تاريخ الأوقاف العثمانية في القاهرة


أبرز ما نسوقه في الدلالة على أن الحكم العثماني للبلاد العربية لم يكن احتلالا هو النظر في طبيعة هذا الحكم وسياسة ولاته، لا سيما في الجانب الحضاري، وفي هذا المقال نسوق طرفا من الأوقاف التي أنشأها العثمانيون في مصر في نصف القرن الأول من الحكم العثماني، والذي هو أبلغ تعبير عن طبيعة العلاقة بين الدولة العثمانية وولاياتها العربية، وقد كان نصف القرن الأول هذا تحت حكم السلطانيْن: سليم الأول وسليمان القانوني.
ولطبيعة الموضوع واتساعه، سنقصر الحديث على الأوقاف التي أنشأها الولاة العثمانيون في القاهرة فحسب، بمعنى أننا لن نتناول ما أنشأته النخبة العثمانية الحاكمة من غير الولاة كالنواب وقادة الجند ورجال البلاط، كما لن نتناول إلا ما كان في القاهرة فحسب دون ما كان في بقية الأنحاء.
لقد زخرت القاهرة بالأوقاف في الحقبة العثمانية، وكان ذلك امتدادا لازدهار الأوقاف في العصرين الأيوبي والمملوكي، وفي هذا العصر الأخير بلغت القاهرة ذروتها السياسية والاقتصادية، وعلى غير ما شاع في الكتابات الاستشراقية والدراسات التاريخية القديمة من صورة انحدارٍ وضعفٍ هَوَتْ إليه القاهرة، فقد قدمت الدراسات الحديثة التي اعتمدت على الأرشيف والوثائق صورة أخرى أكثر وثوقية ومصداقية تثبت أن القاهرة واصلت نموها وازدهارها، هذا النمو والازدهار الذي كانت الأوقاف جزاء منه وسببا فيه في نفس الوقت.
عيَّن السلطان سليم أميرَ حلب خاير بك، وهو مملوكي انحاز إلى العثمانيين، ولاية مصر فكان أول ولاتها العثمانيين، ولما مات السلطان سليم بعد فتح مصر بثلاثة أعوام أقرَّه السلطان سليمان على الولاية كما هو، وظل بالمنصب إلى وفاته، فقضى في الولاية خمس سنواتوبعد وفاته وقع اضطراب لخمس سنوات في ولاية مصر، حيث فوجئ المماليك بأن السلطان سليمان قد عيَّن أميرا من رجاله وليس منهم فحاولوا التمرد عليه، ثم هُزِموا، ثم تولى مصر أحمد باشا وكان طموحا فنزع إلى الاستقلال بها فوقعت مواجهات مع العسكر انتهت بمقتله، ثم استقرت أحوال الولاية بمقدم إبراهيم باشا صهر السلطان، والذي رتب الأحوال في مصر ووضع نظامها الإداري ليبدأ فيها عهد استقرار طويل. لقد "كان معظم الحكام الذين أُرْسِلوا لمصر أقوياء وأكفاء، والمعطيات التاريخية القليلة المتاحة عنهم تتحدث عن أعمالهم أو عن الأثر الذي تركوه في نفوس رعاياهم"كان سليمان باشا الخادم أول ولاة مصر في هذه الحقبة، وظل فيها عشر سنوات (931 – 941هـ)، نجح خلالها في توطيد الأمن، وأولى اهتماما كبيرا بضبط الأمور فأعاد تعيين المساحة لضبط الأقاليم، كما اهتم كثيرا بالفعاليات التجارية في البحر الأحمر ومع الهند، وانبسط به أهل مصر في ولايته الأولىثم اسْتُدْعِيَ سليمان الخادم للمشاركة في حملة بغدان فصارت ولاية مصر إلى خسرو باشا، الذي أرسل خراج مصر اثني عشر حملا بدلا من ثمانية، فرأى سليمان أن هذه الزيادة جاءت بظلم الرعية، فعزله وأنفق الزيادة في وجوه الخيروبعد انتهاء الحملة تولى سليمان الخادم منصب الوزارة في الآستانة ثم أعيد مرة أخرى إلى مصر، وكانت ولايته هذه المرة أقل من سنتيْن (943 – 945هـ)، وعُرِفَ سليمان الخادم بكثرة العمارة في مصر وأشهر آثاره جامعه المعروف بجامع سارية الجبل في القلعة، أنشأه في ولايته الأولى (935هـ) وهو أول جامع يشيد على الطراز العثماني، "وله أوقاف دارّة وشعائره الإسلامية مقامة"ثم تولاها داود باشا لنحو اثني عشر عاما (945 - 956هـ)، وأثنى عليه المؤرخون بالحلم والكرم ومحبة العلماء والكتب والعدل والأمنثم صارت ولاية مصر إلى علي باشا السمين (علي باشا الوزير)، وكان حاكما عادلا صالحا محبا للعلماء والفقراء محسنا لهم، وقد عُرِف بالعمران أيضا، إذ رمَّم وبنى عدة مبانٍ في القاهرة كمقام السيدة زينب ومبان أخرى بفوة ووكالة عظيمة برشيد، وجدد قلعة العريشثم تولاها محمد باشا (961هـ) فكان على عكس سلفه محبا للخلاعة، قضى في مصر ثلاث سنوات (961 – 963هـ) فكرهه الناس وتكررت منه الشكاوى وزاد البلاء بأن وقع في زمنه غلاء عظيم وشَحَّتْ المحاصيل، فلما وصلت قبائحه إلى السلطان سليمان عزله ثم قتله خنقا (963هـ)ثم تولى إسكندر باشا فحكم ثلاث سنوات وأشهر (963 – 966هـ)، وكان من أهل الخير والصلاح، وأحبه الناس محبة عظيمة، وزاد النيل في ولايته فقلَّتْ الأسعار، وهو أشهر الولاة العثمانيين وأكثرهم عمارة في تلك الفترة، فهو صاحب الوقف الشهير المعروف بوقف إسكندر باشا، وفيه المدرسة والسبيل والتكية والمنشآت الكثيرةثم تولى على باشا الخادم (966هـ) لمدة ستة عشر شهرا، وكان من أهل الدين والخير، عادلا محبا للعلماء والفضلاء كثير الإحسان لهم، ولما مات لم يكن لديه إلا سبعة دنانير، وخمسة عشر قطعة من الملبسثم تولى مصطفى باشا شاهين (مصطفى الثاني) (967هـ) فقضى في الولاية ثلاث سنوات وأربعة أشهر، "فجعل الرشوة شعاره والظلم دثاره مع عدم إنصافه للرعية"، ومع ذلك فإنه كان من أصحاب العمارة حيث عمَّر الرُّبْع الذي بمصر القديمة، وجعله وقفا على أعمال خير، ولما وصلت أخبار ظلمه وجوره عزله السلطان سليمان عن مصرنتوقف هنا لأن المساحة المتاحة لا تسمح بأكثر من هذا، وفي المقال القادم إن شاء الله نعرض تحليلا لدوافع هذه الأوقاف وخصائصها، لكن القدر الذي يهمنا في هذا المقال وهو الشاهد منه أن هذا لم يكن بحال سلوك محتل للبلد كما فعلت الدول الأوروبية بعدها بثلاثة قرون في بلادنا، وهي القرون الثلاثة التي حُفِظَت فيها الديار العربية بالسيوف العثمانية.
نشر في مجلة المجتمع الكويتية، إبريل 2019

1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 08, 2019 10:23
No comments have been added yet.