بين مطرقة العنف وسندان الإهمال..لهم الله!
نشرت جريدة الوطن يوم الأحد من هذا الأسبوع خبراً أليماً بعنوان: " نسيها السائق داخل الحافلة..فماتت"، جاء فيه أن الطالبة خولة آل محمد حسين (٧ سنوات) توفيت بعد أن نسيها سائق الحافلة التابعة لمدرستها في القطيف داخلها منذ الصباح ولعدة ساعات (إلى الساعة الحادية عشرة والربع صباحاً)، وفي الخبر أيضاً تصريح من مدير المدرسة تيسير الخنيزي بأن إدارة المدرسة اتصلت بأهل الطفلة "المتغيبة" ولكن لم يرد عليهم أحد، فتم اعتبار الطفلة متغيبة في ذلك اليوم! نحن هنا أمام مأساة رهيبة ترقى لمستوى الجريمة غير المتعمدة أو القتل الخطأ، وفي أحسن الأحوال الإهمال الشديد الذي نتج عنه وفاة طفلة بريئة كل ذنبها أنها كانت متجهة للمدرسة طلباً للعلم ذات صباح.
الخبر كان مقتطباً إلا أن فيه ما يكفي لنقوم بعملية "تشريح" للحادثة في محاولة لفهم ما حدث، ولتحميل كل طرف مسؤوليته، وأيضاً -وهو الأهم- منع عدم حصول ذلك مجدداً، فيكفينا ضحايا العنف الأسري من الأطفال الذي فشلنا في إنقاذهم حتى الآن. أضف إلى ذلك أنني تمكنت لحسن الحظ من التواصل مع والدة خولة طبيبة الأسنان الدكتورة حوراء آل درويش للحصول على نسختها من الرواية، والتي أكدت بأن الطفلة في الواقع ظلت حبيسة المركبة حتى موعد الإنصراف في الساعة الواحدة ظهراً وليس الحادية عشرة والربع.
ابتداء سبب الوفاة المذكور غير دقيق، فالمصدر المذكور من مستشفى القطيف المركزي لم يوضح سبب الوفاة تحديداً: هل هو الاختناق بسبب الحرارة ونقص الأكسجن؟ أم أنها أزمة قلبية سببها الخوف؟ أم مضاعفات مفاجئة لمرض تعاني منه الطفلة ابتداء (أمر تنفيه والدتها)؟ أم ماذا؟ حينما يتحدث مصدر طبي فنحن نتوقع أن نقرأ كلاما طبياً واضحاً لا عبارات فضفاضة حتى لو استدعى الأمر إجراء تشريح للجثة للحصول على هذه المعلومات.
كانت الطفلة تدرس في مدرسة أهلية (رند العالمية) متعاقدة مع سائق لتوصيل الطالبات، ومن يقرأ الخبر قد يلقي باللوم على السائق المهمل مباشرة، وهو أمر اختلف معه إلى حد ما. فوظيفة هذا الرجل هي "سائق حافلة طالبات"، وواجباته الوظيفية الأساسية هي أن يحفظ مواقع منازل هؤلاء الطالبات، وأن يكون هناك في الوقت المحدد لتوصيلهن من النقطة "أ" إلى النقطة "ب"، ذهاباً وإياباً، مع مراعاة الالتزام بقواعد المرور والسلامة والتي تتطلب التركيز أثناء القيادة وعدم الانشغال بغيرها. هذه حدود مسؤوليته، لا ليس مسؤولاً عن حفظ النظام بين الصغيرات ولا إعن حصاء الداخلات والخارجات، فهذه الأخيرة مسؤولية من تسمى بمشرفة أو معلمة الحافلة، والتي نستغرب غيابها هنا من مدرسة أهلية عالمية تفتخر بأنها الأولى التي تقدم مثل هذا التعليم في القطيف -حسبما جاء في موقعها الالكتروني-، أي أنها تدرس المناهج الأجنبية، وهذه المدارس غالباً رسومها غالية جداً، ألم تستطع المدرسة أن تخصص جزءاً من دخل هذه الرسوم لضمان سلامة الطالبات؟
إنه حتى من غير المريح التفكير بأن الطالبة التي يشاء حظها العاثر أن تكون آخر من سيتم إيصالها لبيتها بحكم موقعه الجغرافي ستمضي بعض الوقت كل يوم وحيدة في حافلة كبيرة مع رجل غريب عنها.
وحين تتغيب طالبة عن الدراسة فإنه -وفقاً لما قاله مدير المدرسة ومالكها- يتم الاتصال بأهلها وهذا جيد ومطلوب، ولكن هل هذا هو الإجراء الوحيد المتبع؟ إننا نتحدث عن طفلة كانت تدفع رسوماً إضافية لاستخدام حافلة المدرسة، وهذا من المؤكد أنه واضح في الكشوفات نفسها التي لجأت لها الإدارة للحصول على أرقام الهواتف، أفلم يخطر ببال أحد حين لم تنجح الخطوة الأولى (الاتصال) في الاطمئنان على سلامة الصغيرة في أن ينتقل للخطوة الثانية ويسأل السائق إن كان قد اصطحب طفلة من العنوان (س) هذا الصباح؟
وللأسف فمرة أخرى تقول والدة الطفلة (التي تم التواصل معها بعد كتابة المقال الأصلي) بأن المدرسة والتي لديها أرقام الوالد والوالدة والأجداد لم تقم فعلياً بالاتصال بهم وأن أجهزة جوالاتهم كانت مفتوحة ولم يجدوا أية اتصال، وهو أمر يمكن أن يكون لشركة الاتصالات كلمة الفصل فيه فيما لو قررت العائلة اتخاذ خطوات قانونية بهذا الخصوص، وحتى لو تنازلت الأسرة، فهناك حق عام للوطن الذي فقد إحدى زهراته نتيجة الإهمال.
هل كون المدرسة عالمية يعني أنها تدرس المناهج البريطانية أو الأمريكية أو الكندية وباللغة الانجليزية (يا للإبداع!) دون أن تتبنى المدرسة نفسها الفكر البريطاني أو الأمريكي أو الكندي حينما يتعلق الأمر بحسن الإدارة المدرسية، والاهتمام بسلامة الطلبة كهدف أول، والتفكير خارج الصندوق للمشكلات الطارئة؟
ثم أين دور وزارة التربية في هذا كله؟ هل هناك اشتراطات معينة على أساسها تسمح الوزارة للمدارس الأهلية بتقديم خدمة التوصيل؟ هل هناك سن معينة للسائق؟ هل تشترط وجود معلمة في الحافلة؟ هل هناك مواصفات للمركبات المستخدمة ومدى ملائمتها للقيام بهذه المهمة الحساسة؟ وماهي الاجراءات المتبعة في حالة غياب الطالب أو الطالبة؟ كم عدد محاولات الاتصال التي يجب إجراؤها مع العائلة قبل أن يتم التسليم بأن الطالب متغيب بلا عذر أو بسبب غير معروف؟ وماهي الخطوة التالية؟
كل ما ذُكر أعلاه يستحق المراجعة لمنع تكرار ما حدث، ولكنه للأسف لن يعيد خولة إلى الحياة، ولن يخفف عنها لحظات الرعب الأخيرة في حياتها القصيرة وهي سجينة حافلة مدرستها. ترى هل صرخت وبكت وخبطت بيديها زجاج النافذة طلباً للمساعدة في لحظات الصراع الأخيرة تشبثاً بالحياة؟ أم أن الموت باغتها كذئب وهي نائمة وفاقدة لوعيها، الله وحده يعلم، لكن ما نعرفه هو أنه ومنذ سنوات يصرخ الصغار في بلادي ويمدون أيديهم لنا من أجل أن نساعدهم ليكبروا ويعيشوا بأمن وسلام..ويتوسلون لنا لننقذهم من عائلة عنيفة أو مدرسة مهملة..لكننا لازلنا -بكل أسف- نخذلهم..خولة عصفورة ترفرف روحها الصغيرة الآن في الجنة ولا خوف عليها إن شاء الله، إنما الخوف على من ضيعوا الأمانة..رحم الله الصغيرة وربط على قلوب أهلها وإنا لله وإنا إليه راجعون.
مرام عبد الرحمن مكاوي's Blog
- مرام عبد الرحمن مكاوي's profile
- 36 followers

