بهذا شهد الغربيون.. الفتوح الإسلامية انطلاقة حضارية

لم تكن الفتوحات الإسلامية الخارقة السرعة مجرد هيمنة عسكرية، بل لقد كانت انطلاقة حضارية أيضا! وهو واحد من إعجازاتها التاريخية التي نناقشها في تلك السطور القادمة، وكنا قد تناولنا جوانب منه في ثلاث مقالات سابقة (الأول، الثاني، الثالث)، ولا زلنا عند منهجنا في تبيين إعجازات الفتوح الإسلامية من كلام المستشرقين والمؤرخين الغربيين وحدهم.
لقد تفنن المستشرق الإيطالي المعروف فرانشيسكو جابرييلي في وصف هذا حين قال: "بين تاريخ العرب المظلم قبل ظهور محمد، وبين توسعاتهم المثيرة للإعجاب، تقف حقيقة الإسلام العظيمة، بالعقيدة الجديدة"وبعبارة أحلى يردد إدوارد بروي هذا المعنى في قوله: "وانجلى غبار الفتح وصلصلة السلاح عن إمبراطورية جديدة ولا أوسع، وعن حضارة ولا أسطع، وعن مدنية ولا أروع، عوَّل عليها الغرب في تطوره الصاعد ورقيه البناء، بعد أن نفخ الإسلام في قسم موات من التراث الإنساني القديم روحا جديدة عادت معه إليه الحياة، فنبض وشعّ وسرى"ويفسر مؤلفا "التاريخ الكامل للعالم" هذا بأن غزوات العرب لم تكن مثل غزوات البرابرة الذين أرادوا دائما أن يكونوا صورة من المتفوقين عليهم حضاريا، يقولان: "لم يكن برابرة الشمال يمارسون إلا ديانات "ضعيفة". وإن كانوا قد ساهموا في انتحار الإمبراطورية، فإن فكرتهم الوحيدة كانت تتمثل في أن يصيروا روما (أو صينيين في الشرق). أما العرب فكان لهم دين "قوي"... ولم يكونوا يريدون أن يصيروا روما، إنما أرادوا صنع عالم جديد. إذن فقد كان عملهم أدوم"، ويضيفان: "كان الفرسان المسلمون يبدون أنهم لا يُقهرون، كما أنهم لم يكونوا يجلبون معهم الفوضى وإنما نظاما جديدا"ولقد تكرر أن استعصت أمم على تغيير لغاتها وثقافتها وحضارتها على غزاتها من قبل ثم لم تلبث أن اعتنقت الإسلام فاستبدلت بذلك كله حضارة الإسلام ولغته العربية، يقول الفيلسوف والمستشرق الفرنسي جوستاف لوبونمَثَلُ الفتوحات الإسلامية كاللمسة الساحرة التي تحيي الحضارات، هكذا قال مؤرخ الحضارة ول ديورانت: "استعادت مصر تحت حكم المسلمين مجدها الفرعوني؛ كما استعادت تونس ومرَّاكش بزعامة العرب ما كان لهما من حكومة منظمة؛ وازدهرت مدائن القيروان وبالرمو وفاس إلى حين، أما إسبانيا في عهد العرب فقد وصلت إلى الذروة في تاريخ الحضارة؛ ولما حكم المُغُل المسلمون بلاد الهند فيما بعد شادوا كما يشيد الجبابرة، وأبدعوا كما يبدع الصُيَّاغ"وحتى المناطق التي خرجت عن الدولة الإسلامية لا تزال آثار الإسلام فيها باقية شاهدة وإن تطاول العهد وتباعد الزمن، ولو أخذنا مثالا واحدا من الأندلس التي مضى على خروج الإسلام منها خمسة قرون فسنرى –كما يقول المستشرق الإسباني أميركو كاستروونختم هذا الإعجاز بمقولة المستشرق الفرنسي لويس سيديو"ما انفك المشرق يحترق منذ أوائل القرن الحادي عشر من الميلاد فأسفرت فتوح محمود الغزنوي، وغارة الأتراك السلجوقيين، والحروب الصليبية، وهدم السلطان الأيوبي الأول صلاح الدين لخلافة القاهرة (1171م)، وهدم الخان المغولي هولاكو لخلافة بغداد (1258) عن تغيير عميق في الوضع السياسي بآسيا. ما فتئ العلم يكون ثابت الخطوة مع ذلك، وما فتئ حَمَلَتُه محافظين على أمانته مع ذلك... فبينما كانت خلافة المشرق تفقد أجمل ولاياتها بالتتابع كان الغالبون يدينون بالطاعة لتفوق المغلوبين الثقافي؛ فيدرسون كتبهم ويستضيئون بنورهم... حقًّا إنه لمنظر رائع أن ترى انتصار سلطان حضارة العرب على همجية فاتحي الشمال أولئك الذين انقضوا على آسيا الغربية والجنوبية" هكذا ثبت، وبشهادة شاهد من أهلها، أن الفتوحات الإسلامية إنما كانت خيرا للبلاد ورفعة للناس وإنقاذا لهم من ظلمات الجهل والتخلف والتعصب والهمجية، وإدخالا لهم في مرحلة أخرى من الحضارة الزاهرة.

نشر في مدونات الجزيرة
فرانشيسكو جابرييلي، محمد والفتوحات الإسلامية، تعريب وتقديم وتعليق: د. عبد الجبار ناجي، ط1 (بغداد: المركز الأكاديمي للأبحاث، 2011م)، ص179. فرانشيسكو جابرييلي، الإسلام في عالم البحر المتوسط، ضمن "تراث الإسلام" بإشراف: شاخت وبوزوروث 1/85. إدوارد بروي، القرون الوسطى، ضمن "تاريخ الحضارات العام" بإشراف: موريس كروزيه، 3/109. جان كلود بارو وغيوم بيغو، التاريخ الكامل للعالم، ترجمة: لحسن عيساني، (دبي: مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، بيروت: دار الفارابي، 2008)، ص91، 92، 94. جوستاف لوبون (1841 - 1921م) مستشرق وفيلسوف وعالم اجتماع فرنسي مشهور، وهو صاحب نظرية "القطيع" الشهيرة في علم الاجتماع، وله اهتمام واسع بالحضارات وكتب عن حضارة الهند وحضارة العرب، وأرخ للثورة الفرنسية، وعرف في العالم الإسلامي بكتابه "حضارة العرب" الذي كان من أوائل الدراسات الغربية المنصفة المتوسعة في العصر الحديث. جوستاف لوبون، حضارة العرب، ترجمة: عادل زعيتر، (القاهرة: الهيئة العامة المصرية للكتاب، 2000م)، ص605. ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة: محمد بدران، (بيروت: دار الجيل، بدون تاريخ)، 13/261. أميركو كاسترو (1885 - 1972م)، من أبرز النقاد الإسبان ومن أبرز تلاميذ المستشرق الإسباني الكبير منديث بيدال، عمل بجامعات مدريد وبرنستون، وهو من المدرسة التي أنصفت التاريخ الإسلامي في إسبانيا، وينصب اهتمامه على اللغة والأدب والثقافة. أميركو كاسترو، إسبانيا في تاريخها: المسيحيون والمسلمون واليهود، ترجمة: علي إبراهيم منوفي، ط1 (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2003م). ص63. لويس سيديو (1808 - 1875م)، مستشرق ومحقق، ولد وتوفي بباريس، وكان مدرسا للتاريخ في كلية بوربون، أشهر نشراته كتاب "جامع المبادئ والغايات في الآلات الفلكية" لأبي الحسن علي المراكشي، مع ترجمة فرنسية، وأشهر مؤلفاته "تاريخ العرب العام". لويس سيديو، تاريخ العرب العام، ترجمة: عادل زعيتر، ط2 (القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، 1969م)، ص332، 352، 353.
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 20, 2017 04:55
No comments have been added yet.