لحن البناية الحزين ( قصة قصيرة )



منذ الساعة التي شيعني فيها زملائي الى المعاش وأنا أعيش محاصرا بين جدران أربعة ، هي حدود شقتي التي لم أعد أبرحها منذ أن تركت عملي كناظر للمدرسة الثانوية بنين . أشعر أحيانا أنها تحاول تضييق الخناق علي لعلها تنجح في التخلص مني بعد أن ضاقت بي ذرعا ، وهي التي لم تعتد وجود الغرباء بينها .
تخيلت مشهد الجدران تتحرك في محاولة منها لاحكام قبضتها علي فأفزعتني الفكرة ، فاندفعت أعدو الى الشرفة حتى كدت أسقط منها .
لما تثبت لدي أنها مجرد أوهام لا ترقى الى مستوى التصديق ، ضحكت من نفسي وبكيتها ، وتظاهرت بالانشغال بحركة الشارع كي أقطع الطريق أمام الاكتئاب الذي يحوم حولي ، يوشك أن يتخطى تحصيناتي التي أقمتها للتصدي له .
قلبت بصري بين الشرفات كعادتي كل مساء ، أراقب حياة كل أسرة وأتخيل نفسي فردا فيها ، سببا لفرحها ، وجزء من همها ، وأكمل بخيالي الناقص من سيناريو حياتها التي تعرضها الشرفات .
ولسبب أجهله استقرت عيني على العمارة المقابلة ، وقد ألفاها سكان المنطقة مهجورة ، لا يكاد يذكر الواحد منهم يوما رأى فيه سكانا لها ، الا ما يتردد على لسان صغار المنطقة ، عن سكانها من الجن .
لا أعلم سببا لتأمل هذا الكهف المظلم ، البعيد كل البعد عن حياتي داخل الشرفات ، لكن شيئا ما استوقفني بشرفة الطابق العاشر ، أي الشرفة المقابلة لشرفتي ، فقد أبصرت شبحا يتحرك ، خمنت أنه قد يكون حيوانا تعسا ، كلبا كان أو قطا ، دفعه حظه البائس الى التسلل الى هذه المقبرة ، آملا في ما يسد الرمق أو يذهب الظمأ ، لكنه فوجئ بنفسه سجينا لخرابها .
هممت بتركه لمصيره والتحول ببصري بعيدا لكن مشهد صعوده السور استوقفني ، لم يكن حيوانا بل هو بشر !
صحت تجاهه محاولا جذب انتباهه ، لعلي أنجح في اثنائه عما ينتوي فعله ، وظننت أني قد نجحت في مهمتي حين رفع رأسه نحوي ، لكنه قفز .
تصلب جسدي من هول المفاجأة ، وحين استعدت السيطرة عليه نظرت الى الشارع فلم أجد جثة ، وأبصرت حركة المارة طبيعية لم يعتورها خلل !
كنت واثقا من حقيقة ما رأيت ، وقد تيقنت من ذلك حين رفعت بصري فجاءني الصوت من خلفي . .
- لم كنت تحاول اثنائي عن الانتحار ؟
ارتعدت مفاصلي ، وتهدجت أنفاسي ، وقد استبد بي الرعب حتى ظننت أن جسدي قد استحال تمثالا من الفولاذ .
كان صوتا نسائيا شابا ، جميلا ، وان كان ذلك لا يخفف من أثره في نفسي ، أغمضت عيني لدقيقة واستدرت ببطء ثم فتحتهما فأبصرتها واقفة في مواجهتي ، منعني الرعب من الصراخ ، فانشغلت بتأملها ، كانت شابة في أواخر العقد الثالث من عمرها ، هكذا ظننت ، شعرها الأسود معقوص خلف رأسها ، عيناها السوداوتان حزينتان ، خاتمها في يدها اليسرى يقول لك " متزوجة " ، ونظرتها تقول لك " لست سعيدة " ، وكيف لا وقد انتحرت يا غبي !
كررت سؤالها . .
- لم حاولت اثنائي عن القفز ؟ وأشارت بيدها باتجاه العمارة المهجورة .
حاولت استجماع شتات نفسي ، وقلت . .
- فعلت ما ارتأيته صوابا .
فقالت ساخرة . .
- الصواب اذن من وجهة نظرك هو أن تواصل الحياة ؟ قل لي سببا واحدا يدفعك الى الاستمرار في حياتك !
فكرت في زوجتي التي انتقلت الى جوار ربها منذ سنوات طويلة ، ثم فكرت في أولادي الذين هجروني ، بل هجروا الوطن كله . ثم رددت اليها سؤالها معكوسا . .
- بل قولي لي أنت سببا واحدا يدفعك الى الانتحار .
ابتسمت ساخرة ، ثم قالت . .
- حسنا . ثم جلست الى مقعد قريب منها ، وأخرجت من جيبها علبة سجائر أشارت بها نحوي فاعتذرت ، فالتقطت منها واحدة وضعتها في فمها وأخرجت قداحة أشعلت بها سيجارتها ، ونفثت دخانها ، وصمتت مكتفية بمراقبة سحب الدخان .
وأخيرا تكلمت . .
- كنت طالبة في كلية الآداب ، في العام الرابع على وجه التحديد ، حين رأيته للمرة الأولى ، كان معيدا بالكلية ، عين مؤخرا بعد أن أنهى فترة تجنيده . كان حضوره القوي يجذب اليه الطلاب من كل حدب وصوب ، بالأخص الطالبات ، كنا مغرمات به ، لكن واحدة منهن لم تحبه كما أحببته أنا . أحببت الذكاء الذي يشع من حدقتيه حين يتحدث ، أحببت ابتسامته الصافية حين يستمع ، أحببت الحماسة التي يلقي بها أشعاره ، وأحببت أشعاره ، ثم تخرجنا من الكلية ، وانصرفت كل واحدة الى حياتها ، باستثنائي فقد كانت حياتي معلقة بكلمة تخرج من بين شفتيه فتسكن قلبي ، لكني لم أملك الشجاعة الكافية لمصارحته بمشاعري ، فقد تربينا على أن الولد هو من يبادر ، فأما ان بادرت البنت فتلك جرأة غير محمودة ، فانتظرت ، وطال انتظاري .
ثم فاجأني العريس الأول ، فرفضته بحجة رغبتي في استكمال دراستي ، ووافق أهلي على مضض ، وقدمت أوراقي للالتحاق بدبلومة الدراسات العليا ، شئ ما في نظرته كان يدفعني الى الانتظار ، لكنه لم يقل شيئا ، ولو قالها لانتظرت .
ومرت الأيام والشهور ثم الأعوام ، لا أنا نلت الماجستير ، ولا هو تكلم .
ونفدت حججي أمام العريس المتفاهم ، الذي تقبل أن يؤجل زواجنا حتى أحقق ما أريده لنفسي ، لكني كنت قد فقدت الأمل في تحقيقه ، وكرهت الانتظار فتزوجنا .
لكني لم أكن مدركة لتبعات قراري هذا ، فقد تناسيت أني وان منحت جسدي لرجل آخر فان روحي معلقة بمن أحببت ، وفشل ارتباطي بآخر في محوه من قلبي .
بت أستحضر صورته أثناء لقائي مع زوجي في الفراش ، وأحس بقبح خيانتي لزوجي الذي لم يسئ لي قط .
ثم زارتني صديقة لي من أيام الجامعة ، ووجدتني أستدرجها للحديث عنه ، ولم تكن تعرف الكثير ، لكنها كشفت لي الكثير .
شاهده عدد من صديقاتنا شائخ الوجه ، رث الثياب في فترة قدرتها فكانت عقب زواجي مباشرة ، قبل أن يترك العمل بالجامعة وتختفي أخباره .
لقد أحبني مثلما أحببته ، وربما أكثر ، لكنه لم يستطع مصارحتي لظروفه المادية السيئة ، ولم أستطع أنا الانتظار تحت وطأة ضغط الثلاثين ، وشبح العانس .
أطفأت سيجارتها ثم استطردت . .
- قل لي اذن سببا يجعلك تصر على مواصلة الحياة .

**********

حين انتهت من سرد قصتها ، لم أجد ما أعلق به عليها ، كما أني لم أرد دفع نفسي الى التفكير في جواب لسؤالها ، فالتفت الى الشرفة ، وشردت ببصري نحو البناية المهجورة ، أحاول أن أرى شرفاتها بالكيفية ذاتها التي رأيت بها شرفات البنايات الأخرى ، لعلي أعثر فيها على أثر للحياة ، وقد كان ، حين لمحت في الطابق التاسع شبحا آخر ينتصب بقامته أعلى الشرفة استعدادا للقفز ، فصرخت في هلع وأنا أشير بيدي نحوه محاولا جذب انتباهها ، لكني حين استدرت اليها لم أجدها في مكانها ، رغم أن الهواء مايزال متشبعا بدخان سيجارتها !
تركت مسألة اختفائها جانبا ، وركزت انتباهي على اثناء الواقف بالشرفة عن القفز ، ولما انتبه الي رفع الي رأسه ، ورغم بعد المسافة والظلام الذي يكتنف البناية ، الا أني أزعم أنه كان مندهشا ، لكنه على أي حال قفز .
ولما نظرت الى أسفل لم أجد جثته ، ولم ألحظ تأثرا في حركة الشارع ، فتوقعت أن أجده خلفي ، ولا أزعم أني لم أفاجأ بذلك ، أو أني انتصرت على الخوف هذه المرة .
- لم حاولت اثنائي عن الانتحار ؟
الغريب أن الصوت كان نسائيا شابا ، حتى ظننت أنها الفتاة ذاتها قد عاودت القاء نفسها ، لكني حين التفت اليها طالعني وجهها الحزين . كانت شقراء ، بعينين زرقاوين ، وشفتين مكتنزتين ، جميلة في العشرين من عمرها ان لم أخطئ التقدير .
- احك لي حكايتك .
اندهشت قليلا ، لكنها قالت . .
- رغم أنك لم تجبني عن سؤالي ، لكن لا بأس ، فقد كنت بحاجة الى مستمع .
جلست على المقعد ذاته الذي جلست عليه الفتاة التي سبقتها ، ثم تنهدت بصوت مسموع وقالت . .
- كنت شابة جميلة تحلق كفراشة بين أسوار الجامعة ، ولا تلتفت الى الشباب الذين يحاولون استمالتها ، وتتصنع جهلها بالبريق الذي يضئ عيون أساتذتها حين يرونها ، فقد علمتني أمي أن عود الثقاب لا يشتعل الا مرة واحدة ، فقررت ادخارها للعريس المنتظر .
كنت أفاضل بين هذا وذاك ، وأعقد المقارنات بين كل من طرقوا باب شقتنا التي أعيش فيها مع والدتي منذ توفي والدي .
كانت أمي تحدثني عن ضرورة ستر البنت ، وعن حاجتنا الماسة - نحن الولايا - الى رجل . لكني كنت أتأنى في اتخاذ قراري ، فأنا لن أتزوج كل يوم .
لكن الانتظار لم يطل ، فقد جاء يخطبني ضابط في الجيش ، برتبة نقيب ، كان وسيما وبخاصة حين يتأنق في زيه العسكري . لم أجد صعوبة في الموافقة ، فقد كانت أحواله المادية على أفضل ما يكون ، وسيم ، ذو سلطة ونفوذ ، وهو أكثر مما أتمنى .
فرحت به أمي ، واحتفت به كواحد من أبنائها ، ثم قدسته ككاهن ، ثم عبدته كاله ، وصارت في حضوره تردد : آمين .
حتى عندما فرض علي الحجاب ، فالحلوى المكشوفة تجذب اليها الذباب . وحين منعني من الخروج ، وقرن في بيوتكن . وحين أجبرني على ترك الدراسة ، وما حاجتك الى التعليم !
حاصرني بالأوامر والنواهي ، ولم نتزوج بعد ! ضقت ذرعا بسيطرته وتسلطه ، فصارحته برغبتي في الانفصال ، فحدثني عن فشل محاولته في هدايتي واصلاح تربيتي المعوجة ، ثم انصرف .
لم تغفر لي أمي خطيئتي ، وراقبتني بغيظ وأنا أعود الى الجامعة ، ثم وأنا أخلع الحجاب .
حتى جاء يوم أسود ، كنت في طريق العودة الى البيت عقب انتهاء يوم طويل بالجامعة ، فاذا بشاب يدفني بمطواة في جنبي الى ركوب التاكسي الواقف الى جوار الرصيف ، فخضعت له خوفا ، وقد كان حريا بي أن أتحلى بشجاعة المقاومة ، لكني فوجئت بنفسي خائفة ومرتعبة ، يهتز جسدي بعنف من فرط الخوف ، وحملنا التاكسي الى منطقة مهجورة ، وأجبرني أحدهم على خلع ملابسي ، فلما تخشب جسدي بلا حراك دفعني فسقطت أرضا ، فانحنى الآخر فوقي ينزع عني ملابسي ، وأنا في حالة من الاعياء لا تسمح لي حتى بادراك ما يحدث حولي ، فقد كنت شبه فاقدة للوعي رغم أن عيني بقيتا مفتوحتين !
لم أنتبه الا على صيحة أحدهم . .
- بنت بنوت !
فرد الآخر وهو ينظر الى الدم بين فخذي . .
- لم تعد كذلك .
فصاح الأول . .
- لقد خدعتني !
فدفعه الثاني بيده جانبا حتى يتسنى له قضاء وطره ، بعيدا عن مناقشات زميله التي ستفسد عليه الاستمتاع بصيده .
لكن الأول ضربه بعصا غليظة فوق مؤخرة رأسه ، ثم حملني الى التاكسي ، ولم أسترد وعيي الا في المستشفى يطالعني وجه أمي المنكسر ، وقد شاخت فجأة .
حين غادرت المستشفى توقعت منها أن تحملني مسئولية ما لحق بي ، بل بنا وبسمعتنا ، لكنها ماتت ، وتركتني الى نفسي ، ألومها أم ألوم خاطبي أم ألوم المجرمين أم ألومك أنت ؟
وصمتت ، فصمت .

***********

أقسمت على أن أوقف نزيف المنتحرين ، فما ان رأيت شبحا يتمايل في شرفة الطابق الحادي عشر حتى انطلقت عدوا الى باب الشقة ثم توقفت أمام المصعد أضغط بحنق على زر استدعائه ، فلما طال انتظاري ، حسمت قراري فانطلقت أعدو هابطا عبر الدرج ، وقد كان جديرا بي أن أتأنى في اتخاذ قرار مماثل بالنظر الى شيخوختي ، لكن الأمر لم يكن يتحمل مزيدا من اهدار الوقت ، واهدار الفرص .
حين بلغت الطابق الأرضي ، هب حارس العقار واقفا وقد بان على وجهه الفزع ما ان رآني ألهث ، حاول الاطمئنان على صحتي وسؤالي عما دعاني الى نزول عشر طوابق عدوا عبر الدرج ، لكن الوقت كان يداهمني فلم ألتفت اليه ، وأكملت عدوي نحو البناية المهجورة ، لكني حين بلغتها وقفت أمامها مترددا ، أفكر في مدى بلاهة تصرفي ، وما اذا كنت بحاجة لاستشارة طبيب نفسي ، لعلي كنت أتوهم كل ما جرى ، والا فلم لم يلاحظ أحد من العالمين انتحار الفتاتين سواي !
لكني توصلت الى عقد اتفاق مع عقلي ، يسمح لي بمقتضاه أن أكمل جنوني حتى نهايته ، على أن أخضع اليه بعدها ، ثم خطوت الخطوة الأولى نحو مدخل البناية .
ما ان خطوت الخطوة الأولى حتى لمست تبدل الأشياء ، فكانت الحياة تدب في كل ما حولي بصورة تدريجية ، فتستعيد الأرضية السيراميك ألوانها المنسية ، وتستعيد الواجهات الرخامية بريقها ، وتتلألأ النجفة المعلقة في سقف بهو المدخل ، حتى المصعد دبت فيه الحياة ما ان مررت بجواره متخذا طريقي نحو الدرج .
احترت في مسألة الصعود هذه بين الخوف من استخدام مصعد الأشباح هذا ، وبين الصعود عبر الدرج ، فقدرت أني هالك في كلتا الحالتين فاخترت أيسرهما ؛ المصعد .
في الطابق الرابع فاجأني المصعد بتوقفه ، وكاد قلبي أن يتوقف معه ، حين فتح الباب عن امرأة في الخمسين من عمرها ، نظرت نحوي بابتسامة ودودة وهي تقول . .
- مساء الخير .
ثم تركتني في حيرتي في الطابق التاسع ، حين غادرت المصعد وكأن الحياة هنا كالحياة ، لكني لا أحسبها كذلك .
وأخيرا توقف المصعد في الطابق الحادي عشر ، فغادرته مترويا في خطواتي تحسبا لأية مفاجأة ، فاذا بي بين شقتين ، واحدة عن يميني والأخرى عن يساري ، حسبت موقع البناية وخمنت أيهما تطل على البناية التي أسكنها فكانت اليسرى .
وجدت بابها مواربا فدفعته ببطء فتسلل الي صوت أسمهان : " يا طيور ، غني حبي وانشدي وجدي وآمالي ، للي جنبي ، واللي شايف ما جرى لي " .
دفعت الباب ودخلت الشقة ، فرأيت فتاة شابة جميلة ترتدي فستانا أنيقا ، بديع الألوان ، والقسمات ، تتراقص على ايقاع الأغنية في رشاقة ساحرة ، تضفي على الجو رونقا ملائكيا .
لقد أخطأت في تقدير الشقة اذن ، حتما أخطأت ، ربما كانت الشقة اليمنى هي المقصودة ، وربما الأمر كله خطأ ، مجرد خيالات رجل مريض ، يعاني من الوحدة ، لكن ما أنا واثق منه تمام الثقة أن هذه الفتاة الساحرة ، التي تكاد تحلق من فرط خفتها ، لا يمكن أن تكون بصدد الانتحار ، أو حتى راودتها الفكرة فس يوم من الأيام .
كنت لأنصرف لولا أني رأيتها تحرك ذراعيها ، كمن توشك على التحليق ، وهي تتجه نحو الشرفة ، فصرخت فيها فزعا . .
- انتظري .
فالتفتت نحوي ، فصرت في مواجهتها ، وصوت أسمهان بيننا : " والزهور فاحت بعطر الأماني " .
- أعلم ما أنت بصدده الآن ، وأيا تكن دوافعك ، فان الانتحار ليس حلا !
ضيقت حدقتيها محاولة تخمين هويتي ، ثم اتسعت فجأة وهي تصيح . .
- آه ، انه أنت .
ثم استطردت ساخرة . .
- أنت من كنت تصيح في البناية المواجهة ، وتلوح بذراعيك كالغريق .
ثم ضحكت ، وقالت . .
- اذن فقد حضرت لاثنائي عن قرار الانتحار .
ثم جادة . .
- لماذا ؟ قل لي سببا واحدا يدفعك لمواصلة الحياة .
لكنها لم تمهلني الفرصة للاجابة ، اذ استطردت . .
- أتعلم ؟ لا تهمني أسبابك . تكفيني أسبابي للانتحار .
والتفتت صوب الشرفة . فصحت . .
- حسنا ، قولي لي أسبابك .
لم أرد من ذلك سوى المماطلة ريثما أفكر في طريقة أتقي بها شر الكارثة ، وربما عثرت على الحل في حديثها .
لكنها قالت ببرود . .
- ولم قد أفعل ؟
فاحترت في سؤالها لكنني قلت يائسا . .
- فلتكن تلك رسالتك الى العالم .
صمتت لبرهة متفكرة ثم قالت . .
- يبدو لي أمرا يستحق اضاعة الوقت .
ثم ضحكت فجأة وأغرقت في الضحك ، ثم توقفت فجأة أيضا ، وأجهشت بالبكاء ، وأنا بين هذا وذاك واقفكما التمثال لا أحرك ساكنا .
جففت دموعها ، وأشعلت سيجارة ، ثم قالت مختنقة بدموعها . .
- لقد كذبوا علينا .
ارتمت بجسدها الى جوار الأريكة واستطردت . .
- حدثونا عن محمد علي ، وصمتوا عن خرفه .
حدثونا عن عبد الناصر ، وصمتوا عن بطشه .
حدثونا عن حرب أكتوبر ، وصمتوا عن انتفاضة الغلاء .
حدثونا عن ميلاد الرئيس وقداسة الرئيس ، حتى أن عمر الرئيس ظل ثابتا طوال المرحلة الابتدائية !
حدثونا عن واجب التصويت ، وصمتوا عن التزوير .
حدثونا عن الدين ، وقالوا لنا : الدين لله ، والوطن للجميع . لكن الحقيقة أن دين الدولة : الإسلام ، والوطن للرئيس .
صمتوا عن أفكار نيتشة ، وروح بوذا ، وحلم أتاتورك .
لقد كذبوا يا أستاذ ، لقد كذبوا .
أجل يا حضرة الناظر ، لقد كذبنا ، كانت مناهج نقرأها ، وتعليمات ننفذها ، لقد كذبنا يا حضرة الناظر .
لم تنتظر تعليقي ونهضت من تلقاء نفسها ، واتجهت صوب الشرفة ، ثم التفتت نحوي فلمحت دمعة تحدرت على وجنتي ، فقالت . .
- أما عن رسالتي للعالم ، فقل لهم : ما عاد ينفعكم الكذب .
ثم همت بصعود السور فاستوقفتها . .
- انتظري .
فالتفتت .
- أين كنتم طوال هذا الوقت ؟
اندهشت لكنها قالت بعفوية . .
- لقد كنا هنا طوال الوقت ، كيف لم ترنا ؟
فخاطبتها مستجديا . .
- أما من فرصة ثانية ، أصلح بها خطئي ؟
فأجابت بحسم . .
- لقد تأخرت .
ثم قفزت ، ودوى في الأفق صوت ارتطامها ، فنظرت الى أسفل ، فأبصرت الشارع مضطربا ، والجثة محاطة بالمارة المندهشون ، يقلب الواحد منهم بصره في كل الجهات ، باحثا عن النقطة التي سقطت منها ، لكنهم لا ينظرون صوب البناية ، التي اعتادوا رؤيتها مهجورة ! 



 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 10, 2014 13:37
No comments have been added yet.