إحدى الصديقات دايما بتشير وكأنها بتحرضني للكتابة عن قصة بنت الشاطئ وزوجها وأستاذها أمين الخولي. وهي بالفعل من القصص الكبرى في الحب والألفة والإنسانية والإجلال.. وعشان كده بكتب أهوه وللإشارة لهذه الرابطة الوثيقة من الحب والسكينة بين أستاذ وإنسان عظيم، وتلميذة نجيبة وأستاذة متفوقة فيما بعد. بنت الشاطئ خرجت من أسرة وتربية ريفية محافظة ورغم ذلك فهي ومنذ الصغر كانت لا تترك فرصة للتحرر من تلك القيم إلا واقتنصتها. فبداية من إصرارها على أن تكمل تعليمها حتى وصلت إلى الجامعة عبر تحديات بينها وبين أبيها، وبينها وبين الفقر، والأهم، بينها وبين نفسها، ومثابرتها في باب تحصيل العلم.. وكان نجاحها فى كل مرة يزيدها قوة وصلابة فى الدفاع عن حقها فى الاستمرار. وعلى حد ما تروى فى حكايتها، فقد كان محصولها فى العلم أكبر بكثير مما تجده فى مراحل التعليم التى مرت بها. حتى وصلت للجامعة وتخيلت فى البداية أن زادها من العلم سوف يجعلها تتفوق هنا وتبهر الأساتذة، ولعلها-بطيش الشباب المعتاد- تخيلت أنها تستطيع التفوق على أساتذة الجامعة! تقول فى قصة حياتها في كتاب "على الجسر": "هناك.. حيث أخذت مكانى فى قاعة الدرس بالجامعة، متحفزة للجولة الباقية لى على الطريق، ومستجمعة كل رصيدى المتضخم من زهو الطموح وإرادة التفوق، ومتأهبة لعرض بضاعتى التى تزودت بها من مدرستى الأولى، فى تحد واثق من النصر". ثم دخل الأستاذ أمين الخولى (وهذه كانت أول مرة يلتقيان) وكان أستاذا للدراسات القرآنية والبلاغة والنقد بكلية الآداب جامعة فؤاد (ويتسحق هذا الرجل المتنور المجدد العظيم كتابة مستقلة لدوره الإصلاحي الكبير وإيمانه ودفاعه عن حرية الاجتهاد وانفتاحه وثقافته، وفضله على انفتاح تلاميذه ومنهم الدكتور عائشة، وأيضا فضل طه حسين مشرفها وأستاذها في رسالتها عن أبي العلاء، بل وفضل أبي العلا نفسه!). وعرض الأستاذ أمين ،بوقاره المعتاد، على الطلبة مباحث المادة المقررة من باب التعارف، ولكل طالب أن يختار مبحثا منها لكى يكتب فيه فصلا ويعرضه للمناقشة. تقول:"وبادرت فأعلنت اختيارى للمبحث الأول فى نزول القرآن". فلم يلتفت الشيخ المجرب، رغم ما اشتهر عنه من صرامته، وأكمل المباحث على الطلبة..وسألهم كم يكفى كل واحد منكم من الوقت؟ فبادرت هى: يكفينى يوم أو بعض يوم!
الأستاذ أمين: فكرى مليا
عائشة: هل يكفى أن أراجع فى موضوعى، بكتاب "البرهان"..وكتابى "الاتقان، واللباب"..، مع الاستئناس بالسيرة الهشامية، وطبقات ابن سعد، وتفسير الطبرى؟
- كتاب منها يكفى، لو أنك عرفت حقا كيف تقرئين!
-ماذكرت هذه الكتب إلا لأنى قرأتها كلها..وإنما كان سؤالى عن مصادر أجنبية..
-لو أدركت الفرق بين المصادر والمراجع، لما تورطت فى مثل هذا السؤال المنكر!
ولحظتها "كنت أتمنى لو توقف الزمن، ليظل الأستاذ يتكلم، وأنا أصغى وأتعلم" " وإنجلى ما حسبته سرابا، فإذا الجامعة تعطينى من جديدها ما لم يخطر لى قط على بال" "آمنت من اللحظة الأولى للقائنا، أنه اللقاء الذى تقرر فى ضمير الغيب منذ خلقنا الله من نفس واحدة، وخلق منها زوجها".. "منذ ذلك اللقاء الأول، ارتَبطتُ به نفسيًّا وعقليًّا، وكأني قَطعتُ العمر كله أبحث عنه في متاهة الدنيا وخِضَم المجهول، ثم بمجرد أن لقيته لم أشغَل بالي بظروف وعوائق، قد تَحول دون قربي منه، فما كان يعنيني قط سوى أني لَقيته، وما عدا ذلك، ليس بذي بال!".
كتاب على الجسر، سيرة غنية لسيدة وإنسانة جادة ومجتهدة، وقصة حب وإيمان وإخلاص كبيرة ونادرة وملهمة، وككل كتابات بنت الشاطئ، بها من جماليات اللغة والصياغة ما يشبع كل متذوق ويفيض، ومنها ضمن الكتاب تحكي في فقرة جميلة عن أستاذها المجدد العظيم: وبدت الحياة لتلاميذه أقل جمالاً ونُضْرة من بعده، وأندَر شجاعة وحكمة، فكيف عساها تبدو لي؟! وقد كان هو نبْضَها الحي وسرَّها الأكبر، وكان هو الذي يُعطيها قيمة ومعنى، وعلى دَرْب وجودنا الواحد وحياتنا المشتركة سارت خطاه تشعُّ الدفء والنور، وتفجِّر ينابيع الحب والخير والجمال، وما تَصوَّرتُ قط أني أعيش بعده، بل كان اليقين أن نُتابِع رحلتنا معًا إلى الدار الآخرة، وأن هذا ليس على الله بمُستبعَد، ونحن من عباده الذين إذا أراد أن تتجلَّى فينا وبنا آيته الكبرى، فنمضي معًا كما تَجلَّت فينا ولنا في حياتنا الأولى، فكنا الواحد الذي لا يتعدَّد، والفرد الذي لا يتجزأ" وتختم تلك الرحلة وهي تقول: "ومضى العمر كله وما كففت عن التساؤل: أكان يمكن أن أضل طريقى إليه، فأعبر رحلة الحياة دون أن ألقاه؟ وحتى آخر العمر، لم يتخل عنى إيمانى بأنى ما سرت على دربى خطوة إلا لكى ألقاه..ثم مضى وبقيت..غير أنَّا يا حبيبي، ما نسينا وإلى لقياك تَحدونا خُطانا ورؤانا.
"إلى أن يحين الأجل سأبقى محكوما على بهذه الوقفة الحائرة على المعبر ضائعة بين حياة وموت، انتظر دورى فى اجتياز الشوط الباقى وأردد فى أثر الراحل المقيم عليك سلام الله إن تكن عبرت إلى الأخرى فنحن على الجسر".
Published on July 11, 2017 17:41