سجن بحجم الوطن ( قصة قصيرة )
آه يا صديقي الوحيد . واسمح لي أن أدعوك صديقي رغم أنك لم تكن حرا لتقرر ، حين ابتعتك من محل الطيور بالقروش القليلة التي تصدق علي بها أخي .
كنت مفلسا حين خرجت من المعتقل في صخب الاحتفال بالرئيس الحالي - رغم أن دم السابق لم يجف بعد - فوليت وجهي شطر أخي ، فلم يكن قد بقي لي غيره بعد أن ماتت أمي كمدا على فراقي .
لكن أخي قابلني كما يقابل مسجل خطر ، يخشى جرمه ويتقي شره بدفع الاتاوة ، شريطة أن يبتعد عن حياته ليحتفظ بها نقية لا تشوبها شائبة ، حتى وان كانت تلك الشائبة ، أنا ، أخوه .
أتعلم يا صديقي أنه أخفى عني زوجته وأولاده ؟ أنا أيضا كان بامكاني أن أتزوج وأنجب ، لو أن لي نفس ذليلة ، تشتهي الحياة وان كانت وضيعة . لكني - وللعجب - ظننت أني أضحي بنفسي من أجل أخي ، بل من أجل أولاده الذين حجبوا عني .
فيم كانت التضحية اذا !
كنت أهتف ضد النظام وضد الغلاء ، قالوا لنا انها آثار الحرب تارة ، وقالوا انه الانفتاح تارة أخرى ، وسيجدون دوما ما يقولونه .
تصور ، نسيت أن أسألك عن اسمك !
لا تعرف ؟ أما أنا فلا أذكر . كان لي اسما أيام كنت حرا ، لكني الآن لا أذكره ، فقد اعتادوا أن ينادوني " نرجس " !
أرى الحيرة تعصر وجهك ، لكن لم يشغلك جنسي ؟ وما الفارق بين كوني ذكرا أو أنثى ، الجميع يستوي في الحبس ، حتى أنت .
حين وقفت أمام قفصك في المحل ، جذبتني نظرة الحزن التي في عينيك ، سألت البائع : أذكر أم أنثى ؟ فأجابني : ذكر . قل لي ما يدريني أذكر أنت أم أنثى ؟ وكيف تبرهن على ذلك وأنت سجين قفصك هذا ؟
في سجنك تكون هويتك هي ما يدونه السجان ، فقد يصبغ عليك اسما غير اسمك ، أو دينا غير دينك ، أو حتى وطنا غير وطنك . وطنك سجنك ، ورئيسك سجان .
يزعم البائع أنك من الطيور المهاجرة ، لكني لم أصدقه ، كيف تعبر القارات والمحيطات ، تمر فوق الغابات والبحيرات ، ثم يستقر بك المقام في هذا البلد الخرب ، لتكون سجين زنزانة انفرادية ، تمر الأيام عليك فلا تدري في أي يوم أنت ؟ هل مر يوم جديد أم أنك مازلت بالأمس ؟ أمات رئيس وعاش آخر ، أم تبودلت المقاعد في لعبة الكراسي الموسيقية ؟
هل شاهدت الرئيس الجديد ؟ يقولون انه بكى ! أيبكي فرحا بالمنصب ، أم فرحا بالنجاة من موت محقق ؟ تقول : كيف نجا ؟ أخفض صوتك ، فان عيونهم في كل مكان .
لا ، لم يمت الرئيس ، الرئيس لا يموت . قد يستبدل وجهه بوجه آخر ، لكنه أبدا لا يموت .
أما نحن - الشعب - نموت ، فلا ينبغي لأمثالنا أن يتجلى لهم الرئيس في حياتهم الا في صورة واحدة .
آه ، من يوقف في رأسي الطواحين !
لو أننا حررنا أنفسنا ، وحررنا أولادنا ، حررنا أفكارنا وأحلامنا ، لما وسعنا سجن ، وان كان بحجم الوطن .
أخرج ، أخرج يا صديقي الصغير ، طر وحلق بعيدا ، وأنشد أنشودة الحرية الأبدية ، عد الى وطنك ان كنت مهاجرا كما يقول البائع ، أو امكث في وطنك هذا لكن بشروطك أنت ، لا بشروط السجان .
لم مازلت مكانك ، لم لا تنفض غبار العبودية عن جناحيك وتنطلق محلقا في الأعالي ؟
دع عنك هم الاجابة ، فأنا أعلم أنك نسيت التحليق كما أنسيت أنا اسمي .
Published on October 03, 2014 13:42
No comments have been added yet.


