، يأتي عبر الاكتشاف التجريبي الدقيق لخواصها . وبهذا يحدث التعميم .
إن هذه اللغة الفلسفية القديمة للباحث لا تقف أمام أهمية هذه التجريبية :
(ويلاحظ أرسطو في مطلع كتاب السماع الطبيعي تأييداً لهذه أن الأطفال يميزون بين الإنسان واللاإنسان قبل أن يميزوا بين إنسان وآخر ) ، ( 6 ) إن هذا صحيح فيما يتعلق بهذه التعميمات الكبيرة أما في قراءة جزئيات المادة وعلاقاتها الداخلية فالأمر لا يحتاج إلى فحص العادات الاجتماعية والاستعانة بالمنطق الصوري بل عبر البحث التجريبي الذي يظل مفتوحاً دون نهائية معرفية أخيرة.
ويواصل يوسف كرم تحليل هذه القضية قائلاً :
(لا نقصد أن العقل ينفذ فوراً إلى صميم الأشياء ويبلغ دفعةً واحدة إلى خصائصها الجوهرية . إننا لا نزعم للعقل الإنساني مثل هذه المقدرة ، بل لا نخشى أن نعلن أنه لا يصل أبداً إلى ماهيات الماديات ولا يكشف عن فصولها النوعية ، فلا يحدها الحد الذي يشترط المنطق في العلم الكامل ، اللهم فيما سوى الماهية الإنسانية التي نعرف أن النطق فصلها النوعي )، ( 7 ) .
إن كلمات مثل : ( جوهر ) و ( ماهيات ) و ( الحد ) و (الفصل النوعي النطقي للإنسانية ) والتي تشيرُ إلى اللغةِ الفلسفية القديمة ، يتجاوزها الباحثُ حين يتحدث عن ( تعريف العناصر الكيمائية بوزنها وألفتها وآثارها ) ، ( وتــُعرف النباتات والحيوانات بالهيئة الخارجية والتكوين الداخلي ونوع الغذاء ) ، وهي ألفاظٌ تقربنا من العمليات الداخلية المركبة والمتحولة باستمرار في الطبيعة لكن ليس في الظاهرات الاجتماعية التي لا تدخلها العلوم حسب مادة يوسف كرم الفلسفية .
إنه بعد أن توصل إلى خلاصة نظرية عامة بإمكانية الوصول إلى التعميم [العلمي] بشكل نظري مجردٍ عقلي في الطبيعة ، فإن الرياضيات مفروغٌ منها؛ (فمعاني الدرجة الثانية التي هي موضوعات الرياضيات معقولات صرفة من غير شك ، فإنها بريئة عن المادة المحسوسة التي تحجب الماهية ) ، ( 8 ) .
إن كلمة ( بريئة عن المادة ) تحيلنا إلى قاموس الفلسفة العربية الدينية القديمة ، وإلى كون المادة ( حجاب ) عن الماهية ، بخلاف ما اقترب منه سابقاً بأن المادة مجموعةُ عملياتٍ وليست ماهيات متوحدة خارج المادة . كما أن الرياضيات هي ذروة تجريدية لحركية وتداخلات كم المادة وليست جوهراً عقلياً مفارقاً .
وهذا الانتقال المتصاعد ارتفاعاً فوق التجريبية والمادية الملموسة له جانب معقول هو الوصول إلى عملية تجاوز الحسية المباشرة المتجمدة عند هذا المستوى ، غير أن الباحث يريد كذلك الصعود نحو عالم الغيب وما وراء الطبيعة عبر ما يسميه ب ( أحكام العقل).
يقول :
(ومعاني الدرجة الثالثة المجردة عن كل مادة محسوسة أو معقولة ، كمعاني ما بعد الطبيعة والنفس والأخلاق والمنطق . ) ، ( 9 ) . (وعلى ذلك يخطئ الذين يفسرون الكون بتطور المادة ، واضعين في الأصل القوة والاختلاط زمناً غير متناهٍ ، ولو صح زعمهم لما أمكن أن تخرج الأشياء من القوة إلى الفعل ، ومن الاختلاط إلى النظام . وبفضل هذه البديهيات يتفق العقل مع الوجود ، ويصعد إلى فاعل أول . ) ، ( 10 ) .
إن الجانب الأول من رؤيته صحيح تماماً ، ( فإن الصورة الجزئية لا تفسر المعنى على أي وجه أخذناها ) ، ( ص 23 ) ، لكن ليس صحيحاً التجريد الذي ينقله يوسف كرم عن ابن سينا :
(إنه انتزاع الكليات المفردة عن الجزئيات على سبيل تجريد لمعانيها عن المادة وعن علائق المادة ولواحقها) ، ( 11 ) .
فالكليات غدت ليس تجريداً عن المادة ولواحقها بل هي الوصول لقانون عن حركة لها . والوصول إلى هذا القانون يتمظهرُ بأشياءِ المادة ولواحقها ، وإذا أخذنا المادة كذلك بشكلٍ موسع باعتبارها العمليات الموضوعية خارج الذهن .
فإذن يتراكبُ المجردُ والحسي في القانون العلمي الذي يزداد اقتراباً من حركة المادة دون أن يستطيع التطابق الكلي معها . فيغدو مقاربةً لا مطابقة ، أدواته الأولى ظاهراتها للوصول إلى سببياتها . والسببيات هنا هي علاقة مطردة بين أشيائها وحركاتها .
ينهي يوسف كرم هذا المقطع بقوله : ( التجريد إحالة المحسوس معقولاً ) . إن الإحالة إلى التجريد دون الترابط الوثيق بين الظاهرات وسببياتها الداخلية ، قد يقود إلى ما وراء الطبيعة ، خاصةً مع عدم فهم عمليات المادة وكون تغيراتها نتاج تضاداتها الداخلية .
وإذا عدنا لعبارته السابقة ، بقوله (يخطئ الذين يفسرون الكون بتطورِ المادة ، واضعين في الأصل القوة والاختلاط زمناً غير متناهٍ ، ولو صح زعمهم لما أمكن أن تخرج الأشياءُ من القوة إلى الفعل ، ومن الاختلاط إلى النظام الخ . . ) .
تشير العبارةُ هنا كذلك إلى مفرداتِ الفلسفة الدينية القديمة ، حيث المادة الناقصة العاجزة عن التطور ، وكون الأشياء في حالتين : حالة القوة الكامنة غير المعروفة المصدر ، وحالة الفعل الناجز غير المردود إلى حركية المادة الداخلية.
ويصيبُ يوسف كرم في أحكامٍ له عن الحسيين الاسميين الذين يوقفون تطور العمليات الادراكية عند المستوى الحسي، ويرفضون الارتفاع إلى التعميم :
(يلزم من ذلك أن العلوم تدور على أشياء لا على ألفاظ كما يدعون . وقد اعتقد باركلي أنه يؤيد المذهب الحسي في هذه الدعوى باستشهاده بالحساب والجبر كعلمين اسميين يدوران على علامات عرفية لا على أشياء ولكنه كان واهماً : فقد نسلم جدلاً باسمية هذين العلمين فتبقى لدينا موضوعات سائر العلوم وهي تمثل أشياء واقعية ، فهي تتطلب تفسيراً آخر غير الأسمية).
بل أن المؤلف يتراجع عن حكمه السابق بانفصال الرياضيات عن المادة ) فكل الحروف المستخدمة في الجبر، ولكل الأعداد المستخدمة في الحساب، دلالة خاصة تجعل المدلول في حكم الشيء الواقعي) ، (12) .
وعبر هذا المنطق المعقول يريد يوسف كرم أن يجمعَ مرةً أخرى كما جمع فلاسفةُ المسلمين والمسيحيين بين المنطقِ الأرسطي والفلسفة الأرسطية وبين العقلانية المعاصرة، مؤكدين إمكانية تعقل المادة، وتعقل ما هو راء الطبيعة كذلك، غير أنه يتجاوز ارسطو الذي أكد استقلالية العالم نحو جوانب غيبية أبعد، تجمعُ بين العلوم وتجاوز التخلف عبرها، وبين الحفاظ على المبنى الديني:
(وإنا لنلفت النظر إلى هذه النقطة، فقد اختلط الأمر على بعض الفلاسفة، وفي مقدمتهم الحسيون: فإذا قلنا إن لأفعال الكائن الحي علة نسميها النفس، وإن للعالم علة نسميها الله ، قالوا أنهم لا يرون النفس ولا يرون الله ، ونحن لا نطلب إليهم أن يروهما ، بل أن يؤمنوا بوجودهما كما يؤمنون بوجود النار ولنفس السبب الذي هو ضرورة العلة . .)، (13) .
إن من حق المؤلف أن يجعل ثوابت المنطقة كركائز إيمانية وحضارية لتطورها الحديث ، ولكن مسألة تشكيل وعي عقلاني وعلمي مسألة شائكة ومركبة، ونحن لا بد أن نبعدَ الركائزَ الدينيةَ والسياسية والإيديولوجية المختلفة عن مسألةِ البحث العلمي هذه .
إن مسألةَ الوصولِ إلى وعي بالقانون في الظواهر الطبيعية والنفسية وغير ذلك من ظاهرات إنسانية رهن التداول العلمي، وهو بحدِ ذاتهِ أمرٌ قائمٌ على دراسة دواخلها، أي دراسة كياناتها الداخلية والوصول إلى قوانينها بالتالي، والفلسفة الأرسطية لم تستطع الوصول إلى حركية المادة الداخلية، ومن هنا فإن يوسف كرم يسوقُ عبارته السابقة الذكر عن المحركِ من خارجِ المادة ، وهذا إسقاطٌ ديني مباشر، لأننا في مجال دراسة الطبيعة والحياة النفسية والاجتماعية، وهذه الأخيرة لا تحظى بالدخول في عالم الدراسة الموضوعية مثل الطبيعة المباشرة، كما حدث ذلك في الفلسفة العربية القديمة.
فالإيمان الديني مجاله مجالٌ آخر وليس عبر إدراجه من داخل البحث العلمي .
ومن هنا والمؤلف يناقشُ فلاسفةَ التحديثِ الأوربي ، وهو لا يضعهم في سياقهم التاريخي ، بل يأخذُ آراءهم بمعزلٍ عن البنية الاجتماعية التاريخية التي تشكلت فيها ، فيجادلُ ديكارت في ذلك الموقف الفرنسي العقلي الأول في زمن تفتح الحداثة ، فيقول :
(ومن الفلاسفة ، وعلى رأسهم ديكارت وسبينوزا ، من جافوا منطقَ أرسطو حتى تجاهلوا هذا الفهم للحكم ، وقرروا أن في النفس معاني ، وأن الحكم هو التصديق بالمعاني . قال ديكارت : إن العقلَ قوة انفعالية بحتة ، وبالعقل وحده لا اثبت ولا انفي ، بل اقتصر على تصور الأشياء التي أستطيع أن أثبتها أو أنفيها ، والإرادة هي القوة الفاعلية ، وهي التي تحكم الخ . .) ، ( 14 ) .
ويرد يوسف كرم على ديكارت قائلاً بأن ) ليس من شأن الإرادة الإثبات أو النفي ، إلا بتسويغ من العقل) .
وهذا الكلام كأمرٍ مجردٍ صحيح ، ولكن ما هو [ العقل ] في زمن ديكارت ؟ إن العقل التجريبي شبه غائب وهو يتشكل تحت عباءة العقل الديني المسيطر ، ولهذا فإن هذا العقلَ الديني له ثقافة كبرى مسيطرة على العلوم وهي كلها غير مرتكزة على بحث تجريبي ، ومن هنا فإن ديكارت لا يفصلُ العقلَ عن التجربة ، بل يفصل العقلَ الديني عنها ، من أجل أن يتكون مسارٌ ثقافي علمي متراكم ، ولكن يوسف كرم يحاكم ديكارت بشكلٍ تجريدي ، وليس من خلال زمنه التاريخي المعرفي ، كذلك فإنه لا يعتبرُ تلك الخلفيةَ الدينية ، أي ذلك العقل الديني معرقلاً لتطور المعرفة العلمية ولهذا يأخذ كلمة [ العقل] بشكلٍ مجرد وبمعنى وحيد .
ويوسف كرم يقول هو نفسه عن تصورات ديكارت المنهجية :
(ولكن الفكر أشتاتٌ من تصورات جزئية يراها ديكارت غامضة مختلطة ، وتصورات يراها جلية متميزة مرتبطة بعضها ببعض ارتباطاً ضرورياً . الطائفة الأولى تضم احساسات الحياة العادية ، والطائفة الثانية تضم الموضوعات العلمية . ولقد كان من الأهمية بمكان عظيم عند ديكارت ومعاصريه صون العلم وتبريره . . . )، ( 15 ) .
وبهذا قاد المنهجُ ديكارت (في تفسيره لموضوعات العلوم إلى أنها مؤلفة من ( طبائع بسيطة ) غريزية ، مدركة إدراكاً حدسياً بالعقل وحده فلا يخطئ فيها العقل ، وإنما هو يتخذ منها أصولاً لاستنباط العالم أجمع ) ، ( 16 ) .
إن حالةَ ووضع ديكارت في القرن السابع عشر تشبه حالة يوسف كرم والعرب والمسلمين عموماً في القرنين 20 و 21 ، من حيث نقص ارتباط الوعي الفلسفي بمعامل التجريب وبحقول الدراسة في الجامعات ، ولكن ديكارت وهو في حالة التخلف المعرفية – التقنية تلك ، كان يزيحُ الطبقةَ الكثيفة من الوعي العام ، مستنداً على عقلٍ حدسي متوجهاً إلى الوقائع المحددةِ ، تاركاً للوعي الديني مجاله الميتافيزيقي والاجتماعي خارج العلوم .
ومن هنا كان التوجسُ العلمي لدى ديكارت ومعاصريه من الأوهام والظنون ( خارج العارف ) ، ويواصلُ يوسف كرم القولَ عن ذلك:
(ومتى كانت هذه طبيعة المعرفة فهي لا تقع إلا على موضوع باطن ، فلا يسع العارف أن يعرف غير ذاته ، لا يسعه أن يهرب إلى خارج لكي يعرف موضوعاً خارجياً .. ) ، ( 17 ) .
وبطبيعة الحال فهو كما يقول يوسف كرم فإن [ استبعاد الشيء الخارجي ] هو أمرٌ غير ممكن ، فالمثالية الفلسفية هنا لدى التجريبيين والعقليين ، تقوم بحصر المعرفة بين العقل وعملياته الداخلية ، لكونها تتصور الوعي هو الموجود وما هو خارجه غير موجود ، ولهذا فهو يتساءل ؛ (وكيف يمكن أن نحصل على عين الاحساسات إذا لم يكن هناك أشياء ؟)، ص 77 .
لكن التجريبيين والعقليين في ضوء الخروج من ثقافة الكهنوت كان لا بد لهم من التركيز على المعرفة العلمية المحضة ولهذا ( لا يلجأون إلى الله لتعليل اعتقادنا بوجود الأشياء)، ص 77 ، لكن يوسف كرم لا يتابعُ عملياتِ النفي المستمرة لفلسفة المثالية الذاتية ، أي التي تحصر المعرفة بوعي الذات ، حيث قامت الفلسفةُ الهيجلية بتجاوز جدلي بإدغام العقل والأشياء في وحدة جدلية معرفية تنمو بشكل متصاعد ولكن عبر مثالية موضوعية كبرى .
ومن هنا كانت اكتشافات فلاسفة عصر الثورة الصناعية والتنوير المعرفية تقوم على هدم ثقافة العصور السابقة غير الجدلية وغير التاريخية ، كتصور جان لوك بكون عقل الطفل صفحة بيضاء ، على اعتبار أن المعرفة والثقافة عامة تتشكل منذ البدء .
وبعد ذلك حين تتجذر الثورةُ الصناعية في البلدان الأوربية الرئيسية يتمُ تجاوزَ منهجيةِ ديكارت وهيوم ولوك إلى مستوياتٍ أرقى ، ولكن يوسف كرم لا يأخذُ المبنى الفلسفي كنصٍ داخلِ بنيةٍ اجتماعية تاريخية ، ويرى أن المثالية الذاتية تم تجاوزها ، في مثاليات موضوعية كفلسفة هيجل ، أو في فلسفة المادية الجدلية .
ويواصلُ يوسف كرم نقدَهُ للفلسفات المثالية القاصرة عن رؤيةِ الواقع والأشياء الخارجية ، وهو نقدٌ صائب ، كنقدهِ لفلسفةِ ( كانت (الذي يقولُ بأن الامتدادَ ) صورة ذهنية يضيفها الذهن إلى المحسوس ، بدليل أن التجربة جزئية حادثة)، ص 78 . إن (كانت) هنا في تأكيدهِ لقصور الامتداد ، يجعل الذهنَ يتحكمُ في العالم الخارجي ، وينفي كرم ذلك قائلاً : (بل من السائغ جداً أن نقول على مذهب أرسطو إننا نكتسب بالحواس صور الأمكنة الجزئية الحادثة ، ثم نجرد منها معنى المكان البحت بأقطاره الثلاثة ، والمعنى المجرد كلي ضروري كما نعلم ، والقضايا التي تضيف إليه محمولات ذاتية هي كذلك كلية ضرورية . )، ( ص 79 ) .
إن المكان كلي وجزئي ، متصل ومنقطع ، أرضي وكوني ، ومتداخل بالزمان ، ولم يعد منطق أرسطو رغم احتوائه على خلية موضوعية قادراً على فهم المكان بصورة حديثة ، ولكن يوسف كرم وهو يناقش [كانت ] ، كانت ثورات علمية قد جرت لم يضف ثمارها إلى منهجه .
يستند الباحث على الإحساس كباب أولي للمعرفة ، ثم على العقل عبر اعتماد الأدوات التقنية المساعدة ، (ولولا العقل والبحث العلمي لاعتقدنا أن الشمس لا يزيد قطرها على قدم واحدة ) ، (ص 84 ) .
❜❜ أنواع المثاليات
ويفند الباحثُ الفلسفات المثالية المتطرفة كفلسفة أفلاطون والمثالية الذاتية الحديثة ، ويسميها [ النظريات التصورية ] ، ويلاحظ بأن المثاليين ( مع إيمانهم بباطنية المعرفة ، مؤمنون بالعلم الطبيعي الدائر على الأجسام وتغيراتها ) ، كرؤية الفلاسفة المثاليين المسلمين عادة فالمعقولات ليست مرئية في الله ، ( ولكنها نازلة من عقل مجرد في ذاته يسمونه العقل الفعال أو عقل فلك القمر ، يصدر إلى العقل الإنساني ضوءاً يجردُ به الماهياتِ الحالةَ في المادة ، أو يصدر صورَ هذه الماهيات ، وصور الماهيات المجردة في أنفسها ، فنعقلها . ) ، ( 18) .
وكان ديكارت أول من كون المثالية الحديثة بشكل مغاير للمثاليات الدينية القديمة ، ورغم أنه أعطى الدين سيطرة على الوجود إلا أنه في مجال المعرفة اعتبر ( وجود النفس أنها مشتملة منذ وجودها على معانٍ غريزية أو فطرية بسيطة أولية ، ومن ثمة جلية متميزة ، تؤلف منها أشياء كثيرة ، ومن الأشياء عوالم كثيرة ، فلا تحتاج إلى التجربة إلا لتعلم أي عالم هو موجود فعلاً . ) ، ( 19 ) .
ويواصل يوسف كرم تحليل المثاليات ورؤيتها للمعرفة فيضيف :
( وفطن { كانت } إلى وهن هذا الأساس ، وأخذ على عاتقه أن يشيد نظرية العلم حسب مقتضيات المذهب التصوري ، ولكن لا التصورية المطلقة الجاحدة للوجود الخارجي ، وإلا فاتتنا مادة العلم ، بل التصورية المعتدلة التي تعترف بحقيقة للوجود ، بدليل أن الإحساس انفعال ، وأن المنفعل خاضع لتأثير شيءٍ فعال ، وإن كنا لا ندرك من الأشياء سوى انفعالنا بها ) ، ( 20 ) .
ويواصل يوسف كرم تقاليدَ المدرسة الأرسطية و يفند المدارسَ العربيةَ الإسلامية المثالية السابقة والمدارس المثالية الأوربية الحديثة ما قبل هيجل ، متوصلاً إلى نتيجة هامة قائلاً بأن المدرسة الأرسطية :
( وهي تعارض تصور النفس الإنسانية كأنها ملك كريم هبط من السماء حاملاً المعاني أو على استعداد لقبولها من روح علوي ، وتقرر أن الحس متصل بالأشياء اتصالاً مباشراً ، وإن العقل لا يكتسب معرفةً ما إلا إذا تلقى مادتها من الحس ) ، ( 21 ) .
وهكذا فإن يوسف كرم يعطي معنيين مختلفين للعقل المنفعل والعقل الفعال ، بجعلهما داخل ( الوعي ) ، وهو يستخدم تعبير النفس القديم ، فيغدوان مستويين من التحليل فيحدث في الوعي (الانتقال من المحسوس إلى المعقول بتجريد عقلي ) ، ص 92 .
والخلاصة الكبيرة هنا : ( إن اعتقدنا بضرورة القوانين سلمنا بالمطابقة بين العقل والوجود ، وإن لم نعتقد بتلك الضرورة لم يبق لدينا ضمان للعلم . ) ، ص 95 .
هذه الانتقادات هي جوانب جيدة استطاع من خلالها الباحثُ عبر منهجية أرسطو أن يفند محدودية المدارس المثالية الذاتية الحديثة ، فاتحاً الطريق لعلاقة جدلية بين العقل ومعرفة الأشياء لكنها الأشياء الطبيعية وليست الظاهرات الاجتماعية التي تتسربُ من بين أصابع منهجه .
فالوجودُ الذي طالب العقلَ بالمطابقةِ معه ، يظلُ هو القسم الطبيعي ، أما القسم الاجتماعي فإن قضيته أكثر تعقيداً وتركيباً . فهو يريدُ (إثبات النفس والله ومعاني الحرية والخير والفضيلة والجزاء والواجب الخ ) ص 99 ، ولكن كيف؟
إذا كانت المدارس المثالية الذاتية محدودة النظر في مجال فهم التاريخ فإن المدارس المثالية الموضوعية التي قرأت التطور الاجتماعي التاريخي كانت أغنى بمادتها العلمية ، خاصة لدى أوجست كونت وهربرت سبنسر وهيجل ، لكن يوسف كرم لا يستفيد من هذه المادة الاجتماعية المقدمة لقراءة التاريخ ولوضعِ تلك المجردات الميتافيزيقية في دائرة البحث .
فحول نظرية المراحل التاريخية الثلاث لأوجست كونت يقول :
( فدعامة المذهب نظرية الأدوار الثلاثة . لكن أحداً لا يستطيع أن يقيم الدليل على أنها تاريخية . فإن قيل إن الدور اللاهوتي يوافق ما قبل التاريخ وأوائل العهد التاريخية ، أجبنا : إن الإنسان قد عاش في تلك العصور الطويلة وهو يحارب قوى الطبيعة ويستغل ذخائرها ويخترع الصناعات للأستقواء في تلك الحرب وذلك الاستغلال ، وإن كل هذا لم يكن ليتسنى بغير الملاحظة الدقيقة والوقوف على طبائع الأشياء . وإن قيل إن الدور الميتافيزيقي يوافق العصر القديم ، سألنا عن الأرصاد الفلكية ، والصناعات المختلفة في المدنيات الشرقية الخ . . . ) ، ( 22 ) .
يقيمُ يوسف كرم تفنيدَهُ لنظريةِ المراحل التاريخية : السحر ، الدين ، العلم ، على أساس أنها شاملة كاملة ، فعند حدوثِ مرحلةٍ فلا بد أن تقضي على المرحلة السابقة كلياً ، وهو تصورٌ مثالي ميكانيكي ، فهذه المراحلُ المعرفية التاريخية في الواقع ، لا تحدث بهذه الصورة لكن بشكل تاريخي كبير ومتفاوت بين المناطق والمستويات داخل البلدان نفسها ، وعبر قرون عدة ، والجوانبُ المعرفيةُ الجديدة مرتبطةٌ بأساليبِ الإنتاج ، وكما أن أساليبَ الإنتاج تتداخلُ فكذلك المستويات المعرفية الكبرى ، التي تتداخل كذلك مع أشكال الوعي الإيديولوجي ، فزمن السحر يأخذ مدى واسعاً في عصر الانتقال من المشاعيات البدائية حتى العبودية والإقطاع ، لكن أشكال المعرفة السحرية لا تزول ، بل تواصلُ الحياةَ ، بسبب أن حياة الجمهور العامل خلال هذه الحقب لم تتغير بصورةٍ مهمة ، فيظل معتمداً على السحر وعلى الدين بشكل أكبر .
وتتشكل جزرٌ علمية في هذا المحيط الأمي ، ولكن هذه الجزرَ لا تسود ، بل تظل عند نخبٍ معينة . لكن السحرَ كقوةٍ مسيطرة كما كان الأمر في العهود السابقة يتضاءل وينحصر ، ويرتفع الوعي الديني لأسباب فكرية واجتماعية وتاريخية كبرى وهكذا . .
هنا يقومُ يوسف كرم بتفنيدِ مقولات أوغست كونت بطريقةٍ جداليةٍ وليس عبر العودة للتحليل ، كما كان يفعل مع النظرات التجريبية التي يتفوق عليها من جوانب معينة أساسية ، ويقول :
( وإن من مسائل الفلسفة مالا يحتمل المعالجة بالتجربة مطلقاً ، كمسائل النفس والله والواجب والحق والعدل ، لأن موضوعها غير محسوس ظاهراً وباطناً فلا يتناوله المنهج التجريبي . .) ، ( 23 ).
إن العلومَ الاجتماعية لا تتعامل مع الغيبيات بل مع الإنتاج الفكري والاجتماعي ، فمسائل الإيمان خارجة عن هذا النطاق ، بل يجري البحث في كيفية تصور الناس والمفكرين للذات الإلهية وأشكال الفكر الاجتماعي لمسائل العدل والضمير والواجب الخ . . وهذه تــُبحث بأشكالٍ ملموسة كما قلنا حول آراء التجريبي المنطقي زكي نجيب محمود .
وهو يعرضُ رأي هربرت سبنسر كذلك ، رافضاً لا أدريته حول مسائل الإيمان والغيب ، يقول :
( وعلى ذلك فلا محل لما بعد الطبيعة ، والبحث فيه ينتهي إلى متناقضات كثيرة ، فالقوة القائمة خارج الفكر والتي ندل عليها بتلك المعاني لا تشبه ما نعرفه داخل الفكر ، وليس يقابل ما بعد الطبيعة في عقلنا سوى استعداد طبيعي لتوحيد المعرفة ، وهذا الاستعداد يجد رضاه في الفلسفة الواقعية التي هي عبارة عن توحيد العلوم توحيداً تاماً بواسطة قانون علمي وهو قانون التطور من المتجانس إلى المتنوع ) ، ( 24 ) .
إن هذا القانون العلمي للتطور ينطبق على أشكال الوعي الدينية والفكرية الأخرى ، وبالتالي فإن الدين نفسه يتم تطور وانسلاخه من الأشكال البدائية نحو الأشكال التجريدية ، حسب مستوى تطور المعرفة والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية ، ولكن يوسف كرم لا يستفيد من تطورية هربرت سبنسر لتحليل الدين سواء كان مسيحية أم إسلاماً ، ولا يدمج هذه الجوانب التطورية لهربرت سبنسر في منظومته الفلسفية ، وينتقل من فهم الأشياء إلى فهم العلاقات والتطور الفكري والاجتماعي .
بل يقوم بالابتعاد عن نقدها ويطمئن إليها :
( بيد إن هذه اللاأدرية ليست مرادفة للإلحاد ، فإنها تعترف بالمطلق ، وتعتبره أسمى من الإنسان ، وهي إذن تدع الباب مفتوحاً أمام الدين ، وفي الإنسان أصل عميق للعاطفة الدينية . . ) ، ( 25 ) .
يدل رفض المدارس التطورية الاجتماعية للصراع مع الدين على علمانية فكرية غربية ، عبر التركيز على جوانب الوعي التقني والتطوري وإتاحة الفرصة لها للنمو في وعي الناس جنباً لجنب مع المفاهيم الدينية العريقة ، وهو أمرٌ تكرس في الغرب وقاد إلى تحولات عميقة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية ، وفي ذات الوقت فإن لهذه المدارس تحليلاتها للظاهرات الدينية كما لدى أوغست كونت ، ومع هذا فإن يوسف كرم لم يوظف هذه المدارس التطورية الاجتماعية ويدغمها بفلسفته العقلية لكي تكون لها جذور اجتماعية عربية وإسلامية ومسيحية ، بل قام بإبعادها عن دائرة البحث الفلسفي – التاريخي ، فغدت فلسفته قائمة على إرث ارسطي وعربي فلسفي قديم ، يؤكد وجود قوانين لتطور الطبيعة ، ولكن لا يبحث قوانين تطور المجتمع والتاريخ والفكر ، بل يجزئ هذه الجوانب الأخيرة في قيم مطلقة عن [ الله ] و [ الخير ] و [الخلود ] ويضعها في دوائر خارج مسارها الرؤيوي والتحليلي .
إن المقدمات الجيدة التي بدأ بها يوسف كرم فلسفته راح يتخلى عنها مع اقترابه من فلسفة الاجتماع والتاريخ ، وهي نقطةُ ضعفٍ أساسية رأيناها في تاريخ الفلسفة العربية القديمة ، فحول المعرفة البشرية وأصولها راح يرجعها إلى خلفية إلهية ، فيقول :
( فلا بد أن نرجعها إلى عقل أعلى هو قانونها وخالقها كما أن العقل الإنساني قانون مصنوعاته وموجدها . ومن هذه الوجهة العليا نقول إن الحق موجود في العقل فقط : موجود أولاً في العقل الإلهي مصدر الحق ، وثانياً في العقل الإنساني صورته ، وبينهما الأشياء صورة علم الله ومصدر علم الإنسان ، فتلحقها الحقية من الناحيتين : من ناحية العلم الإلهي ، وهذه نسبة ذاتية ، ومن ناحية العلم الإنساني المكون عنها بالتجربة والاستدلال ، وهذه نسبة عرضية إن وجدت لم تزد عليها شيئاً ، وإن عدمت لم تنقص منها شيئاً ) ، ( 25 ) .
إن مطابقة يوسف كرم بين العقل البشري والعقل الإلهي حيث إن الأخير هو المصدر للأول ، يدخل علم المعرفة في الغيبيات مرة أخرى بعد العصر الوسيط ، وهو لهذا وجه انتقاداته الكثيرة المطولة لعلوم الغرب التجريبية و ل( التصورية ) التي هي المثالية الموضوعية المعترفة بالإله ولكن خارج نطاق علم المعرفة ، فيعيد العلوم الطبيعية والإنسانية إلى ما قبل ديكارت ، ويؤسس منهجاً لاهوتياً في الفلسفة .
إن الأشياء تصبحُ لديه هي علم الله مجسداً ، وعلم الإنسان هو الباحث في هذه الأشياء ، والإنسان عندما يبحث في الأشياء يصلُ إلى الله . ولكن لماذا هذه اللفة الطويلة ؟
إن العلوم الطبيعية والإنسانية لا تستهدف الوصل إلى صورة للإله ، بل إلى قوانين المادة والمجتمع للسيطرة عليها وخلق تطبيقات تقنية وسياسية واجتماعية منها ، أما مجال عبادة الإله فهو ميدان آخر .
وبدلاً من استثمار كل تلك العقلانية المتراكمة من أرسطو مروراً بابن سينا وابن رشد فإنه يدخلُ البحثَ الفلسفي الاجتماعي ميدانَ المثاليات المفارقة في بحثه للمسائل الأخلاقية والفكرية العامة.
ويعود هذا كذلك لاستمرار المنهج الأرسطي اللاجدلي ، حيث تغيبُ وحدةُ الأضداد ، وهو لهذا يعيدُ أسباب التغيرات والحركة في الأشياء إلى الخارج ، وليس من داخل بناها ولهذا فهو يقول ( فمبدأ عدم التناقض يعطينا الصيغة الكلية لليقين ] ص 147 . ( أن ما لا قوة له فهو لا يفعل ، اللهم إلا بتحريك خارجي ) ، 154 .
ونستعيدُ العبارةَ السابقة المستشهدَ بها لنواصل قراءةَ المنهجية الغائرة :
( فما من متغير إلا وله مُغير ، أو ما متحرك إلا وله محرك . وعلى ذلك يخطئ الذين يفسرون الكون بتطور المادة ، واضعين في الأصل القوة والاختلاط زمناً غير متناهٍ ، ولو صح زعمهم لما أمكن أن تخرج الأشياء من القوة إلى الفعل ، ومن الاختلاط إلى النظام . وبفضل هذه البديهيات يتفق العقل مع الوجود ، ويصعد إلى فاعل أول . ) ، ص 158 .
إن عدمَ وجودِ التناقض كمحركٍ للأشياء يفتحُ البابَ لمحرك خارجي ، فتغدو الأشياء متجوهرة في ذاتها ، أي تغدو كائنات جوهرية لا تتحرك فعلياً عبر احتدام تناقضاتها الداخلية ، فتظهرُ بشكلِ وجودٍ بالقوة ووجودٍ بالفعل ، فالوجودُ بالقوة لا يعرف تناقضه الُمحرك ، والوجود بالفعل هو صعود التحول الداخلي غير المعروف الأسباب .
ويتحول الموجود إلى موجود بالجوهر وإلى الأعراض ، وهي سمات منهجية تعود للفلسفة الدينية القديمة وقد قام حتى فلاسفة عرب بتجاوز جوانب منها كابن رشد ، ( 26 ) .
ــــــــــــــــــــــــ
انظر عبــدالله خلـــــيفة: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية ، الجزء الرابع ، تطور الفكر العربي الحديث , وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة , 2015 .
ـــــــــــــــــ
المصادر :
( 1 ) : ( راجع الكلمة التي كتبها عنه عاطف العراقي في كتابه (العقل والتنوير ) مصدر سابق . ) .
( 2 ) ، 0 3 ) : ( العقل والوجود ، يوسف كرم ، ص 18 ، دار المعارف بمصر ، 1964 ) .
( 4 ) : ( المصدر السابق ، ص 19 ) .
( 5 ) ، ( 6 ) : ( المصدر السابق ، ص 20 ) .
( 7 ) : ( المصدر السابق ، ص 21 ) .
( 8 ) ، ( 9 ) : ( المصدر السابق ، ص 22 ) .
( 10 ) : ( المصدر السابق ، ص 158 ) .
( 11 ) : ( المصدر السابق ، ص 24 ) .
( 12 ) : ( المصدر السابق ، ص 25 ) .
( 13 ) : ( المصدر السابق ، ص 30 – 31 ) .
( 14) : ( المصدر السابق ، ص 72 ).
( 15 ) : ( المصدر السابق ، ص 72 ) .
( 16 ) ، ( 17 ) : ( المصدر السابق ، 73 ) .
( 18 ) ، ( 19 ) ، ( 20 ) : ( المصدر السابق ، ص 87) .
( 21 ) : ( المصدر السابق ، ص 88 – 89 ) .
( 22 ) : ( المصدر السابق ، ص 103 ) .
( 23 ) : ( المصدر السابق ، ص 104 ) .
( 24 ) ، ( 25 ) : ( المصدر السابق ، ص 105 ) .
( 26 ) : ( راجع في هذه المنهجية خاتمة كتاب الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية ، الجزء الثالث ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ) .
الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية+الجزء الرابع
        Published on July 30, 2019 06:50
        • 
          Tags:
          يوسف-كرم
        
    
No comments have been added yet.
	
		  
  


