من رسائل الأبنودي

بعض من رسائل عبد الرحمن الأبنودي لزوجته الأولى المخرجة عطيات الأبنودي..
الرسالة الأولى
عطيات
لم أكن أريد أن أكتب لك هذه الأيام‮.. ‬ولكن خطابك حرك بي‮ ‬كل دوافع الكتابة،‮ ‬أنت في‮ ‬تجربة صعبة وقاسية وقلبي‮ ‬معك،‮ ‬ولكن ما حيلتنا إذا كانت هذه الطريقة الوحيدة لكي‮ ‬يشق الإنسان البسيط طريقه نحو نفسه ونحو أن‮ ‬يكون،‮ ‬تحملي‮.. ‬الجميع هنا‮ ‬يتوقع منك النجاح،‮ ‬والعالم لن‮ ‬يعطيك شيئاً‮.. ‬لأنه إذا كان بيت الإنسان فاقد القدرة على العطاء فما بالك بالأغراب،‮ ‬ولكننا جميعاً نعلم أنك قادرة على شق أصعب أنواع الصخور،‮ ‬نحن جميعاً خلفك‮.‬
طبعاً حالتي‮ ‬المالية سيئة ‬إن رصيدك في‮ ‬البنك‮ ‬4‮ ‬جنيهات فقط‮.. ‬المهم التليفون في‮ ‬البيت‮.. ‬والبيت بذلك دبت فيه الحياة‮.. ‬والقاهرة كلها سمعت حديثك في‮ ‬راديو لندن وإذاعة القارة‮ (‬قسم الاستماع الخارجي‮ ‬سجلوه‮) ‬حابعت لك رواية عبد الفتاح الجمل‮ «‬الخوف‮»‬،‮ ‬التي‮ ‬أشرفت على طباعتها قبل سفرك أول ما‮ ‬يكون في‮ ‬جيبي‮ ‬خمسين قرش..
أنا مش حزين ومش سعيد،‮ ‬جميع الأصدقاء بيهدوكي‮ ‬التحية
ودي‮ ‬تقريباً كل حاجة،‮ ‬أنا باكتب لك بسرعة وبطريقة بايخة،‮ ‬لكن تأكدي‮ ‬إني‮ ‬حاكتب لك كويس قريب،‮ ‬ومضطر أسيب باقي‮ ‬الصفحة فاضية أحسن من العك الفاضي‮.‬
أبنودي
الرسالة الثانية
عطيات
الكتابة ليكي‮ ‬محتاجة قدر كبير جداً من استقرار اليقين والنفس وهدوء البال،‮ ‬إن في‮ ‬رسالتك صفاءً عجيباً،‮ ‬تطابق الإنسان مع النفس والعودة للطفولة،كان كل ما‮ ‬يهمنا أن تكوني‮ ‬هناك،‮ ‬وآدي‮ ‬إنتي‮ ‬هناك،‮ ‬وبتتكلمي‮ ‬عن كوخ خشبي‮ ‬وصديقات‮ ‬غربة،‮ ‬وعز الدين نجيب والرصيف،‮ وعن داخل لندن وخارجها،‮ ‬وتعودين مرة أخرى تدعوني‮ ‬للاهتمام بصحتي‮ ‬ونفسي‮ ‬وصفاء قلبي،‮ ‬من أين أحصل أنا المختلف على هذا الصفاء،‮ ‬وكيف لي‮ ‬أن أعرف طريقه،‮ ‬لن نعود إلى الحديث في‮ ‬هذا الموضوع المكرر،‮ ‬مرة أخرى‮ (‬أنت اليقين وأنا التجربة‮).‬
وأخيراً انقشعت سحب الوحشة واختفت العفاريت من البيت،‮ ‬والإحساس بالضعف والوحدة من دونك،‮ ‬ورسالتك أدت هذا على خير وجه،‮ ‬إنه خطاب جيد،‮ ‬قوي،‮ ‬فيه قوة انزراعك في‮ ‬مكانك الجديد،‮ ‬ونافذة المستقبل الآخر،‮ ‬الشمس الخاصة،‮ ‬والطريق الخاص،‮ ‬ولكن كما‮ ‬يقول العم ناظم حكمت‮: ‬إن أجمل الأيام هي‮ ‬التي‮ ‬لم نعشها بعد،‮ ‬وأجمل الكلمات هي‮ ‬التي‮ ‬لم نقلها بعد‮. ‬
لست مرتبكاً بعدك،‮ ‬ولكنني‮ ‬حائر،‮ ‬فقد قطعوا حرارة التليفون وكادوا‮ ‬يقطعون عني‮ ‬المياه،‮ ‬بخلاف خطابات الضرائب المتلاحقة،‮ ‬وكان لابد من مواجهة كل هذه الأحداث،‮ ‬وأخيراً رن التليفون‮.‬
القاهرة كما هي،‮ ‬أنا كما أنا،‮ ‬كسرت فازة عند‮ «‬شويكار‮» ‬زوجة راجي‮ ‬بدون قصد وبهدلتني‮ ‬آخر بهدلة،‮ ‬واليوم كله أقضيه في‮ ‬دكانة الخال عبد الرازق في‮ ‬التحرير،
البنك أبلغني‮ ‬منذ خمسة أيام أنه أرسل لك مرتب نوفمبر،‮ ‬حسين مهران تايه،‮ ‬طبعاً الشقة موغلة في‮ ‬الوحشة وأحاول أحل المشكلة بأي‮ ‬شكل،‮ ‬هيه،‮ ‬أيام وتفوت‮ ‬يا عطا‮.‬
في‮ ‬الحقيقة مش عارف أكتب لك،‮ ‬طبعاً والدتك بتجيني‮ ‬كل‮ ‬يوم جمعة،‮ ‬وده كتير عليا،‮ ‬وغير كده كتير عليها،‮ ‬واديني‮ ‬بأحاول أغسل الطبق اللي‮ ‬باكل فيه،‮ ‬والبيت زفت بعد أحمد البواب ما طردوه وجابوا بواب لا‮ ‬يخدم إلا شقة صاحب البيت فقط،‮ ‬ولم أعطه راتباً حتى الآن،‮ ‬ملابسي‮ ‬نظيفة في‮ ‬حدود الممكن،‮ ‬المهم أن الأيام تسير،‮ ‬ولا أفكر كثيراً في‮ ‬السفر إلى تونس الآن،‮ ‬مصطفى درويش بخير وأبلغته رأيك في‮ ‬فيلم البرتقالة الآلية ومنتظر حديثك وبيستعجب،‮ ‬سهرت ليلة أمس عند الصديق الصحفي‮ ‬محمود عوض،‮ ‬وأخته زينب تسلم عليكي‮ ‬جداً،‮ ‬الغدا اليوم عند مصطفى درويش،‮ ‬الندوات والسفر للناس وإلقاء الشعر مستمر‮.‬
الصعيد كويس وأهلك كويسين،‮ ‬عموماً أرسل لك هذه الرسالة السريعة فقط للاطمئنان على أن كل شيء‮ ‬يسير ولأني‮ ‬لو قررت الكتابة لك فعلاً فلن أرسل،‮ ‬وإذاً فلتأت الكتابة لك تلقائية،‮ ‬حافظي‮ ‬على صحتك،‮ ‬ولتتفائلي‮ ‬حيث إن الغد في‮ ‬أسوأ حالاته سوف‮ ‬يكون أجمل من النهارده‮.‬
عمران الفلاح
القاهرة‮:‬15‮/‏‬10‮/‏‬1972
‮ ‬الرسالة الثانية
زوجتي
من بيتنا الهادئ الرقيق،‮ ‬بيتنا المفتوح الممتلئ ضوءاً أكتب‮.‬
أستمع إلى‮ «كونشيرتو» البيانو نمرة‮ ‬2‮ ‬لرحمانينوف لقد اكتشفته بين الأسطوانات في‮ ‬البيت،‮ ‬ومنذ ثلاث ليال وهو دائر،‮ ‬شيء مبهج حقاً،‮ ‬القلم بيدي،‮ ‬وسيجارة كليوباترا مصرية،‮ ‬يا إنجليزية،‮ ‬التليفون‮ ‬يحترم اللحظة بصمته‮.‬
عدت من ندوة شعرية في‮ ‬أسيوط أول أمس،‮ ‬كان شيئاً عامراً،‮ ‬جميل رمضان في‮ ‬هذه الناحية،‮ ‬وجئت لأكتب لك،‮ ‬غداً في‮ ‬مسطرد،‮ ‬وبعد‮ ‬غد في‮ ‬الإسماعيلية،‮ ‬أتحرك،‮ ‬فيجري‮ ‬الدم،‮ ‬ولكن‮ ‬يحاصرني‮ ‬إحساس باللا جدوى،‮ ‬الموت‮ ‬يشب فيّ‮ ‬مع كل نبات،‮ ‬يظل مع نجوم الليل،‮ ‬تغفو النجوم ولا‮ ‬يغفو،‮ ‬والحزن عار‮ ‬يملأ الفضاء بلحمه البض الفظيع‮.
الرسالة الثالثة
آه‮ ‬يا عطيات،‮ ‬أكل الأسد في‮ ‬السيرك محمد الحلو مدربه،‮ ‬حادث فظيع،‮ ‬ورمزي،‮ ‬آسف،‮ ‬ولكنها مصر،‮ ‬لا أكتب شيئاً،‮ ‬ليس إحساساً عبثياً،‮ ‬وإنما أريد أن أحرك قلمي‮ ‬في‮ ‬اتجاه آخر،‮ ‬قلمي‮ ‬مأزوم،‮ ‬لست بطيئاً،‮ ‬ولم أصل بعد لمشارف كهولة،‮ ‬ولكنني‮ ‬كالذي‮ ‬ينتظر معجزة،‮ ‬الفارق،‮ ‬أني‮ ‬أبحث عنها لأحققها،‮ ‬وهل هي‮ ‬في‮ ‬السفر،‮ ‬هل هي‮ ‬في‮ ‬أبنود؟ هي‮ ‬موجودة،‮ ‬لكن متى نبدأ البحث الجدي؟
من أنا؟ أنا إنسان‮ ‬يتمنى لك الغنى،‮ ‬وأن تغني‮ ‬باحتضان عالم ثري‮ ‬حر متسع مليء‮ ‬ينطح صخر الشواطئ القاسية الكاذبة،‮ ‬نحن نحتاج إلى جهاز استقبال آخر،‮ ‬نحتاج إلى أرشيف آخر،‮ ‬عمر مضى،‮ ‬آخر،‮ ‬هل فات الأوان،‮ ‬أعتقد لا،‮ ‬نحن نستطيع أن نصنع تجربة من نوع آخر،‮ ‬إنسانية وغنية وبسيطة وصادقة،‮ ‬نحن لم نعبر عن تواضعنا وإحساسنا ببساطة الغلب الشديد،‮ ‬وشرف العجز،‮ ‬كل ما أراه بدونك،‮ ‬يمر صوراً،‮ ‬كيف حدث هذا وبسبب إنسانيتي‮ ‬أم عظمتك،‮ ‬لا أدري،‮ ‬فقط اكتشفت أني‮ ‬أنا كويس،‮ ‬لا أريد أن أحكي‮ ‬لك عن الأصدقاء،‮ ‬فهم بخير ويدبون على الأرض‮.
الرسالة الرابعة
عطيات
‮ ‬أراك أحياناً تحت المطر والبرد،‮ ‬على فكرة نسيتي‮ ‬الشمسية،‮ ‬أتخيلك،‮ ‬فتقتربي‮ ‬من قلبي‮ ‬بسرعة شديدة،‮ ‬ليست المسألة قضية بعد أو ابتعاد،‮ ‬وإنما هذا الفراغ‮ ‬الشامل،‮ ‬لم أتعلم حتى الآن سوى التعامل مع المكوجي‮ ‬وتغيير أنبوبة البوتاجاز قبل انتهائها بأسبوع،‮ ‬وغسل الأطباق والأكواب،‮ ‬الغبار بدأ‮ ‬يغطي‮ ‬الأشياء،‮ ‬أمك أصبحت كبيرة في‮ ‬السن بخلاف ان الدنيا رمضان،‮ ‬إن مصر تعيش الآن رمضان حقيقياً،‮ ‬بكل ما‮ ‬يعنيه الشهر الكريم من قدومه،‮ ‬الإذاعة،‮ ‬التلفزيون،‮ ‬المجلات،‮ ‬كرنفال مدهش‮.‬
المخلص
عبد الرحمن
القاهرة لندن
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 27, 2017 14:08
No comments have been added yet.