مسؤولية الإعلام عن تخلف الأمة

روى ابن قتيبة في عيون الأخبار أن أبا حية النميري، وكان مشهورا بالجُبن مع الكذب والتعالي، كان له سيف يسميه "لُعاب المَنِيَّة" رغم أن ليس بينه وبين الخشبة فرق، سمع يوما صوتا خارج الدار فظنه لِصًّا فخرج حاملا خشبته ينادي: أيها المغترّ بنا والمجترىء عليّنا، بئس واللّه ما اخترت لنفسك، خير قليل وسيف صقيل، لعاب المنية الذي سمعت به، مشهور ضربته لا تخاف نبوته، اخرج بالعفو عنك وإلا دخلت بالعقوبة عليك، إني واللّه إن أَدْعُ قيساً تملأ الأرض خيلاً ورجلا، يا سبحان اللّه، ما أكثرهم وأطيبهم! ثم فتح الباب فإذا كلب قد خرج، فقال: الحمد اللّه الذي مسخك كلبا وكفاني حربا.

وإن مثل إعلامنا في العالم العربي الآن كمثل أبي حية، يختلق القضايا الموهومة ثم يُشبعها مناقشة ومتابعة وتحليلا ورصدا، ولا يكاد ينتهي من حادثة إلا ليبدأ في أخرى تدور في نفس سياق القضايا الموهومة.

خذ مثلا قضية "الدولة الدينية، والدولة المدنية"، ذلك الأمر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بفعل الهوس الإعلامي، تبدو القضية وكأنها فكرة طرحت نفسها الآن للمرة الأولى، رغم أن نقاشها بدأ منذ نحو مائة عام في العالم الإسلامي، وقد كُتب فيها ما لا يكاد يحصى من الدراسات والمقالات والكتب حتى صار اتهام الإسلام بالدولة الدينية اتهاما مُمِلاًّ وسخيفا، إنها تهمة لا نجدها حتى في كتب المستشرقين منذ نصف قرن على الأقل! فهل هذا فِعْل جاهل لا يعلم أم فِعل مُغرض لا يريد أن يفهم؟!

ومثل هذا كثير في عالمنا العربي، إذ تظل القضايا المطروحة "محلك سر"، كأنما الحياة لا تتحرك ولا تفرض قضايا جديدة هي أولى وأهم، ولم يعد غريبا أن تقرأ الرد على ما يطرحه الإعلام الآن في كتاب مات صاحبه منذ قرن!!

هذه الأزمة التي تفرض التوقف والتكرار وإعادة هضم المهضوم وإنتاج المستهلك إنما هي صورة للمشكلة العميقة التي تجعل النموذج الغربي هو النموذج المقدس الذي تُحاكَم إليه المواقف والرؤى، فبه تُقَاس وبه يُقضى عليها بالصلاحية أو عدمها، وهو حديثٌ مُنْسَحِقٌ حضاريا، جعلنا في "مأزق حقيقي لا يمكن الخروج منه إلا بتجاوز الإشكاليات الأساسية" بحسب د. رفيق حبيب (القبطي ديانة والمسلم حضارة) الذي يقول بأن "شرط الديمقراطية كقاعدة للعمل السياسي تحول إلى معيار تملكه القوى العلمانية، فأصبحت هذه القوى هي المسيطرة على المفهوم، وهي الداعية له، وعلى هذا الأساس أصبحت هناك فئة محددة تملكل أن تقرر ديمقراطيةة القوى الأخرى من عدمها، ويتعقد الموقف بسبب تبني هذه القوى في معظمها للنموذج الغربي، مما علها وكيلا للحضارة الغربية، وفي نفس الوقت صاحبة الحق الوحيد في قبول ورفض القوى السياسية الأخرى وتحديد مدى صلاحيتها للعمل السياسي، وبهذا فُرِض النموذج الغربي باعتباره الإطار المرجعي لتحديد "الشرعي" وعزل "غير الشرعي". أدى ذلك بالضرورة لأزمة "الإسلامي" فأي طرح إسلامي يوضع على معيار غربي حتى يتم قبوله أو رفضه"

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 03, 2011 15:30
No comments have been added yet.