سطو ..

ليس أجمل من سرقة الكتب. أقول وأنا أتصفّح عبر هاتفي النقال نسخاً إلكترونية لكتب مسروقة ومنشورة على الأنترنت بصيغة “بي دي إف”. لم يتكبّد السارق حتى عناء إزالة الصفحة الذي يهدّد فيها الناشر ويتوعّد بملاحقة كل من تسوّل له نفسه “نسخ أو استعمال أو إعادة إصدار أي جزء من الكتاب سواء ورقياً أو إلكترونياً أو تخزينه في نطاق استعادة المعلومات أو نقله بأي شكل من الأشكال دون إذن خطي”.



أتصفّح النسخ المسروقة عبر جهازي الذكي وأتذكّر، كيف كنت أتسلق المبنى الكبير الذي يستريح منذ سنوات قرب منزلنا القديم. أتسلقه من بوابته الحديدية المرتفعة والضخمة, وأدخل متسللاً من فتحة صغيرة أعلى الباب، توسعتْ يوماً بعد يوم. فتحة صغيرة لاتكاد تكفي لمرور جسد فتى في الخامسة عشرة (أو أكثر قليلاً ربما, لم أعد أتذكر) دون أن يترك الحديد على جسده وملابسه آثار خدوش وسحجات ترافقهُ لأيام.

أجلس منذ الصباح الباكر في المبنى القديم الذي حوّله الحاج رضي تاجر الكتب من “حسينيّة” إلى مخزن لكتبه. أتصفح الكتب متجولاً بين أكوامها التي تتوزع المكان. أرفع الأغطية البلاستيكية الزرقاء التي تغلفها لتحجب عنها الغبار وقطرات المطر التي تتسرب أحياناً من السقف القديم والمتهريء. أمرر عيني عليها قليلاً من تحت الغطاء، قبل أن أقرر أيّها ستكون غلّة اليوم.



يوماً ما، انتبه أخي الكبير إلى خروجي المتكرر باكراً من المنزل. تسلّل خلفي بحذر وراقبني حتى دخلت المبنى. انتظرني في الخارج مع عصاه الطويلة المدببة (أحفظ شكلها جيداً نتيجة تكرر حوادث مشابهة سابقة) حتى انتهيت من جمع غنائمي. رميت الكتب من يدي لأخفي آثار فعلتي قبل أن أخرج إليه. كان واقفاً في الخارج، بعيون حمراء وفمٍ منفوخ, حتى أنني ظننت لوهلة أن الدخان الذي خرج دفعة واحدة من فمه كان دخان غضبه، قبل أن أشاهد السيجارة وهي تتأرجح بين أصابعه.

كان يدخن غضباً، لاعتقاده أنني أختبيء في المبنى لأدخّن. عرفت ذلك لاحقاً وأنا أتحسس الآثار التي خلّفتها عصاه على جسدي قبل أن تنكسر. سحبني من يدي إلى البيت، وبعد أن انتهت وجبة الضرب والركل الذي تناولتُ من يده ورجله الشمال، وتحديداً بعد أن استطاعت أمي بصعوبة بالغة أن تجرني من بين يديه، جلس متعباً على عتبة المطبخ. سحب بقوة دخان سيجارته، رفع رأسهُ للأعلى وأفلت من فمه الدخان وهو يتمتم “عودها بعد، خلني أشوفك تدخن مرة ثانية يا الكلب”.



في الحقيقة لم أحاول أبداً أن أوضح له الأمر. لم أتمكن من طرد احتماليّة أن تكون عقوبة سرقة الكتب أشد من عقوبة التدخين التي جربتها للتو. ولم تكن لتساعدني آثار العصا على ظهري وذراعي والتي كانت قد بدأت تنتفخ وتتلوّن، على المجازفة بإيضاح الأمر له.

لم أتوقّف لاحقاً عن المحاولة, حتى بعد أن اكتشف الحاج رضي الفتحة الصغيرة، وقام بإصلاح الباب. استطعت أن أجد مدخلاً آخراً من فتحة مكيف الهواء. كانت الفتحة مغلقة بقطعة خشبية من الخارج. أنزعها وأدخل، ثم أعيد تركيبها قبل أن أغادر وكأن شيئاً لم يكن.

تسللتُ لاحقاً عبر بابٍ خشبيِ قديم ملتصق في خاصرة المبنى كان يستخدم للخروج الطاريء. كنتُ أفتحهُ كل مرّة, مستفيداً من أدوات أبي وخبرتي البسيطة التي اكتسبتها من العمل خلال العطلة الصيفية في أعمال النجارة، قبل أن أعود لأجده مغلقاً مرة أخرى بإحكام. وهكذا، كنت أحاول دائماً.



أتذكر أنني غضبت كثيراً، وأنا أشاهد من سطح المنزل، عمال بناء يغلقون فتحات المبنى بالطوب والإسمنت. لكني لا أتذكر الآن ما إذا كان سبب غضبي هو خسارتي لفرصتي الوحيدة في الوصول للكتب دون تكلفة “مادية على الأقل"، أو أنه الغضب لرؤية المبنى وهو يتحول إلى بناء أخرس. الغضب لرؤيتهم وهم يكمّمون فمه باحتراف، ودقة بالغة.

ليس أجمل من سرقة الكتب, أقول وأنا أتصفّح عبر هاتفي النقال نسخاً الكترونية لكتب مسروقة ومنشورة على الأنترنت "بصيغة بي دي إف”. لم يتطلب الأمر سوى عدد قليل من ال “ميغا بايت” لأسرق حوالي مائة كتاب وأنا أجلس في صالة المنزل أحتسي الشاي مع أمي، وأدخن.

1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 16, 2016 13:51
No comments have been added yet.