‏‏عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تنوير وتحديث نجيب محفوظ

[image error]
الكاتب والروائي العربي نجيب محفوظ من رواد التنوير القلائل الذين اتخذوا شكل الرواية وسيلة للتفكير العميق في شئون الحياة الاجتماعية المصرية والعربية، وإذا كان قد بدأ في الثلاثينيات كتاباته الفلسفية فسرعان ما تركها مركزاً على العمل الإبداعي؛ بادئاً هذه الحياة بمجموعة من القصص القصيرة (همس الجنون) ثم رواياته التاريخية الثلاث: عبث الأقدار – رادوبيس – كفاح طيبة.
اتخذت الروايات الثلاث تاريخ مصر القديم الفرعوني مادة لها، وكان هذا تعييراً عن المنحى الليبرالي المتجاوز للفترة العربية الإسلامية، باعتبارها فترة التخلف حسب رؤية المنحى الليبرالي التنويري الذي شكله سلامة موسى ولويس عوض، والذي كان نجيب محفوظ قريباً من نفسه الفكري، فيلاحظ في الثلاثية، الرواية الكبرى في عمل محفوظ، تخصيصه لسلامة موسى فصلاً، وذلك حين يلتقي كمال عبدالجواد، بطل الرواية المثقف والباحث عن الحقيقة، رئيس تحرير مجلة كانت تعني إحدى المطبوعات التي أصدرها سلامة موسى.
وكان صوت التنويرية العلمانية (المتغربة) قد تردد بشكل متقطع في العديد من الشخصيات الثانوية، على سبيل المثال في (خان الخليلي) حيث المثقف الذي يردد أسماء ماركس وفرويد ودارون..
كانت هذه التنويرية الليبرالية تنمو في أعمال نجيب محفوظ بصورة دائبة، وتعبر الروايات التاريخية الثلاث سابقة الذكر، عن المنحى الوطني المصري الذي تشكل في بدء القرن، حيث مصر هي شخصية تاريخية قائمة بذاتها، وليس جزءاً من المحيط العربي، وهي تطمح عبر فئاتها الوسطى النامية إلى الالتحاق بالضفاف الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، ومغادرة عالم التخلف بتاريخها الثر، وقد ربطت الفئات الوسطى هذه العملية الانتقالية بالتحرر من الاستعمار البريطاني والسراي الملكي التركي، والعائلات التركية والشركسية الإقطاعية.
لكن القوى الإقطاعية المختلفة: السلطة البريطانية والملكية والإقطاع الديني، قاومت الفئات الوسطى الليبرالية وحزب الوفد
وتجليات الحداثة المتنوعة. وروايات نجيب محفوظ هي لوحة واسعة لهذا الصراع الذي خاضته هذه الفئات من أجل التحديث والوصول للسلطة وبرجزة المجتمع المصري التقليدي.
ولهذا نستطيع أن نقسم أدب محفوظ إلى ثلاث مراحل، المرحلة الأولى هي مرحلة الثورة والصعود، والمرحلة الثانية هي مرحلة الهزيمة والانكفاء، التي ترافقت مع مجيء ثورة 23 يوليو، والمرحلة الثالثة هي مرحلة العودة للحلم.
ومن هنا كانت الروايات التاريخية هي بداية هذا الصعود لصوت الفئات الوسطى المصرية لتشكيل عالمها، ولكن نجيب محفوظ باتخاذه مادة تاريخية من التاريخ القديم، كان يشكل تضاد؛ مع حلمه وتجسيداته، فهذا التاريخ الفرعوني يكاد يخلو من وجود فئات وسطى مستقلة عن الهيمنة الفرعونية الاستبدادية، ولهذا فإن محفوظ أضفى صفات وطنية وإنسانية على الحكام الفراعنة.
أن إضفاء نجيب محفوظ صفات الوحدة الوطنية الصلبة على جسم المجتمع المصري القديم, وجعل الحكام الفراعنة ملتحمين بالناس, وبتصويره عدم وجود تناقضات داخلية في جسم هذا المجتمع, كان يضفى طابعاً رومانسياً على التاريخ الوطنى, كصدى للعملية السياسية الجارية في وقته.
كذلك كان يقوم بعملية نقد للجسم الإقطاعى الذي تكدس فوق الجسد الوطنى المصري على مر التاريخ, سواء بتجاهله للتاريخ العربى, أم بنقده للسيطرة البريطانية التركية على مصر.
ولكن هذا النقد تم بلبس الملابس التاريخية, وهنا كانت الأدوات الفنية تنمو بالتداخل والصراع والتعاون مع الرؤية التي كانت في غبش الظهور والتشكل.
ولهذا جاءت مرحلة الرواية الاجتماعية المعاصرة، أي حين تم ترك الموضوعات التاريخية القديمة، وبدأ بتحليل المجتمع المعاصر. وهذه المرحلة هى التى استمرت طوال تاريخه الفنى إلا من عودة وامضة للتاريخ الفرعوني مرة أخرى.
وقد بدأت المرحلة الاجتماعية بشخصيات مركزية من الفئات الوسطى، وهى بؤرة الفاعلية الكفاحية لهذا المجتمع وللطبقة الوسطى التى هى في سيرورة الممكن، وليس التشكل الناجز, وإلا ما كان هذا الأدب.
ومن هنا كانت عمليات تحليل هذه الفئات ونقدها لتقوم مهمتها التاريخية في تشكيل مجتمع الحداثة, لتكون (طبقة) طليعية, فإذا تتبعنا روايات مثل: القاهرة الجديدة، وزقاق المدق، وبداية ونهاية، فسنجد عرض الشخوص السلبية والإيجابية بين هذه الفئات المضطربة في توجهاتها, التى تقع الشخصية السلبية في بؤرة العرض الفنى فيها , وهى التى يتوجه العرض لتحليلها وتبيان فشل طريقها, كما حدث لمحجوب عبدالدايم في القاهرة الجديدة الذي كان تجسيداً للانتهازية الفاقعة في بيع ذاته
 للوصول إلى الثروة والمناصب, والذي أسس لنفسه مبادئ عدمية هى تعبير عن الالتحاق بالإقطاع الحاكم المخرب للذمم والنفوس, وعدم شق طريق نهضوي تترافق فيه الكرامة بالحرية والديمقراطية.
وإذ يُعطى نجيب محفوظ أطيافاً من شخصيات مرافقة للبطل المركزي, غالباً ما تعكس أطياف التيارات في الفئات الوسطى, فإنه لا يقوم بتحليلها, بل يجعلها كمرايا تبين الجوانب المضادة عند الشخصية الرئيسية.
فحميدة في زقاق المدق هي الانتهازية والذاتية المريضة التى تبيع جسمها هذه المرة للوصول إلى حياة مرفهة, حتى لو كانت بين أحضان الجنود الإنجليز وقواديهم.
لكن الطريق الكفاحى الشعبى يتجسد فى عباس الحلو, الحلاق البسيط الذي يريد ان يتزوج حميدة, ورغم سطحية الترميز هنا بين حميدة ومصر, وعباس والمستقبل, فإن محفوظا لا يقوم بالتحليلات المعمقة في الصراع الاجتماعى, أي لا يرينا كيف يمكن أن يتطور عباس هذه الشخصية الشعبية ليصبح رمزاً نضالياً, فيعتمد هنا على الخطوط الاجتماعية العامة المنمطة والشخوص.
وهذه العملية تعبر عن نظرة محفوظ المنبثقة من الفئات الوسطى التى ترى ذاتها مركز الفعل, في حين أن الشعب والقوى الفقيرة تظل مادة للفعل القادم من الخارج.
وهذا ما نراه أيضاً في (بداية ونهاية) حيث العائلة التى مثل الفئات الوسطى, واتجاهاتها الاجتماعية المحدودة هذه المرة, ولكن الفئات الوسطى هنا تدخل طور أزمة شديدة, حيث موت الأب يعنى شبه انهيار للعائلة, التي تجد نفسها أمام سبل الخيارات الاجتماعية, بين موقف انتهازي تسلقى يمثله الأخ الأصغر الذي يصبح ضابطا, وبين موقف الأخ الأوسط الذي يواصل سيرة عباس الحلو وسيرة الكدح الصابر المتواضع النبيل.
لكن اتجاه الانتهازية والرخص والغرور المتمثل في الأخ الضابط وأخته نفيسة التى تبيع جسمها, يقوم بتدمير العائلة مجدداً.
أن هذه الروايات المتعددة التى استغرق نجيب محفوظ في كتابتها عشرين سنة تبين عملية التفكير الفنى المتواصل في مادة الحياة, الذي بدأ بنسج العلاقة بين فكر التنوير والناس, حيث لا يصبح الشعب مادة مجردة بل شخصيات حية, وصراعات اجتماعية, فكيف يحدث التقدم وكيف تنتصر إرادة التغيير لديه؟
يُلاحظ في هذه المادة الروائية الاجتماعية التصاقها بمادة ملموسة وبحيثيات حياتية اجتماعية, أكثر منها مادةً سياسية وفكرية, فالاتجاهات السياسية والفكرية لا تظهر, إلا كأصداء بعيدة خافتة.
لكنننا نستطيع أن نرى مادة الوعى المتنور في تصوير العلاقات المتضادة بين الشخوص, و في الانهيارات المستمرة في الوعى الانتهازي, وفي تصعيد نماذج الإنسان البسيط من هذه الفئات الوسطى كنموذج للعمل والتضحية والصمود.
أن محفوظا لا يحشر الأسئلة الكبرى الفكرية والفلسفية في هذه النماذج, ولكن هذه الأسئلة غائرة في عملها وموقفها المجسد, كذلك فإن التيارات تحصل على رموزها من الشخوص العرضية غالباً, فالرمزان الدينى والتقدمى باطيافهما, هما منتشران دون أن يكون لهما حضور حقيقى. فقط النموذج المركزي القادم من الفئات الوسطى وهو أمل تكون الحداثة, هو الذي يحاور الشعب سلباً أم إيجاباً, ويحاوره عبر الأمثولة التي يقدمها وليس بالعلاقة النضالية معه.
عبرت ثلاثية نجيب محفوظ وهي (بين القصرين؛ وقصر الشوق، والسكرية)، عن التطبيق الملحمي الواسع للعناصر الفنية والفكرية السابقة الذكر.
فمحفوظ يعرض الفئات الوسطى، بل يختار عائلة كاملة هي عائلة تاجر متوسط، ليعرض نماذجها وعلاقاتها الاجتماعية والسياسية والفكرية. وهناك التمثل الرمزي الذي غالباً ما يشكله الكاتب بين مادته الفنية، والتطورين الاجتماعي والسياسي، فهذه العائلة تعبر عن حالة البلد في خلال نصف قرن من التطور، وكما تتعرض السلطة الدكتاتورية للاهتزاز والضعف الشديد، كذلك فإن سلطة احمد عبدالجواد الأب في هذه العائلة، تتعرض هي الأخرى للضعف وبداية الهزيمة.
إن محفوظ هنا استطاع أن يجسد النظام الإقطاعي بمستوياته المتعددة، السياسية في النظام الملكي وفي الأرستقراطية، وفي الهيمنة الذكورية الاستبدادية المتجسدة في تسلط الأب، وتدهور أوضاع المرأة، وهيمنة المفاهيم الفكرية المتخلفة.
إذن فإن الإقطاع بمستوييه السياسي والاجتماعي في طريق الأفول.
يقيّم محفوظ الشخصيات والأحداث التاريخية ليس من خلال عرضها والدخول فيها، بل من خلال انعكاساتها على العائلة المحورية، فهكذا يظهر التاريخ دائماً خارج العائلة، لكنها تتأثر بأحداثه، وإذا كان فهمي الابن المسيس للأب، يغدو شهيداً
ورمزاً للكفاح الوطني، فإن العائلة لا تشارك في صنع التاريخ، وهنا فنحن أمام عائلة من الفئات الوسطى، يغمرها التاريخ شيئاً فشيئاً، حيث تتفكك علاقاتها الإقطاعية وتتسرب إليها المفاهيم والعلاقات الحديثة. لكن العلاقات القديمة لا تزول، والعلاقات الحديثة لا تنتصر كلياً. فالمسألة ماخوذة على أساس النضال الوطني الديمقراطي العام الذي نسمع به أو نراه أحياناً، ولكنه ليس سوى أحد روافد الرواية.
ومحفوظ في هذه الرواية متفائل بفاعلية العلاقات الحديثة المتوغلة بقوة في البناء الاجتماعي، ويتضح هذا من تغير ظروف المرأة ومواقفها، وبروز نموذج. تقدمي فيها، لكنه أيضاً لا يغفل صعود التيارات الدينية كذلك.
أما ما يمثل بؤرة الرواية فهو الشخصية المثقفة المتنورة المحورية: كمال عبدالجواد، هذه الشخصية التي هي ابن الدكتاتور العائلي، أحمد عبدالجواد، ولكنها هي النقيض الذي ينمو، وهي رمز الفئات الوسطى الحائرة المتذبذبة في تشكيل مجتمع الحداثة.
إننا نشهد في الرواية تتبع طفولة هذه الشخصية، وشبابها وبدء كهولتها، وكيف تتزعزع عملية اعتقادها بالأطر الدينية التقليدية، مشرئبة إلى الأفكار والنظريات الحديثة، ودون معالجة نقدية وجدلية بالإرث الإسلامي المسيحي، بل عبر الانقطاع عنهما، ولكن عبر حيرة طويلة.
ويتوجه كمال عبدالجواد لحب عايدة، النموذج الأرستقراطي، وهي العلاقة الرمزية المباشرة، للعلاقة بين الفئات الوسطى والأرستقراطية، والتطلع إلى الذوبان فيها، واعتبارها هي الحل بديلاً عن تكوين الفئات الوسطى شخصيتها المستقلة وتحولها إلى قوة اجتماعية مهيمنة، ولكن هذا التطلع يفشل لأن عايدة تتوجه لابن طبقتها.
وبعد سنوات يشارك كمال في جنازة دون أن يعرف الميت، فيتضح أن الميت هو عايدة نفسها. لقد ماتت الأرستقراطية كأفق
شخصي لكمال وللفئات الوسطى. وهي نبوءة متسرعة من نجيب محفوظ .
وتتحول أخت عايدة الصغيرة بعد أن تهاوت مكانة أسرة عايدة الاجتماعية، وصارت جزءاً من الفئات الوسطى، إلى مهوى جديد لعاطفة كمال ولكن فرق السن يحول دون ذلك.
ويتضح في كمال الجانب الفكري والرمزي لمخاض الطبقة الوسطى كحاملة للنظام الجديد، ولكن هذا المخاض لا يبدو داخلياً إلا على شكل فكري بعيد الصلة عن تحليل الواقع والإرث الفكري والاجتماعي الديني، حيث إن الكاتب نفسه لا تتمثل لديه الحداثة إلا عبر (التغرب) أي باستيراد الموديل الغربي الجاهز، وليس من خلال إنتاج الحداثة بالصراع في بنية اجتماعية مصرية، لها مستوياتها الاقتصادية والاجتماعية والإيديولوجية.
كذلك يغدو مخاض كمال التأملي والنخبوي، وهو منهج نجيب محفوظ نفسه، نائياً عن تحليل الصراعات الاجتماعية والمشاركة بها، مما يقود على مستوى مصائر البنية الاجتماعية إلى التفاؤل بالتقدم الحثيث للفئات الوسطى لاستلام زمام
التاريخ المصري.
إن أسرة أحمد عبدالجواد التي تتسع بالمصاهرة تنتج شخصيات تنتمي إلى تيارات دينية (الإخوان) وتيارات تقدمية (الماركسيون)، ومن الملاحظ ان محفوظ يجعل هذين التيارين ينبثقان من العائلة، التي تشير رمزياً للمجتمع والناس
عموماً، ولكنها تشير كذلك إلى الطبقة الوسطى. والرؤية المحفوظية تطابق بينهما.
وقيام عائلة أحمد عبدالجواد بإفراز هذين التيارين الشموليين من داخلها الواعد بالديمقراطية والحداثة، بدلاً من أن يصبح كمال عبدالجواد هو النموذج، مما يعبر عن الأزمة الاجتماعية المتصاعدة، وعدم قدرة تيار الفئات الوسطى الليبرالى على تقديم المظلة الفكرية التي تستظل التيارات الأخرى تحتها، فلا يملك تصوراً ديمقراطياً عن الإسلام يسحب البساط من تحت أقدام التيار الديني الشمولي، ولا يستطيع تقديم الإصلاحات الواسعة لجذب الفلاحين والعمال إلى صفوفه.
وهذا يتبلور في نهج حزب الوفد وتأملية كمال عبدالجواد سواء بسواء.
تنويرية نجيب محفوظ الديمقراطية الحداثية تتحول على مستوى الفن إلى ترميز فكري – اجتماعي، وهذا الترميز يتحول في نهاية المرحلة إلى قالب. وبين حيوية الترميز وامتلائه بالمادة الحياتية، وبين تيبسه وتحوله إلى هيكل عظمي، يقع مشوار محفوظ الأكثر خصوبة .
ونحن إن نركز هنا على التنوير وجذوره ودلالاته السياسية، لا بد لنا من رؤية الترميز وخطوطه العريضة. فكما رأينا صاغ محفوظ بنيته الفنية على أساس تطوير فاعلية الفئات الوسطى للتحول إلى قوة تغيير للمجتمع التقليدي، وعبر شخوص تصارع قيماً متضادة، فهناك الوطن أوالاحتلال، الحداثة أو التخلف، العلم أو الدين، الحرية أو  الاستبداد.. الخ.
وقد شكل الوعي العربي التحديثي بناءه على شكل متضادات شبه مطلقة كالسابقة، أي عدم قدرته على التضفير العميق بينها، وهذا الوعي الذي استظلت به بنية محفوظ الفنية، ولكن هذه الرموز لم تنفصل عن البناء الاجتماعي، فكمال الذي يرمز للوطن الحديث المتشكل تقابله عايدة التي ترمز للأرستقراطية الآفلة، ولكن الترميز لا يخلو هنا من شحنات شخصية واجتماعية ملموسة تكاد تغيب الرمز.
وهكذا يؤسس محفوظ رؤيته للتيارات ونموها وصراعها على شكل شخوص متضادة، وكانت لديه مشروعات روائية قبل ثورة 23 يوليو 41952 لكنه توقف عنها وبدأ مسيرة فنية مختلفة.
إن انتكاسة مشروع محفوظ هنا يعود لأن التحليل الذي اعتمد عليه في رؤية تطور المجتمع المصري من خلال الثلاثية، والتي كانت آخر عمل في السلسلة السابقة، ثبت خطأه، وأن انتصار الطريق الليبرالي الديمقراطي، وصعود البرجوازية كطبقة تعيد تشكيل النظام التقليدي، لم يتحقق بل لقد وثبت التيارات الشمولية من الفئات الوسطى نفسها الى السلطة وشكلت مساراً شمولياً ووطنياً وأطاحت بالتراكم الليبرالي والديمقراطي السابق.
هذا ما يمكن أن يبعث على الحيرة و الاضطراب الفكري والفني عبر المسار التفاؤلى المحفوظي السابق ذكره. إن تناقضات الفئات الوسطى برزت على السطح التاريخي، وانفجرت التناقضات الداخلية في عائلة السيد أحمد عبدالجواد. وكانت أزمة مارس 1954 هي ذروة الصراع, وحسم فريق العسكر الوطني الشمولي المعركة لصالحه.
فماذا يفعل الروائى الليبرالى النهضوي من الرعيل الأول، هل يتخلى عن مساره وينضم للطبالين الكثيرين أم يواصل الحفر لرؤيته بأدوات تعبيرية مختلفة؟
إن تطابق سنوات أزمة الخيار السياسي لمصر وتوقف محفوظ عن الكتابة يشير إلى البحث عن اًسلوب جديد لتجسيد المعاني القديمة، ولهذا فإن الأسلوب الملحمي النقدي الواسع للثلاثية، الذي يظفر بين التشخيص الكبير والترميز، والذي يحوي صراع الطبقات بشكل مكشوف، هذا الأسلوب لا بد أن يتبدل علي ضوء المرحلة العسكرية التي لم تكتف ببوليسها الواسع ورقابتها بل بجمهورها العاطفي الهائج.
فإذن كان الاختمار المحفوظي من أجل إذكاء الأدوات التعبيرية الديمقراطية في زمن دكتاتوري، ولهذا تبدل التحليل الواسع والنفس الملحمي، نحو ضمور الروح الملحمية والتحليلية الواسعة، إلي الكثافة التعبيرية واتساع الرمز، ومع تبدل الموضوعات وبقاء البنية الترمزية الاجتماعية السابقة، بنية التحديث والديمقراطية.
يواصل نجيب محفوظ نقد النظام الوطني الاستبدادي عبر طرق فنية طورت أسلوبه التعبيري.
في روايات مثل (اللص والكلاب) و(السمان والخريف) و(الطريق).. الخ. نجد هذه الكثافة والرموز المتغلغلة في بنية الحدث وفي الشخوص. ففي اللص والكلاب, نرى سعيد مهران اللص يهاجم معلمه المثقف السابق رؤوف علوان الذي صار قطباً في القوى الصاعدة, وكما رأينا فالبنية الرمزية الاجتماعية هنا تشير إلى كون الطبقات الفقيرة التي زعم رؤوف علوان النضال من أجلها, لا تزال مضطهدة ومسروقة, ولكنها الآن تُسرق من قبل رؤوف علوان, وبقية (الكلاب).
وكل الرواية الخادعة للبوليس الشمولي تتركز في الصراع بين سعيد مهران ورؤوف علوان في الحقيقة, والذي موهه محفوظ بأشكال عدة من الكلاب, ولكن الصراع بين اللص الشريف والحرامية الجدد غير الشرفاء هو لب الرواية.
ففي الوقت الذي تحاول الطبقات الفقيرة فيه الحصول على الثروة بنفس الأسلوب الذي اتبعته تلك القوى التي وثبت إلى السلطة, فإنها تُسجن وتقتل.
ولهذا فإن الذين وثبوا للسلطة بأساليب العنف والتضليل الإعلامي يقاومون سعيد مهران الذي يلجأ إلى أساليب العنف أيضاً ولكن من أجل الحق.
أن محفوط هنا في سبيل انتقاد السلطة الشمولية يلجأ إلى حيثية حقيقية متمثلة في قصة السفاح الشهيرة, ويقود منولوج البطل سعيد مهران في كشف تختلف أنواع الكلاب, الذين خانوا صيغة التعايش الزوجية السابقة, ( عليش ونبوية), والجدد.
وتعبر رواية (السمان والخريف) عن هذه الثيمة الرمزية بشكل أوضح وأكثر اتساقاً, فبطل الرواية تحيله حكومة الثورة العسكرية إلى التقاعد السياسي, مثلما تحل حزبه الوفد.
وتكشف فصول الرواية كيف ان الفئات الوسطى تتصارع على السلطة بشكل محموم, والتي يعبر عنها محفوظ عادة بالترميز فخطيبة عيسى البطل الوفدي, تتخلى عنه وترتبط بنافسه العائلي الذي يصعد في السلطة الجديدة.
ويتشرد عيسى ويحل زمن الخريف عليه ويذهب إلى الاسكندرية حيث يلتقي امرأة بسيطة ويعاشرها وحين تحمل منه يطردها. وفيما بعد يكتشف ان طفلتها تحمل ملامحه الجسدية بشكل مدهش.
وقـد عبر ت هـذه العلاقة عن العلاقة الترميزية بين قوى الليبرالية الديمقراطية والناس, حيث التخاطب غير قانوني والثمرة محرمة, والرمز الطليعى يعيش زمن الخريف بين التحلل والنضال.
تكشف هذه الرواية استمرار البنية الرمزية الاجتماعية وقد ضمر جانبها التحليلي الاجتماعي, وتمركُز الطليعية في نموذج وحيد مفصول عن الجماهير, ومتقوقع في ذاته, مما يؤثر في بنية السرد والشخوص, فتلجأ إلى الشعرية اللغوية والتأملات الداخلية المفصولة عن وهج الصراع الاجتماعي.
وهذا ما يمكن متابعته في (الشحاذ) ايضاً, حيث عمر الحمزاوي يكتشف أن استمراره في وظيفة المحاماة الناجحة التي أغنته مالياً, قد أفقرته روحياً, لغياب أي قضية عنده, ولا يوضح محفوظ الأسباب المباشرة لغياب الانتماء والخصوبة الداخلية, بل يدع بطله يهجر هذه الحياة البرجوازية غير المشكّلة للطبقة الطليعية لمجتمع الحداثة, و في غيابات وهجرات معاكسة لما ينبغي أن يكون, كالاتجاه نحو اللذائذ الجنسية المتنوعة والواسعة, والتي تتكشف عن خواء, وكذلك الاتجاه المعاكس أي الاتجاه نحو التصوف وترك اللذة والحس كلياً, مما يقوده إلى الغيبوبة والهذيان وشبه الجنون.
في حين ان زميله النضالي الذي خرج من سجن النظام العسكري يواصل الكفاح ويتزوج ابنة عمر, في تعبير تزاوجي آخر عن الخصوبة السياسية والفكرية, ولكن في النهاية يتم مهاجمة هذا المناضل الذي لجأ إلى قريبه عمر في عزلته, تعبيراً عن كون النظام الشمولي تتوحد مصائر الهاربين والمنتمين في قبضته.
في رواية (الطريق) يواصل نفس الرؤية بثيمات أخرى, ولكنه في رواية (ميرامار) التي تدور في بنسيون صغير, يواجه مباشرة النظام عبر تناقضات اجتماعية صارخة من شخوص تمثل عمليات التفسخ التي تنتهي إلى الجريمة.
ويُلاحظ أن محفوظ لم يصور النظام الوطني بأي إيجابية لافتة, فلم تعبر ريشته عمليات البناء الضخمة الجارية, مركزاً على غياب الحرية السياسية, وهذا يعود لمنهجه الفني الفكري ذي التضادات المطلقة والذي لا يظفر بينها بتكوين اجتماعي حقيقي.
تحتاج هذه الحلقات التي تدخل ربما في لب عمل نجيب محفوظ المتواري كثيراً عن النقاد الذين يسحبونه نحو ايديولوجياتهم أكثر مما يفسرون نصوصه, إلى وقفة أخرى.

تحديث نجيب محفوظ
يرى نجيب محفوظ التيارات الفكرية وتاريخ المنطقة الديني من خلال الحارة المصرية، فهي المستودع الذي تعيش فيه تمثلات الفلسفة العالمية وانعكاساتها وحكايات الأنبياء وأصداء صراعات العالم.
ولهذا فتاريخ العرب وحضارتهم لا تتشكل عبر أعمال خاصة، بل هى موجودة كأصداء فى شخوص الحارة حين تظهر نماذج الدينيين. وقد سبق لمحفوظ أن ساير السينما المصرية في تصور العرب باعتبارهم البدو الذين يعيشون في صحراء سيناء، كما فعل في الفيلم الشهير الذي أعده كسيناريو للسينما باسم (عنترة وعبلة) في أواخر الأربعينيات، وهكذا كانت قبائل الجاهلية تتكلم باللهجة البدوية لعرب سيناء!
ومن هنا كانت رموز التراث التي تظهر لأبطال الحارة أثناء صراعاتهم الداخلية والعامة كما جرى الأمر في رواية (ثرثرة فوق النيل)، فهي رموز من التراث الفرعوني، الذي هو باعث للهمة وللنهوض (القومي). وفي الوعي المصري الليبرالي كان التفريق بين الوطني والقومي غير واضح.
إن رواية (ثرثرة..) تواصل خط الرواية الفلسفية الذي اتبعه محفوظ، وبطلها الرئيسي هو إنسان مسطول (أنيس زكي)، ويعيش مع شلته فوق ظهر عوامة على النيل، وهي رموز واضحة لمصر أو للقاهرة على وجه الخصوص، ولكن اختيار بطل مسطول ولديه ماض وطني مقموع أو مغيب، هو شكل التجلي للرؤية الليبرالية المقموعة في العهد الناصري، والتي تبحث عن انثيالاتها وتداعياتها من خلال مونولوج البطل المسطول وجماعته من المدمنين السكارى
الغارقين في المتع والنشوات و(الأنس).
وفى حين كان الخارج يتحدث عن معارك ( الاشتراكية) والتأميم، وإزالة الطبقات وضرورة تطوير الوعي، كان الأمر في العوامة يجري على نقيض ذلك، حيث كان تغييب الوعي وسحقه، والانقطاع عن معارك الخارج كليةً.
بل إن الخارج نفسه كان متناقضاً ففي حين يتم الحديث عن فوارق الطبقات كانت الطرقات تكتظ بالسيارات الخاصة، ص72.
فلماذا كان هذا التباين الشديد بين الخارج والداخل، بين ما يجري في الدولة وما يجري في العوامة (مصر) ؟ ما الذي يوحد (الاشتراكية) بالحشيش ؟!
ان البطل المركزي الذي تجري الرواية حول تداعياته هو موظف عتيق، يشبه فى عمره ووظيفته الكاتب محفوظ نفسه، ولكنه لا يكاد يفيق من إدمانة سواء في العوامة أم خارجها، وتجري الانثيالات في أحيان عديدة حول الماضي وأمجاده، في حين ان الحاضر هو كابوس!
كابوسية الحاضر تتجلى في الشخوص التي تحضر العوامة وتمارس طقوس الغياب والفرح الفارغ، وهي شخصيات طفح بها واقع العوامة المصرية في ظل الدكتاتورية الوطنية العسكرية، فهي نماذج من الكتاب والصحفيين والفنانين والفنانات المتسلقين والانتهازيين، الذين خلوا من أي فكر أو فن عميق، حيث يمارسون ترديد الشعارات عن الاشتراكية والتقدم في الخارج، ويمارسون تذويب ما بقي من شخصياتهم في دخان الحشيش، وقد غدت العوامة غرزة من الغرز؛ وكأن مصر قد منع فيها التفكير وانطفأت جذوة الوعي والحوار.
إن النقد العميق للشمولية، والذي يجري من جهة السلب فقط؛ والذي يقارن بعهد الحريات الفكرية السابق الغائب في ومضات لا تكاد تُسمع في هذيان البطل، أو بعهد النهضة الفرعونية، ان هذا التقد يتخفى ويتوارى كثيراً، فهو الصوت الديمقراطي الروائي شبه الوحيد في علم الصحافة الرسمية الجماهيرية (حيث تُنشر الرواية على حلقات في جريدة الأهرام: المتحدث الرسمي بلسان الانقلابيين العسكريين).
إن عدم رؤية نجيب محفوظ أي جانب إيجابي في ثورة يوليو52؛ هو بطبيعة الحال عملية ناتجة من المنهج الفني التجريدي العام، الذي يقولب التجربة الإنسانية في قوالب رمزية متضادة، أي ليس هو منهج تحليلي فني يغوص في تضادات التجربة الملموسة، بل هو يسقط عليها آليات وعيه الليبرالية في تضاداتها المطلقة فهناك: اما حرية وإما استبداد، اما ديمقراطية وإما دكتاتورية، اما تقدم وإما تخلف الخ، أي لا يرى ان هذه التضادات ليست مطلقة، بل متداخلة، وان الإيجابي والسلبي في كيان واحد متصارع، وان مصر ليست عوامة فقط بل مصنع وسد ومعارك، تقدم وفساد… الخ.
ولهذا نرى البطل المحوري ذا الماضي الوطني، وهو صدى سوف يتكرر بشكل عام، ينسحب كلية من الصراع، ويتلاشى وعيه في سحابة كثيفة من المخدر.
لكن ليس هذا التصوير السلبي مطلقاً، فشخصية صحفية شابة ناقدة وواعية ( سمارة بهجت )، تتغلغل في هذه العوامة وتفضح رموزها، ولكن الفضح يتجه لكي يستعيدوا وعيهم ويناضلوا، ولكن بأي اتجاه؟
بالضد من هذه الشخصيات السلبية والفاقدة للوعي، هناك حارس العوامة (عم عبدة)، تلك الشخصية الشعبية المتوارية واللغز، التي تمسك بيديها حبال هذه العوامة وتستطيع أن تدعها تغرق في النيل، وهى رمز لشخصية الشعب، وجذوره المصرية القديمة، ولتنوع هذا الشعب وعمره المديد وتضاداته الأخلاقية وصبره ونضاله اليومي الصبور الدؤوب، بعكس فئات وسطى عديدة ثقافية غارقة في التفاهة.
وفي هذه الرواية الساخرة الناقدة هناك عشرات من الموتيفات التي ترجع لتاريخ مصر القديمة، وكلها تنثال من خلال لا وعي الحشاش الأكبر أنيس زكي، فيجمع محفوظ النقد المرير بالضحك
والفرجة، وهي تقنية شديدة المكر.
لهذا فإن شخصية الدكتاتور هي الحاضرة كثيراً في تداعيات أنيس زكي، وهو شخصية مثقفة مولعة بالتاريخ، ولهذا فلا تناقض بين عمليات استرجاعها لشخصيات وكلمات مثل نيرون والفاشية والفرعون الطاغية.
يقول فى أحد السطور: إنه لم يكن عجيباً أن يعبد المصريون فرعون ولكن العجيب أن فرعون آمن بأنه اله، ص23 .
ويواصل نقد التجربة:
(كل قلم يكتب عن الاشتراكية على حين تحلم أكثرية الكاتبين بالاقتناء والإثراء وليالي الأنس في المعمورة. .)،56.
ويبكي فرعون وهو في أسر قمبيز الفارسي الغازي قائلاً عن أحد جنوده: هذا الرجل! طالما شهدته وهو في أوج أبهته فعز عليّ أن أراه وهو يرسف في الأغلال!
وياتى البديل على شكل ساخر بأن يقوم هؤلاء الحشاشون بتنظيم أنفسهم وكيف يحققون الاشتراكية على أسس شعبية ديمقراطية لا زيف فيها ولا قهر..، ص 100.
ويوجه محفوظ خطاباً غير مباشر في الرواية إلى جمال عبدالناصر حيث يقول على لسان حكيم مصري قديم:
(ما هذا الذي حدث في مصر/ إن النيل لا يزال يأتي بفيضانه / إن من كان يملك أضحى الآن من الأثرياء) ثم تأتي الرسالة:
(لديك الحكمة والبصيرة والعدالة/ ولكنك تترك الفساد ينهش البلاد/ انظر كيف تمتهن أوامرك / وهل لك أن تأمر حتى يأتيك من يحدثك بالحقيقة ؟) ص 126.
ويتضح المنهج الترميزي التجريدي في تصويره للشعب من خلال نموذج بواب العوامة، فوضع الشعب داخل قالب شخصية متفردة، مهما كانت عملقتها، لا يستطيع أن يكشف دورها الحقيقي وتناقضاتها وتراكم الوعي والمواقف فيها.
ولكن هكذا كان الشعب لدى محفوظ خلفية لمواقف الفئات الوسطى، حيث تكمن القيادة لديها.
إن الرواية التي انعكس فيها تاريخ المنطقة الديني هي رواية (أولاد حارتنا)، وهي الرواية التي أثارت الضجة، وكما نرى فإن وجود كلمة حارتنا، يشير إلى أن هذا التمثُل المستمر للواقع أو للتاريخ الديني والفكري، عبر الحارة وموتيفاتها وأجوائها. وهو أمر سيكرره محفوظ أيضاً في روايته (الحرافيش).
وموتيفات الحارة الشعبية كمهنها وأوقافها ومقابرها… الخ، هي عملية تحليل طبقية أخذ محفوظ يشكلها بدءاً من رواية (زقاق المدق)، ونظراً لتركيزه على الفئات الوسطى، التي لها دور محوري قيادي يعكس الرؤية الليبرالية التى يؤمن بها، فقد جعل هذه الفئات فى مقدمة المشهد الروائي، وتمثل خياراتها الأخلاقية والفكرية جوهر الصراع الروائي.
لكن العملية الروائية بتوسعها المستمر لتحليل أزمة هذه الفئات الوسطى، وعجزها عن إعادة تشكيل المجتمع المتخلف باتجاه الحداثة والتقدم، كان لا بد للكاتب من البحث عن سر فشلها، وهنا لا بد من بحث علاقاتها مع الشعب العامل، مادة هذه الفئات الوسطى البشرية، في إعادة تشكيل الحارة المتخلفة، أو عوامة الغياب.
لكن محفوظ نفسه لا يمتلك تجربة في التعامل مع العمال والفلاحين، فى مصانعهم وحقولهم، ولهذا فقد راح يحللهم من خلال شخوصهم التي دخلت الحارة. ولهذا فإن المادة البشرية المتنامية عنهم تأخذ في التوسع والتبدل، لكنهم يظلون كجمهور خلفي، أو كرمز للشعب أو التاريخ القديم، فلا يتدخلون كقوة اجتماعية فاعلة مغيرة لنماذج الفئات الوسطى الحائرة والمتصارعة.
إن اتساع وجودهم نلحظه في الثلاثية بدلاً من الروايات التاريخية التي كان فيها الشعب أشبه بالعدم، ثم يتنامى هذا الحضور في الروايات الكبيرة (الملحمية): أولاد حارتنا، والحرافيش.
ولكن تظهر موتيفات الحارة هنا لكى تعوض غياب التحليل الاجتماعي والاقتصادي في الأعمال السابقة، فتركيز محفوظ على مسألة (الوقف) فى هاتين الروايتين الملحميتين، لا يشير فقط إلى الجذور الاقتصادية للصراع الطبقي، بل أيضاً إلى عملية التضفير بين نضال الفئات الوسطى والجمهور الشعبى، الذي سرقت منه هذه الأوقاف ووضعت في خدمة الأقليات المستمرة في إنتاج وجودها عبر التاريخ.
وتطرح هذه الرواية معضلات التطور في المنطقة بشكل رمزي، وهنا نرى خروج محفوظ من المادة المصرية المحضة، ولكنه جعل تطور الوعي الدينى يمر من خلال عدسة هذه الحارة المصرية، وهكذا فإن المثقفين الذين يظهرون تباعاً: أدهم، وجبل، ورفاعة، وقاسم، وعرفه، يشكلون علاقة نضالية مع سكان الحارة الفقراء، ويقيمون تصحيحاً لوضع (الوقف) الذي احتكرته القلة الظالمة.
ولكن العلاقة التي يقيمونها مع الجمهور هي التي تتيح لبعضهم أن ينتصر، ويسحق (الفتوات)، ولا نعرف أسباب هذه التكرارية في البعث، أي في تكرار ظهور الشخصيات الفاعلة، وفي غياب الإرادة والفعل لدى الجمهور الذي يظل مادةً للفعل التاريخي لشخصيات الفئات الوسطى.
نقول الفئات الوسطى، على الرغم من كون الرواية تقوم بإعادة إنتاج للتاريخ الديني من خلال التمثل المجازي، والقناعي، والرمزي، فهي لا تناقشن فقط التاريخ الديني، بل أيضاً وجود الأديان في الحارة المصرية كذلك.
إن وجود الشخصيات المثقفة الفاعلة يجري في مشهدية الحارة، وبالتالي من أجل تغيير السلطة والإنتاج، الذي يأخذ سمة مجردة هي (الوقف).
والوقف والأحباس هي الأملاك التي تُوضع من قبل السابقين للصرف على الفقراء والمحتاجين، وهي بالتالي لا ترقى كرمز إلى مسألة قوى الأنتاج، بل هي ذاتها ملكيات تشير إلى عالم الملكية الإقطاعية الدينية، الذي هو عقبة أمام تطور العلاقات الاقتصادية الحديثة.
ولكن الرمز هنا يشير إلى الملكية العامة، بشكل مجرد، أي بشكل مُنتزع منه الجذور التاريخية، ليوضع في دورات تاريخية مجردة هي الأخرى، وإن أُلصق بها بعض السمات التاريخية الملموسة، لتعطي الشخصية الفنية مماثلةً خارجية ترميزية للشخصية الحقيقية التاريخية.
وهذه المماثلة الخارجية الترميزية أفقرت الشخصية الفنية، كما قامت بتكرارها، عبر تكرار أنماطها ومعاركها من أجل الوقف نفسه.
إن الوسط وهو الحارة لا يتغير، كما أن أهل الحارة، أي الشعب الذي كان يُفترض فيه تراكم هذه التجربة التاريخية الثرة، لا يتغير ويظل في موقعه التحتي، كمادة طينية تنتظر المثقف الفاعل.
وهكذا فإن هذه الرواية القائمة على التخطيطات الترميزية فقدت المادة الحية، ولعلها أظهرت إشكالية المنهج الفني القائم على التجريدات المطلقة الُمعممّة.
لدينا مجموعة مركبة من الملاحظات حول رواية «أولاد حارتنا»، فهنا لأول مرة في سياق الوعي الليبرالي المصري، المتحدر من سلامة موسى ولويس عوض، نجد عمليات التحليل للتاريخ الديني في المنطقة؛ وتاريخ الإسلام بصفة خاصة، ولأول مرة يجري اعتبار الإسلام ثورة تمثل استمرارية للنضال الثوري الذي قام به الأنبياء، وبالتالي حدثت انعطافة عن التفكير الليبرالي السابق، الذي وضع الميراث النضالي الديني في سلة التخلف.
لا شك أن هذه الانعطافة المحفوظية تشير إلى الريادة والطليعية اللتين قامت بهما الرواية الواقعية عند محفوظ في الحفر تحت أساسيات الحارة المصرية، ورؤية أنها جزء من تاريخ المنطقة.
كذلك فإن هذه الرؤية استطاعت النفاذ إلى عملية الصراع الاجتماعي الذي خاضته الأديان في بواكيرها ضد الاستغلال، ثم تمكن القوى المستغلة من إعادة الأمور إلى سابق عهدها .
لكن الرواية تعجز عن الإجابة عن أسئلة جوهرية في رؤية مسار هذه الأديان، وتلاوينها وتياراتها وتعبيرها عن مناطق وقوى معقدة، فتقوم بنسخها في «موتيفات» عامة، تجعلها هياكل شاحبة أمام الأصل الحي والغني بالألوان.
وهنا تكشفت طريقة محفوظ الروائية الترميزية التي تضع الأفكار فوق هياكل عظمية من الشخوص، حيث يقوم وعي |لقارىء بالمقارنة المستمرة بين الأصل والنسخة المحفوظية لتاريخ الأديان.
من جهة أخرى، تبين هذه الرواية دور المرجعية الغربية التحديثية ودورها المركزي في وعي نجيب محفوظ، فسلسلة الأديان تنتهي بـ«عرفة» الذي يرمز لدور العلم وتغلبه على دور الأديان، واعتباره البديل الحديث عنها، ولكنه لا يقوم بتغيير الحارة عبر الكفاح السلمي بل عبر العنف والديناميت، وهو ما يشير كذلك إلى ارتباط عرفة بالماركسية، وقيامها بالتغيير عبر الصراع المسلح ضد الأنظمة القديمة، لكن عرفة يخلي السبيل إلى رمز علمي وثوري آخر يعقد التصالح مع الميراث الديني ويقوم بالنضال السلمي؛ وهو ما يشير إلى نزعة الديمقراطية الاشتراكية التي انتهى إليها نجيب محفوظ وتياره الفكري التنويري في مصر، أي تيار سلامة موسى ولويس عوض. وهو تيار بقي ثقافياً نادراً في وسط تيارات الشمولية الاستبدادية العنيفة المنتشرة.
ولكن محفوظا تجاوز التيار «الفرعوني» العازل لتاريخ مصر عن المنطقة، رابطاً الأخيرة بتطور الفكر في العالم، مما يشير إلى تجاوز الرواية الواقعية المحفوظية الدوائر المغلقة الوطنية والإقليمية الضيقة، وإذا كان ذلك قد جرى بتخطيطية روائية ترميزية، إلا أن أسلوب الرواية النوعي، القائم على العرض المشوق، ولغة البساطة، قد جعل من التجاوز المحفوظي الفكري حدثاً واسع النطاق، مما فتح للوعي التنويري والنهضوي إمكانيات تجاوز التناقضات الفكرية المطلقة القائمة بين الأديان والحداثة، بين الماضي والمستقبل.
وهكذا فإن هذا التجاوز الذي تم بادوات الرواية، سوف يتشكل فى دوائر الوعي الأخرى عبر أدواتها الخاصة، وسيقوم مفكرون آخرون بوضع الحارة ليس كجسم جغرافي فقط، بل ايضاً كجسم تاريخي مركب، متعدد الحارات عبر المناطق والمراحل والقوى الاجتماعية، وعبر التراكم والتقاطع الفكريين، أي سيتحول إلى بحث اجتماعي وثقافي ولغوي واسع الاجتهادات.
لكن تبقى الخلاصة المحفوظية، هذا الحدس الفني العميق، عملية رائدة في تاريخ الوعي في المنطقة، وقد حاول عبر «أولاد حارتنا» أن يستعيد بساطة وحيوية وعظمة الكتب الدينية؛ التي يتجلى فيها الأسلوب السهل والعميق وذو الآثار التاريخية الكبرى.
إن المثقف التنويري عبر نجيب محفوظ وصل إلى الخلاصات الكبرى، ونستطيع أن نعده أحد «أولاد حارتنا» الذي واصل فعل الرسالات العظيمة بنكرانها لذاتها وتضحيتها ودفاعها عن الوقف المسروق ونضالها لتطوير حياة العاملين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انظر للكاتب عبـــــدالله خلــــــــيفة: نجيب محفوظ من الرواية التاريخية إلى الرواية الفلسفية ، 2007
‏‏عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تنوير وتحديث نجيب محفوظ


 

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 25, 2019 12:51
No comments have been added yet.