نجوم أم دعاة؟

علاقة الدعوة والدعاة بوسائل الإعلام الحديثة من إذاعة وتلفزيون وقنوات فضائية لم تكن دائماً علاقة ود وصفاء وقبول واستغلال إيجابي، وإنما كانت البدايات – لاسيما في السعودية- عسيرة بعض الشيء. كان هناك توجس من "الرادو" أول الأمر، واعتبره بعضهم من أعمال الشيطان. وتقول الروايات إن هذه الريبة لم تنته إلا حين أسمع الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- وفداً من المتدينين آيات من الذكر الحكيم عبر هذا الجهاز العجيب، فاطمأن هؤلاء لأن الشيطان لا يمكن أن يقرأ القرآن!




ومع ظهور الإذاعة السعودية وبرامجها المحلية، كان للجانب الديني حصة معتبرة من البرامج، سواء عبر بث تلاوات قرآنية مختلفة لخيرة القرآء، أو الأدعية والأحاديث النبوية الشريفة، ثم ظهرت برامج الوعظ والإفتاء والتي تمكن فيها الشيخ أو الداعية من التواصل مع جمهوره ممن يكتبون لهذه البرامج أو يتصلون بها. وكان لهذه البرامج الدينية التي تبث عبر الأثير جمهور كبير، ومازلت أذكر سماعي صباحاً لصوت المذياع العالي يبث برنامج "نور على الدرب" الذي كانت تتابعه جدتي رحمها الله.


بعد الراديو ظهر التلفزيون، وكانت تلك حكاية أخرى ومعركة من نوع آخر، لا أريد أن أطيل في ذكرها، ولكن لنقل في عجالة إن محافظة التلفزيون السعودي الواضحة بشكل كبير بعد أحداث الحرم المكي في عام ١٤٠٠هجرية قد أوجدت له قبولاً لدى الكثيرين ممن مانعوا وجوده سابقاً، وصارت القناة الأولى تحديداً تبث العديد من البرامج الدعوية والدينية وبرامج الإفتاء وغيرها، والتي لم يتردد الدعاة والمشائخ مرة أخرى من المشاركة فيها، ولعل من أروع من قدمهم التلفزيون السعودي الشيخ الجليل علي الطنطاوي يرحمه الله.


وبالتزامن مع التلفزيون، تطورت أجهزة التسجيل الصوتية، فاكتسحت الأشرطة الدينية والدعوية والأناشيد هذا المجال الإعلامي بامتياز، مثلها مثل أشرطة أغاني طلال مداح (رحمه الله) ومحمد عبده، مع الفارق بأن هذه الأشرطة لم يكن يقبل أصحابها بأن تختلط مع أشرطة الغناء، فكانت هناك مكتبات خاصة ومنافذ محددة لبيع الشريط الإسلامي وتوزيعه. ولعل مما ميز هذه المرحلة أنه بخلاف الراديو والتلفزيون، وهما أداتان إعلاميتان تسيطر عليهما الدولة بشكل كلي، فإن شريط "الكاسيت" كان يتمتع بهامش حرية أكبر ومستوى رقابة أقل، مما مكن من ظهور الشريط الديني – السياسي كذلك.


وبعد ذلك كان الدش! وما أدراك ما الدش؟! كنت في المرحلة المتوسطة آنذاك، ومنذ ذلك الوقت وحتى نهاية المرحلة الثانوية، كان عليَّ أن استمع لعشرات المحاضرات عن خطر وحُرمانية هذا الجهاز الشرير. بل وأذكر تماماً أنها كانت هناك مطويات توزع علينا وأخرى تُعلق على أبواب الفصول تتحدث عن "حكم من مات وورث لأهله دشاً"، وهي معركة استمرت لوقت غير قصير، يذكرها كل من عايش تلك المرحلة.


ثم حصل بعد ذلك انقلاب، لا أدري متى ولا كيف ولا على أي أساس، ولكن فجأة وجدنا أغلب مشائخنا ودعاتنا على الفضائيات المختلفة، يحدثون ويدعون ويفتون، وليس على أية فضائيات، فأنا قطعاً لا أتحدث هنا عن قناة المجد أو إقرأ أو الرسالة أو حتى قنوات دول الخليج المحافظة مثل الكويت والبحرين وقطر، إنما على قنوات من عينة ام بي سي وإل بي سي والمستقبل وغيرها، ممن كان يصيبها سابقاً أقوى استنكارهم! وقيل لنا وقتها إن الدنيا تغيرت، وإن هولاء الأفاضل وجدوا أن الأطباق الفضائية وقنواتها باتت واقعاً لا يمكن تجاهله. وكما يقول المثل الإنجليزي: "إذا لم تستطع أن تغلبهم فانضم إليهم.". فبدلاً من ترك هذا الفضاء فارغاً ليتم حشوه بكل غث، لم لا تكون هناك بصمة واضحة، لم لا نقدم بديلاً نظيفاً للشباب والأسر في القنوات إياها؟ وهو أمر لا اعتراض عليه إن صلحت النيات. وبالفعل ظهرالعديد من البرامج الإسلامية القيمة، وصار لها متابعون حتى من بين شريحة لم تكن لتفكر في توجيه جهاز التحكم نحو قناة إسلامية.


ولو أن الأمر توقف عند هذا الحد لما تذمر أحد، لكن المشكلة هي أن بعض الدعاة قد نسوا مهتهم الأساسية: الدعوة، ونسوا السبب الرئيس لاستخدام وسائل الإعلام: الدعوة، وصار بعضهم يتعامل مع الناس على أنهم "جمهور" ومع نفسه وكأنه "نجم" ومع برنامجه وكأنه "استعراض" أو "شو". ابتداء من طريقة الدعاية لهذا البرنامج الديني، ومن ثم طريقة تقديمه وحتى ديكورالأستديو. وأصبح الدعاة الجدد ينافسون المطربين وغيرهم في عدد الأشرطة والسيديهات والكتب التي تبيع إنتاجاتهم الأخرى. وصرت تفتح التلفاز أو الراديو فتجد برنامج الداعية النجم، والأمر نفسه مع إذاعات الإف إم، ثم تذهب للمكتبة فتطالعك كتبه وأشرطته (وكلها تحمل صورته التي تم التقاطها بعناية على طريقة صور النجوم)، ثم تدخل الإنترنت فتشاهد أيضاً دعايات لموقعه، وستزين صورته هذا الموقع أيضاً، وما دمنا في زمن فيسبوك وتوتير فستجدهم هناك أيضاً يمارسون ما يمارسونه في وسائل الإعلام الأخرى.


وكان من الطبيعي أن يؤثر ذلك على الطريقة التي يرى فيها المتلقي هذا الداعية/النجم، فلم يعد يستشعر معه، شريحة من المتلقين على الأقل، بأنه أمام ذلك الشخص الذي يكلمهم بروح الآخرة ويدعوهم إلى سبيل الله تعالى. ولذلك حين يظهر أحدهم بشكل مخالف، فإنه يعتبر استثناءً مختلفاً يستحق الاحتفاء، والشيخ الكويتي الدكتور محمد العوضي يعد واحداً من هؤلاء النوادر.


د.محمد العوضي

د.محمد العوضي


فالرجل الذي تابعناه منذ أن كنا على صفوف الدراسة على قناة الكويت أو على القنوات المختلفة التي تستضيفه مازال بسيطاً في مظهره وأسلوبه وطريقة تقديمه وحتى في ديكور برنامجه.. فسر التميز في شخصيته الرائعة وجمال حضوره، بحيث لا تشعر معه أنك أمام شخص يحاول تسويق نفسه كما يفعل الآخرون بل تقديم فكره العميق ومشاهداته المتميزة عن أحوال المسلمين حول العالم، ولا أعتقد أن هناك برنامجا ثقافيا عربيا يمنحك من المتعة والفائدة ما يمنحه لنا برنامجه (بيني وبينكم) الذي يبث في رمضان من كل عام. فالشيخ العوضي نجم حقيقي ولكن الفرق بينه وبين الآخرين أنه نجم لم ينس يوماً أنه داعية وليس داعية تطور ليصبح نجماً فلا أدرك هذه ولا تلك.



المقال في الوطن

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 24, 2011 13:21
No comments have been added yet.


مرام عبد الرحمن مكاوي's Blog

مرام عبد الرحمن مكاوي
مرام عبد الرحمن مكاوي isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow مرام عبد الرحمن مكاوي's blog with rss.