كيف حوّل محمد علي باشا إسرائيل من حلم إلى مشروع

هذا هو المقال الثالث الذي نفتح فيه هذا الباب غير المشتهر عن دور محمد علي باشا في تأسيس دولة إسرائيل، وقد التزمنا فيه بأمريْن: ألا ننقل معلومة بغير مصدر، وألا ننقل عن مصدر له موقف سلبي من محمد علي، فكل مصادر هذه الدراسة إما كتب مؤرخي بلاطه وبلاط أسرته الموضوعة أساسا لمدحه والثناء عليه، وإما وثائق دولته المحفوظة بالأرشيف، وإما مصادر أجنبية معجبة بمحمد علي.
وضعنا في المقال الأولتمهيدا للموضوع وعلاقة محمد علي القديمة بالأجانب -ومنهم اليهود- والاستكثار بهم في أعمال الدولة، وذكرنا في المقال الثانيكيف بذل محمد علي جهده لجذب الهجرة اليهودية إلى فلسطين وأسس لهم اقتصاديا وقانونيا –وبالتالي: اجتماعيا- ما يشجعهم على البقاء فيها.
والآن نفتح بابا آخر، وهو التسهيلات السياسية والاقتصادية والقانونية التي قدمها محمد علي لترسيخ الوجود الأجنبي في الشام مما جعل فكرة الدولة اليهودية تنتقل من أحلام المتدينين والدراويش والأدباء اليهود لتصير مشروعا سياسيا تتناوله أروقة الساسة والمفكرين والصحافة.
ثانيا: تقديم التسهيلات للأجانب
كان من أول ما فعله إبراهيم في الشام أن "أذن للتجار الأجانب بأن يبتاعوا ويبيعوا في داخل البلاد، وقد كان محظورا عليهم الإتجار مع غير بعض المواني في الساحل"ويروي داود بركات، في كتابه الذي ألفه لمدح إبراهيم باشا، أن الحكومة المصرية "سَهَّلت قدوم الإفرنج من مرسلين وتجار وسواهم، فأنشأوا المدارس"وبعد أن كانت الوظائف العليا الحساسة محظورة على غير المسلمين، قلدت الحكومة المصرية "من المسيحيين الوطنيين والإفرنج الوظائف في الجيش والدولة، ومنحتهم الرتب والألقاب"وصاروا يطالبون بالترخيص بمشروعات اقتصادية، وقد سُمِح للحاخام الإسرائيلي بإنشاء طاحون كبير، كما سُمِح لليهود بتعليم الجنود صنع العباءاتثالثا: إنشاء مشاريع لترسيخ النفوذ الأجنبي
لا شك أن المآل الطبيعي لانفتاح دولة محمد علي على الأجانب ثم حربها الدائمة مع العثمانيين كان يميل بالاقتصاد والمشاريع في منطقة الشام إلى كفة الأجانب، وفي الوقت الذي سمح إبراهيم باشا بكل ما سبق من تسهيلات للأجانب، فإنه اتخذ قرارا بمنع السفن التركية من النزول بمواني الشام، ومنع القوافل الآتية من الأناضول من دخول الشام تخوفا من أنها تحمل البارود مددا للثائرين عليه، مما سبب أزمة تجارية شديدةلكن المحاولة الأخطر كانت مع رجل المال اليهودي الأشهر موسى مونتفيوري، الذي استقبله محمد علي بالبشاشة والترحاب في القاهرة، وهذا الرجل هو صاحب أهم  وأقوى محاولة لتوطين اليهود في فلسطين قبل هرتزل، وكان له طموح واسع ومعلنكذلك أراد مونتفيوي تأسيس عدد من البنوك في سلطان محمد علي كجزء من خطته لإعادة توطين اليهود في فلسطينكان غرض مونتفيوري "توفير وضع متميز لليهود وقدر كبير من الاستقلال الذاتي وتنمية المشاريع الزراعية والصناعية في فلسطين حتى يحقق اليهود الاعتماد على الذات. وفي المقابل اقترح مونتفيوري تأسيس البنوك في المدن الرئيسية في المنطقة لتقدم التسهيلات الائتمانية للمنطقة بأكملها، وقد ساهم مونتفيوري في تأسيس بعض المستوطنات الزراعية في الجليل ويافا، وأسس أول حي يهودي خارج أسوار مدينة القدس، كما أسس بعض المشاريع الصناعية"لكن مشاريع مونيفوري قُضِيَ عليها مع انتهاء الحكم المصري للشام وعودته تحت سلطة الخلافة العثمانيةولم يكن مونتيفوي وحده الذي أيقظت أحلامَه سياسةُ محمد علي، بل لقد نشر شارل فورييه كتابه "الصناعة الزائفة" عام (1835 - 1836)، وهو يقترح فيه التخلص من المشكلة اليهودية بطردهم إلى بلاد الشام وتوطينهم في فلسطين وسوريا ولبنان، وكان شارل فورييه من أهم المفكرين الاشتراكيين، وهو يرى أن التجارة هي مصدر شرور العالم وأن اليهود تجسيد للتجارة وأنهم بلا ولاء ولا انتماء إلا للمال، ولا بد للمجتمع أن يتخلص منهم بالدمج أو بالطردكذلك فقد نشر شافتسبري (1838م) في مجلة كوارترلي ريفيو (وهي من أكثر المجلات نفوذاً في ذلك العصر) عرضاً لكتب أحد الرحالة إلى فلسطين، ليتوصل منه إلى القول بأنها أرض مناسبة يُنقل إليها اليهود كأيدي عاملة ومهارات تمارس زراعة المحاصيل التي تحتاجها انجلترا، ويكون القنصل الإنجليزي في القدس هو المشرف على هذا الشأن وهو الوسيط بين اليهود وبين السلطان العثماني، وبعدها بعامين كتب هو نفسه وثيقة قدمها إلى بالمرستون (25 سبتمبر 1840م) يسهب فيها في فائدة هذا المشروع لبريطانياإن تأمل تاريخ تلك الفترة يقضي بأن فكرة إنشاء وطن لليهود في فلسطين لم تكن لتتوقد لولا ما أتاحته سياسة محمد علي من آمال، فلقد فكرت أوروبا –وعلى رأسها بريطانيا- في ذلك الوقت أن تتخلص من مشاكلها الثلاثة الكبرى دفعة واحدة بهذا الحل "توطين اليهود في فلسطين"، فتتخلص بهذا من المشكلة اليهودية الداخلية، ومن الدولة العثمانية "المسألة الشرقية" بتقسيمها وزرع كيان معاد في قلبها، وقطع الطريق على التمدد الروسي في الشرق. وحاول بالمرستون تسويق المشروع عند السلطان العثماني بدعوى أن إيجاد كيان يهودي يقطع الطريق على أطماع محمد علي أو أي من خلفائه في التمدد نحو الشام!!
ولهذا ففي تلك الفترة انتشرت مسألة الصهيونية بين السياسيين حتى من غير اليهود من بعد ما كانت منحصرة في الأدباء والعاطفيين والمبشرين الإنجيليين، وكتبت التايمز أن المسألة "أصبحت قضية حقيقية مطروحة على المستوى السياسي، كما "نشرت جريدة جلوب اللندنية (القريبة من وزارة الخارجية) مجموعة مقالات عام 1839/1840 تؤيد فيها مسألة تحييد سوريا (وضمنها فلسطين) وتوطين أعداد كبيرة من اليهود فيها. وقد حازت المقالات موافقة اللورد بالمرستون. وقد نوقش في مؤتمر القوى الخمس الذي عُقد في لندن عام 1840 مسألة تحديد مستقبل مصر. وفي ذلك العام، كتب بالمرستون خطابه إلى سفير إنجلترا في الأستانة يقترح فيه إنشاء دولة يهودية حماية للدولة العثمانية ضد محمد علي. وقدَّم الكولونيل تشرشل عام 1841 مذكرة لموسى مونتفيوري يقترح تأسيس حركة سياسية لدعم استرجاع اليهود لفلسطين لإقامة دولة محايدة (أي في خدمة الدول الغربية)"نشر في ساسة بوست

داود بركات، البطل الفاتح إبراهيم، ص133. أسد رستم، المحفوظات الملكية المصرية، 3/135، (رقم الوثيقة 4642 بتاريخ 22 ربيع الأول 1252هـ = 7 يونيو 1836م). داود بركات، البطل الفاتح إبراهيم، ص132. داود بركات، البطل الفاتح إبراهيم، ص189.Stanford J. Shaw‏, The Jews of the Ottoman Empire, p. 158.Jonathan Frankel, The Damascus Affair: 'Ritual Murder', Politics, and the Jews in 1840, (Cambridge: Cambridge University Press, 1997), p.376.‏ داود بركات، البطل الفاتح إبراهيم، ص189. أسد رستم، الأصول العربية لتاريخ سورية في عهد محمد علي باشا، (بيروت: منشروات كلية العلوم والآداب، الجامعة الأمريكية في بيروت) 5/224، 226. أسد رستم، المحفوظات الملكية المصرية، 2/326، (وثيقة رقم 3012، 3015 بتاريخ محرم 1249هـ). جمع مصبنة من صناعة الصابون ومعصرة. أسد رستم، الأصول العربية لتاريخ سورية، 3/65، 66. (وثيقة بتاريخ 24 محرم 1253هـ) محمد فريد، البهجة التوفيقية في تاريخ مؤسس العائلة الخديوية، تحقيق: د. أحمد زكريا الشلق، ط2 (القاهرة: دار الكتب والوثائق القومية، 2005م)، ص165. أفصح عنه بوضوح في جريدة تصدر في صفد 24 مايو 1839 (أي في ظل الحكم المصري) كما نقل ذلك إيلي ليفي أبو عسل. إيلي ليفي أبو عسل، يقظة العالم اليهودي، ص144 وما بعدها. كان يُطلق اسم سورية في ذلك الوقت على جميع الشام. إيلي ليفي أبو عسل، يقظة العالم اليهودي، ص150، 151.Ben Halpern and Jehuda Reinharz‏, Zionism and the Creation of a New Society, (Oxford: Oxford University Press, 1998), p. 43Jonathan Frankel, The Damascus Affair, p.376. عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ط1 (القاهرة: دار الشروق، 1999م)، 6/177. إيلي ليفي أبو عسل، يقظة العالم اليهودي، ص171. عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، 6/177. عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، 3/167. عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، 6/161. عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، 6/153 وما بعدها.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 05, 2017 10:31
No comments have been added yet.