كيف عاش اليهود في الدولة العثمانية
ذلك هو المقال الخامس من سلسلة المقالات المستمرة التي تقارن بين أوضاع اليهود في ظلال الأمة الإسلامية، وبين أوضاعهم التي عاشوها في ظلال الأمم الأخرى، وآثرنا أن تكون مادة المقالات جميعها من مؤرخين غربيين ومستشرقين كي تكون الحجة أبلغ. استعرضنا في المقال الأول نظرة عامة، وفي المقال الثاني تناولنا أحوالهم في عصر النبوة والخلافة الراشدة، وفي المقال الثالث تناولنا أحوالهم في عصر الدولتين الأموية والعباسية، وفي المقال الرابع أحوالهم في ظل الأندلس، ونتناول في هذه السطور أحوالهم في ظل الدولة العثمانية.
يسجل المستشرقان البريطانيان هاملتون جب وهارولد باون لحظة ما بعد فتح القسطنطينية، على هذا النحو: "سمح الفاتح لهم (اليهود) بالاستقرار في اسطنبول، وعيَّن الحاخام باشي، أو الحبر الأعظم، الذي مُنِح سلطات مشابهة لتلك التي مُنِحت للبطريرك، على جميع تابعيه في الإمبراطورية. تمتع الحاخام في الواقع بمكانة تفوقت على مكانة البطريرك وتلت مباشرة مرتبة رئيس العلماء، ومن خلال ذلك أصبح موقف اليهود أفضل بشكل عام"لهذا، وكما يقرر المستشرق اليهودي الصهيوني المتعصب برنارد لويس، فإن "معظم اليونانيين الذين كانوا غادروا المدينة قبيل الفتح قد عادوا إليها إلا القليل منهم، وجاء الآخرون من جميع أنحاء الإمبراطورية ليشاركوهم، وشكل هؤلاء جالية غنية تحت زعامة بطريركهم. وقد ازداد عدد اليهود أيضا، والذين كانوا موجودين من قبل في العاصمة البيزنطية"يؤكد على ذات هذا المعنى الباحثُ اليهوديُّ ميخائيل فينتر، فيقول: "وعلى الرغم من أن الإمبراطورية العثمانية كانت دولة إسلامية سنية متشددة مثلها مثل السلطة المملوكية إلا أنها كانت دولة مستنيرة عملت على التحلي بمفاهيم العصر. ولقد أدى الدمج بين النظرة الأساسية المتزنة للسلطان ورعاياه وبين المنظور العلمي العقائدي، إلى تحسن وضع اليهود في كافة أنحاء الإمبراطورية، فتقلد اليهود في مصر العثمانية بعض المناصب الرفيعة في وزارة الخزانة. وصحيحٌ أن وضع اليهود في فترة المماليك الشراكسة (1382 – 1517) كان مُعزَّزًا في الإدارة قياسا بفترة المماليك الأتراك (البحريين) (1250 – 1382)، وذلك على الرغم مما قلناه من قبل عن وضعهم العام في الدولة المملوكية، إلا أن الفترة العثمانية دفعت، على الأقل باليهود الذين عملوا في وزارة الخزانة إلى قمم لم يعرفوا لها مثيلا من قبل، أو على الأقل منذ الحكم الفاطمي في العصور الوسطى"وفي الحقيقة يمكن إجمال وضع اليهود في تلك الفترة بكلمة ج. ه. جانسن: "عاش اليهود تحت الحكم العثماني بسلام، لكنهم كانوا يلاقون دوما في أوروبا الشرقية تمييزا وكراهية قوية كانت تتفاقم من وقت لآخر لتنتهي بالمذابح"ولم يكن أطباء القصر مجرد أطباء، كما يشير برنارد لويس، فعلى سبيل المثال "كان مانويل برودو واحدا من بين الأطباء اليهود، ذوي الأصل الأوروبي، الذين عملوا في خدمة السلطان، وأصبحوا على قدر كبير من الأهمية حتى أن أرشيف القصر العثماني يدلنا على وجود طاقمين منفصلين من أطباء البلاط، أحدهما مسلم والآخر يهودي.... لقد لعب عدد من هؤلاء الأطباء دورا سياسيا مهما؛ فاقترابهم من رجال السلطان ووزرائه ومعرفتهم باللغات الأوروبية والأحوال الأوروبية جعلهم نافعين للحكام الأتراك والرسل الأجانب، وقد مكنهم ذلك من إحراز مناصب نفوذ وقوة، حتى إن بعضهم كان يُرسل إلى الخارج في مهمات دبلوماسية"وهكذا كان وجود الدولة العثمانية من أسباب السعد التاريخية الكبرى على اليهود، ليس فقط على مستوى إنقاذهم من الإبادة بل على مستوى إنعاش وضعهم الاقتصادي والاجتماعي، وهذا ما يقرره المستشرق الفرنسي المعروف أندريه ريمون بقوله:
"إن إنشاء الإمبراطورية العثمانية كان له بصفة عامة أثر إيجابي على مركز اليهود. وقد لجأ العديد من اليهود إلى البلاد الإسلامية للاحتماء بعد طردهم من إسبانيا أو هروبهم منها وذلك خلال الفترة بين عامي 1492م و 1496م ثم في القرن السادس عشر... وقد مارس اليهود في المدن العربية الكبيرة حيث تمركزت جاليتهم أنشطة متنوعة: من المعروف أن أشغال المعادن الثمينة وأعمال الصرافة هي مهنتهم التقليدية. وفي القاهرة كانت حارة اليهود تقع في قلب المدينة بجوار الصاغة، كما كان اليهود يعملون أيضا في دار سك النقود. وكانوا يقومون بدور نشيط في التجارة الخارجية إذ كانوا يصدورن المنتجات المحلية ويستوردون المنتجات الأوروبية، وذلك بفضل علاقاتهم مع اليهود الأوروبيين. وتمكنوا بفضل رؤوس الأموال التي جمعوها من القيام بأنشطة بنكية في البلاد التي كانت البنوك فيها غير متطورة"بقي لنا مقال سادس وأخير نختم به هذه السلسلة، فالله الموفق والمستعان.
نشر في مجلة المجتمع
Published on March 15, 2018 00:46
No comments have been added yet.