الولي الـمُـــدلّل: حسان سليم اليعقوبي (1): الــــــوالد وما ولَـــــد. تأليف: إلياس بلكا.

الولي الـمُـــدلّل:      حسان سليم اليعقوبي (1): الــــــوالد وما ولَـــــد
تأليف: إلياس بلكا.
الشيخ سليم على يمين الصورة مع صديقه شكيب أرسلان، ووراءهما ابنه رشاد.

في يوم من أيام شتاء 2004، خرجت من بيتي وركبت السيارة، وقبل أن أنطلق بها رنّ هاتف صديقي من إسبانيا بصوت منكسر حزين.. فعرفتُ أن الدكتور حسان إلى رحمة الله، وأنه في الغالب بفاس. كان كذلك شعوري، خاصة أن صديقه الأكبر الأستاذ محمد بنبراهيم كان أخبرني قبلها أن حسّانا طلب منه أن يُجهّز له قبرا وأنه سيموت بالمغرب. ذهبتُ مسرعا لمنزل المرحوم بنبراهيم، فقيل لي إنهم ذهبوا لمقبرة باب الفتوح.. هناك أدركت جنازته. وكان هذا "كلّ حظي" من حسان رحمه الله.ما الذي جاء بالدكتور حسان من ولاية كولورادو بأمريكا ليموت ويـُدفن هنا بفاس؟ بالسّفح  المقابل لباب الفتوح إلى جوار الشيخ الأكبر عبد العزيز الدباغ، بالمقبرة التي احتضنتْ منذ قرون متتابعة عددا هائلا من العلماء والأولياء والصالحين.. لدرجة أنها تُعرف في كتب التاريخ بمطرح "الجِـلَّـة" (أي الأجلاّء)، ثم حرّفها العامّة إلى  مقبرة "الجّنـَّة"؟سنحكي القصة من أولـّــها... مِن الوالد وما ولد.فالوالد أبو حسان هو: الشيخ سليم بن الشيخ حسن اليعقوبي، وكنيته أبو الإقبال.  شاعر، ولغوي، وصحافي، وخطيب. أبناؤه: خلف رحمه الله سبعة أبناء، من الذكور أربعة، وهم: حسن أبو المحاسن، وهو أكبر أنجاله، عاش بمصر ثم بعَمّان بالأردن، وسالم، وحسّان، ورشاد. ومن الإناث ثلاث سيدات: تيسير وإحسان ويسرى.وقد عاش أكثر أبناء صاحبنا بمصر واستقروا بها، كرشاد وأبناؤه، بل بعضهم وُلد بها بعد سنة 1948، وفيهم وفي أبنائهم أيضا من تعلّم تعليماً عالياً في تخصصات مختلفة، لذلك بعضهم يشتغل الآن في بلدان عربية وغربية متنوعة. فهذه الأسرة الكريمة عانت وتعاني من التشتت والتفرّق الذي فرضه الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين فهجّرَ أكثر أهلها، لذلك عرّف الأستاذ حسن نفسه على غلاف كتابٍ لأبيه بكونه: "أحد المهاجرين الفلسطينيين". ولادته ودراسته: نعود للسيد الوالد، فهو من مواليد مدينة اللدّ عام 1297هـ، الموافق لسنة 1880.تعلم أولا على يد أبيه، ثم كانت دراسته الابتدائية والمتوسطة باللد نفسها. بعدها أرسله والده الشيخ حسن إلى الجامع الأزهر بالقاهرة، فأمضى برواق الشوام اثني عشر عاماً. واشتهر أثناءها بمقدرته الهائلة على حفظ روائع الشعر العربي ومطولاته، قديمِه وحديثه، لدرجة أنه لم يتفوّق عليه أحد في هذا المضمار. فشكّل هذا المحفوظ أساس موهبته الشعرية التي تفتقتْ لاحقا.  عمله: ثم عاد الشاب سليم إلى أرضه عام 1904، فعمِل مدرسا للعلوم الشرعية والأدب في سوريا، ثم مدرسا في جامع مدينة يافا الفلسطينية، ثم مفتيا ليافا أيضا سنة 1932.. كما تولـّى عددا من الوظائف الرسمية بفلسطين، آخرها الإمامة والخطابة والتدريس في مسجد "حسن بك" في حي المنشية بالمدينة نفسها. السياسة: كان للشيخ سليم اهتمام كبير بالسياسة والشأن العام، فهذا جانب مهم ومستمر في شخصيته. ويمكن الحديث هنا عن مرحلتين:1-الحكم العثماني لفلسطين والشام، وذلك إلى غاية الحرب العالمية الأولى:عاصر الشيخ نهاية هذه المرحلة، ورأى –كغيره الكثير من العرب- أن الإخلاص للدولة العثمانية والتعاون معها واجب، رغم كلّ أوجه القصور فيها، إذ كانت الأطماع الأوربية في البلاد العربية والإسلامية، وعلى رأسها فلسطين، بادية للعيان ومعروفة لدى الخاص والعام.. وهو هنا يختلف عن القوميين العرب الذين ناصبوا الأتراك العداء، فإجمالا ينتمي الشيخ بفكره إلى ما يسمى بــ"الجامعة الاسلامية."لذلك وقف أبو الإقبال ضد ما سُمي بـ"الثورة العربية الكبرى" التي قادها الشريف حسين من مكة ضد الدولة العثمانية، وأفتى بأنها خروج محرّم. كما اشترك في البعثة العلمية التي شكـّلها جمال باشا، فخرجت من دمشق لزيارة إسطنبول دار الخلافة الاسلامية سنة 1916، حيث التقوا بالخليفة.  2-الانتداب البريطاني على فلسطين:لكن بعد الحرب وسقوط المشرق بيد الإنجليز والفرنسيين، انضم الشيخ إلى دعوة الاستقلال والوحدة العربية، فناصرها بفكره وقلمه، ووقف بقوة ضد الاحتلال البريطاني وبدايات التدخل الصهيوني ببلده. فاضطهده البريطانيون، ثم نفوه إلى الإسكندرية بمصر حيث وُضِع بسجن سيدي بشير.وحين أطلقوا سراحه، عاد إلى يافا، حيث كان يمضي أكثر أوقاته بمسجدها "حسن بك الجابي" القريب من بيته: يخطب ويعظ ويفتي.. ويُدرس علوم الدين –من قرآن وحديث- وفنون اللغة العربية.. ولا يفوته أيضا أن يوعِي الناس بحقيقة الأوضاع السياسية بالمنطقة. فتجمّع حوله أهل يافا ومثقفيها من كل الطبقات. اليعاقبة: والآن ما قصة اسم اليعقوبي؟ يوجد إجماع بين أهل التاريخ، وتعضده الرواية الشفوية أيضا عند العائلة، على الأصل المغربي لأسرة: اليعقوبي، وأنها هاجرت إلى الشام، وفرعٌ  منها إلى فلسطين.لكن من غير الواضح ما هو المسار الجغرافي الذي أخذته هجرة الأسرة إلى الشام. لذلك يحتاج موضوع العائلات الشامية ذات الأصول المغربية إلى بحثٍ، لكثرتها. عموما يمكن القول إن جدّ اليعقوبيين هو محمد الحسن ابن محمد العربي بن أحمد محيي الدين ابن بابا حبيب بن الخضر بن عبد القادر بن مزيان بن محمد الحسن بن محمد الصغير بن إبراهيم بن يحيى بن أحمد بن صالح بن إدريس ابن السيد يعقوب.فأما محمد الحسن فقد قدِم إلى دمشق مهاجرا من بلدة آيت سعادة من جبال تزي وزُّو القبايلية الأمازيغية (وهي جبال الزواوة، 100 كلم شرق العاصمة الجزائرية حاليا)، وذلك  بعد سنة 1256هـ/ 1840م، إثر انهيار المقاومة الجزائرية، خاصة للأمير عبد القادر ، بصحبة الشيخين محمد المبارك الكبير ومحمد المهدي السكلاوي، ومعهم مئات المهاجرين. وسكن في حي السويقة قرب باب المصلى بدمشق.وأما الشيخ يعقوب فهو الولي الصالح الذي عاش بقرية "ارشيدة" وتوفي بها في بدايات القرن التاسع الهجري، وضريحه قائم بها إلى الآن معروف.  فهو يعقوب بن عبد الواحد، والذي هو بدوره من ذرية الشيخ أبي عبد الله محمد أمغار الكبير - من أهل القرن السادس، دفين مدينة الجديدة- الذي ينتهي نسبه إلى عبـد الله  بن المولى إدريس الأنور. لذلك يعتبر اليعاقبة من الأشراف.وهذه البلدة "ارشيدة" يسميها ابن جزي الكلبي "دخيسة الشرفاء"، وتقع حاليا ضمن دائرة جرسيف بإقليم تازة. يبقى سؤال: هل آباء الشيخ سليم انتقلوا إلى الشام ضمن هذه الرحلة.. أم أنهم جاؤوا مباشرة من المغرب في رحلة أخرى وفي زمن قريب من رحلة محمد الحسن؟إذن هذه الأسرة انتقلتْ من المغرب أو الجزائر إلى دمشق. وجزء منها –بما فيهم أسرة الشيخ سليم الذي نكتب عنه هذا المقال-  انتقلت إلى جنوب شرقي الأردن عند قبيلة بني صخر الجذامية، ثم منها إلى مدينة المجدل، وهم معظم اليعقوبيين الفلسطينيين، ومنهم –كوالد صاحبنا سليم- من سكن اللدّ، ثم ممّن سكن اللد مَن رحل منها إلى رام الله. أما حاليا فغالب اليعقوبيين بفلسطين يعيشون بقطاع غزة. ومما يؤكد هذا أيضا ما كتبه الدكتور علي يوسف اليعقوبي من أنّ جذور عائلة اليعقوبي بالمجدل تعود إلى مدينة نوى القريبة من دمشق (85 كم).
والمجدل (أو عسقلان) مدينة بحرية على بعد 65 كم غرب القدس. وهي إحدى المدن التي طُرد أهلها، كما طرد الكثير من سكان قضاء يافا، بعد قيام الدولة الصهيونية.فكأن الله سبحانه كتب على هذه الأسرة الهجرة المستمرة إلى اليوم.وقد كان بالأسرة علماء وفقهاء وخطباء ومشايخ التصوف. فمنهم بالشام الشيخ المعروف محمد أبو الهدى اليعقوبي، وهو من علماء سوريا حاليا، إضافة لوالده الشيخ إبراهيم العالِم المحدث، وعددٍ من أعمامه.ومنهم بفلسطين الشيخ سعيد مصطفي اليعقوبي، الأزهري رئيس جمعية الوعظ الإسلامية عام 1934.كما يحتوي تاريخ الأسرة على عدد من الشهداء، منهم محمد مصطفي الشيخ سعيد اليعقوبي مات بالمجدل أثناء حرب 1948م.ومنهم الشهيد يعقوب اليعقوبي، من مدينة رفح بفلسطين. وقد هُجّرت عائلته من  المجدل عام 1948، وعاشت بمدينة رفح. التحق بـ "قوات العاصفة" التابعة لحركة فتح. وتخرّج من المدرسة الشرعية الثانوية بالقدس عام 1971. ثم عُين إماماً وواعظاً بمسجد صلاح الدين بالقدس أيضا. توفي رحمه الله بالحرب اللبنانية غدرا سنة 1976.ومن أواخر شهداء العائلة أحمد محمد خليل اليعقوبي، من مقاتلي حركة القسّام الحمساوية، في مواجهة الهجمة الصهيونية على رفح سنة 2004.ومن أفراد العائلة ايضا كثير ممّن تعلم تعليما عاليا في مختلف العلوم الشرعية والعلمية، منهم الدكتور علي يوسف اليعقوبي المذكور، المتخصص في النقد العربي ونائب رئيس جامعة الأقصى بغزة حاليا، لكن معظمهم في الخارج.وآل اليعقوبي بطبيعة الحال موجودون بكثرة في المغرب، ثم بالجزائر وتونس، وبدرجة أقلّ بمصر والخليج.هكذا رحل أحدُ أجداد الدكتور حسان من المغرب إلى الشام.. ثم بالتفاف كبير ومعقـّد عاد الحفيد حسان ليدفن بأرض جدّه باني مدينة فاس.. بينما دُفن أبوه سليم بمكة.. رحم الله الجميع.يتبع..

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 31, 2017 15:01
No comments have been added yet.


إلياس بلكا's Blog

إلياس بلكا
إلياس بلكا isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow إلياس بلكا's blog with rss.