الرؤية الفكرية لحزب العدالة والتنمية
وصلنا في استعراضنا لتاريخ السياسة التركية –في المقالات الماضية- إلى لحظة تأسيس حزب العدالة والتنمية، وبعد أن ذكرنا قصة المؤسس أردوغان، وقصة الخلاف بينه وبين أستاذه أربكان، وألقينا نظرة على المؤسسين، ندلف إلى تحديات التأسيس!
كغيره من الأحزاب، واجه حزب العدالة والتنمية تحديات التأسيس: الرؤية الفكرية، الكوادر، البرنامج، الأموال. وكان عليه أن يعبر هذه التحديات في ظل واقع تتنازعه التوجهات؛ إذ هو يحتاج أن يثبت عدم تخليه عن الإسلام داخل بيئة التيار الإسلامي، ويحتاج أن يثبت أنه لم يخرج عن علمانية الجمهورية أمام الدولة العميقة، ويحتاج أن يثبت أنه صورة جديدة من "الإسلام السياسي" الذي يمكن للغرب أن يتفق معه وأن يجربه ويعتمد عليه، وكأنه يقدم "إسلاما جديدا" ملتزما بالثوابت التي تطرحها "الحضارة الغربية". ولم يكن بوسعه تقديم خطاب مزدوج في عصر ثورة الإعلام والاتصالات، فلا مناص حينئذ من خطاب دقيق ومتوازن، ثم من تنازلات وتضحيات ببعض الأطراف عند لحظات فارقة لا بد فيها من الاختيار حين لا ينفع التوازن والبقاء في منطقة رمادية.
بدأت المجموعة المؤسسة بإقامة مركزين للبحوث السياسية والفكرية: الأول مركز مؤسسة دنجه للأبحاث في أنقره والثاني مركز الأبحاث السياسية في اسطنبوللئن كانت الرؤية الفكرية أصعب شيء في تأسيس الأحزاب والجماعات والكيانات السياسية؛ إذ ينبني عليها سائر التوجهات والاختيارات، فلقد كانت في حالة حزب العدالة والتنمية أصعب؛ فالحزب تتنازعه جذوره الإسلامية مع ثوابت الدولة العلمانية التي يحرسها العسكر بقوة السلاح، وهذا كله تحت مظلة وضع دولي يثير حربا على "الإرهاب الإسلامي" بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وهذه الحرب على وشك أن تشتعل عند أطراف الثوب التركي: العراق!
لقد أثار الأمر خلافا بين المؤسسين، لكنهم خلصوا في النهاية إلى هذه الهوية ذات المساحات الرمادية، ولذا فمن أراد رؤيتهم كإسلاميين وَجَدَ في أدبياتهم ما يدعم خطه، ومن أراد رؤيتهم كعلمانيين وجد ما يدعم خطه، ومن أراد إثبات ما في خطابهم من ارتباك وتناقض وجد ما أراد كذلك، ويعلن كثير من الباحثينيبدو أردوغان إسلاميا عثمانيا يطرح نفسه كنقيض للحقبة الجمهورية العلمانية حين يقول في خطاب تأسيس الحزب (14 أغسطس 2001م) "تركيا لنا جميعا. إن تركيا منذ عام 1299م إلى عام 1923 كانت دائما تتولد منا نحن"ولكن يبدو مُنَظِّر الحزب، المفكر التركي أحمد أوزجان، متناقضا حين يقول في مرحلة التأسيس: "تركيا يجب أن تتخطى صراع الهيمنة والسيطرة الموجود بين الكتلة المسالمة والكتلة الكمالية. وعلى إنسان الأناضول أيضا أن يفرض على الساحة كادره الذي يُمَكّنه أن يحوي كلا الطرفين بداخله، والذي يخاطب الشعب بأكمله، وله هويته الإسلامية الخالصة، والذي ينتج ويعلن تجلياته الحقيقية"ومن المفهوم في عالم السياسة الحفاظ على مساحة من الغموض، كما في تصريح لعضو كبير بحزب العدالة والتنمية يقول: ليس المهم هو ما إذا كان الإسلام يؤثر في السياسة، ولكن "كيف" يكون هذا التأثير، فالتفسير الليبرالي للإسلام يؤثر في السياسة على نحو ليبراليلقد تمسك الحزب بإصرار –على مستوى الطرح الفكري- أنه يمكن الجمع بين كل ما يُظَنُّ أنه متناقض كما يقول أردوغان: "أنا حزبي محافظ ديمقراطي، محافظ أسعى للحفاظ على عاداتنا وتقاليدنا وثقافة الأمة التركية، وأسعى لتطبيق ديمقراطية قوية ومتطورة ولا تقل عن الديمقراطيات في العالم"ولئن صَعُب على الكثيرين ابتلاع هذا التوجه وفهمه، فإن الذي كان سهلا وواضحا وثابتا في رؤية الحزب وخطابه هو التخلي عن الخطاب المعادي للغرب الذي تبناه الإسلاميون سابقا، وتبنى خطابا متسقا مع ما يُطرح في المجتمعات الغربيةوما كان واضحا بذات الدرجة أنهم نقيض للاستبداد واعتبروا "ما يفعلونه بمثابة إحياء جديد لكل الأحزاب التي تم غلقها، وبمثابة عودة الفكر الوطني و(عودة لمن قُهِروا) من السياسيين"لقد مثلت هذه الطريقة نمطا جديدا في السياسة التي يتصدرها إسلاميون، ما جعلها مسرحا لابتكار الألفاظ والمصطلحات لدى الباحثين لمحاولة التعبير عن الظاهرة، فوُصِفَت بأنها "سياسة مرتاحة" يمثل الدين فيها إلهاما ثقافيا أكثر منه حضورا فاعلا في أجندة السياسةنشر في تركيا بوست
بسلي وأوزباي: قصة زعيم ص306. برنامج تحت المجهر: "العثمانيون الجدد"، قناة الجزيرة، بتاريخ 26 يوليو 2007 كثير من الغموض أو الارتباك راجع أيضا إلى خلفيات الباحثين الفكرية، إذ الكثير يفهم الديمقراطية كنقيض للإسلام بغير اعتبار لما أفاض الإسلاميون في شرحه من تفريقهم بينها كفلسفة أو آليات، ونظرياتهم في تطبيق الإسلام في العالم المعاصر. بسلي وأوزباي: قصة زعيم ص327. بسلي وأوزباي: قصة زعيم ص304. بسلي وأوزباي: قصة زعيم ص309. Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 54. محمد زاهد جل: التجربة النهضوية التركية ص16. محمد زاهد جل: التجربة النهضوية التركية ص89. برنامج تحت المجهر: "العثمانيون الجدد"، قناة الجزيرة، بث بتاريخ 26/7/2007؛ Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 47. حوار مع عبد الله غل، برنامج حوار خاص، قناة الجزيرة، بتاريخ 22/11/2002. برنامج تحت المجهر: "العثمانيون الجدد"، قناة الجزيرة، بتاريخ 26 يوليو 2007 محمد زاهد جل: التجربة النهضوية التركية ص72. Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 50; Ümit Cizer: The Justice and Development Party, making choices, revisions and reversals interactively, in: Ümit Cizer: “Secular and Islamic Politics in Turkey”, (New York, Routledge, 2008), p. 3. Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. xv; Aydin, Çakır: Political Islam in Turkey, p. 1. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص196؛ Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 46-7. بسلي وأوزباي: قصة زعيم ص303. Ian o. Lesser: Turkey: “Recessed” Islamic Politics and Convergence with the West, in Angel M. Rabasa ... [et al.] “The Muslim world after 9/11” (Santa Monica, RAND, 2004), p175. Menderes Çınar, Burhanettin Duran: The specific evolution of contemporary Political Islam in Turkey and its ‘difference’, in Ümit Cizer: “Secular and Islamic Politics in Turkey”, p. 33. Ümit Cizer: The Justice and Development Party, p. 2.
كغيره من الأحزاب، واجه حزب العدالة والتنمية تحديات التأسيس: الرؤية الفكرية، الكوادر، البرنامج، الأموال. وكان عليه أن يعبر هذه التحديات في ظل واقع تتنازعه التوجهات؛ إذ هو يحتاج أن يثبت عدم تخليه عن الإسلام داخل بيئة التيار الإسلامي، ويحتاج أن يثبت أنه لم يخرج عن علمانية الجمهورية أمام الدولة العميقة، ويحتاج أن يثبت أنه صورة جديدة من "الإسلام السياسي" الذي يمكن للغرب أن يتفق معه وأن يجربه ويعتمد عليه، وكأنه يقدم "إسلاما جديدا" ملتزما بالثوابت التي تطرحها "الحضارة الغربية". ولم يكن بوسعه تقديم خطاب مزدوج في عصر ثورة الإعلام والاتصالات، فلا مناص حينئذ من خطاب دقيق ومتوازن، ثم من تنازلات وتضحيات ببعض الأطراف عند لحظات فارقة لا بد فيها من الاختيار حين لا ينفع التوازن والبقاء في منطقة رمادية.
بدأت المجموعة المؤسسة بإقامة مركزين للبحوث السياسية والفكرية: الأول مركز مؤسسة دنجه للأبحاث في أنقره والثاني مركز الأبحاث السياسية في اسطنبوللئن كانت الرؤية الفكرية أصعب شيء في تأسيس الأحزاب والجماعات والكيانات السياسية؛ إذ ينبني عليها سائر التوجهات والاختيارات، فلقد كانت في حالة حزب العدالة والتنمية أصعب؛ فالحزب تتنازعه جذوره الإسلامية مع ثوابت الدولة العلمانية التي يحرسها العسكر بقوة السلاح، وهذا كله تحت مظلة وضع دولي يثير حربا على "الإرهاب الإسلامي" بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وهذه الحرب على وشك أن تشتعل عند أطراف الثوب التركي: العراق!
لقد أثار الأمر خلافا بين المؤسسين، لكنهم خلصوا في النهاية إلى هذه الهوية ذات المساحات الرمادية، ولذا فمن أراد رؤيتهم كإسلاميين وَجَدَ في أدبياتهم ما يدعم خطه، ومن أراد رؤيتهم كعلمانيين وجد ما يدعم خطه، ومن أراد إثبات ما في خطابهم من ارتباك وتناقض وجد ما أراد كذلك، ويعلن كثير من الباحثينيبدو أردوغان إسلاميا عثمانيا يطرح نفسه كنقيض للحقبة الجمهورية العلمانية حين يقول في خطاب تأسيس الحزب (14 أغسطس 2001م) "تركيا لنا جميعا. إن تركيا منذ عام 1299م إلى عام 1923 كانت دائما تتولد منا نحن"ولكن يبدو مُنَظِّر الحزب، المفكر التركي أحمد أوزجان، متناقضا حين يقول في مرحلة التأسيس: "تركيا يجب أن تتخطى صراع الهيمنة والسيطرة الموجود بين الكتلة المسالمة والكتلة الكمالية. وعلى إنسان الأناضول أيضا أن يفرض على الساحة كادره الذي يُمَكّنه أن يحوي كلا الطرفين بداخله، والذي يخاطب الشعب بأكمله، وله هويته الإسلامية الخالصة، والذي ينتج ويعلن تجلياته الحقيقية"ومن المفهوم في عالم السياسة الحفاظ على مساحة من الغموض، كما في تصريح لعضو كبير بحزب العدالة والتنمية يقول: ليس المهم هو ما إذا كان الإسلام يؤثر في السياسة، ولكن "كيف" يكون هذا التأثير، فالتفسير الليبرالي للإسلام يؤثر في السياسة على نحو ليبراليلقد تمسك الحزب بإصرار –على مستوى الطرح الفكري- أنه يمكن الجمع بين كل ما يُظَنُّ أنه متناقض كما يقول أردوغان: "أنا حزبي محافظ ديمقراطي، محافظ أسعى للحفاظ على عاداتنا وتقاليدنا وثقافة الأمة التركية، وأسعى لتطبيق ديمقراطية قوية ومتطورة ولا تقل عن الديمقراطيات في العالم"ولئن صَعُب على الكثيرين ابتلاع هذا التوجه وفهمه، فإن الذي كان سهلا وواضحا وثابتا في رؤية الحزب وخطابه هو التخلي عن الخطاب المعادي للغرب الذي تبناه الإسلاميون سابقا، وتبنى خطابا متسقا مع ما يُطرح في المجتمعات الغربيةوما كان واضحا بذات الدرجة أنهم نقيض للاستبداد واعتبروا "ما يفعلونه بمثابة إحياء جديد لكل الأحزاب التي تم غلقها، وبمثابة عودة الفكر الوطني و(عودة لمن قُهِروا) من السياسيين"لقد مثلت هذه الطريقة نمطا جديدا في السياسة التي يتصدرها إسلاميون، ما جعلها مسرحا لابتكار الألفاظ والمصطلحات لدى الباحثين لمحاولة التعبير عن الظاهرة، فوُصِفَت بأنها "سياسة مرتاحة" يمثل الدين فيها إلهاما ثقافيا أكثر منه حضورا فاعلا في أجندة السياسةنشر في تركيا بوست
بسلي وأوزباي: قصة زعيم ص306. برنامج تحت المجهر: "العثمانيون الجدد"، قناة الجزيرة، بتاريخ 26 يوليو 2007 كثير من الغموض أو الارتباك راجع أيضا إلى خلفيات الباحثين الفكرية، إذ الكثير يفهم الديمقراطية كنقيض للإسلام بغير اعتبار لما أفاض الإسلاميون في شرحه من تفريقهم بينها كفلسفة أو آليات، ونظرياتهم في تطبيق الإسلام في العالم المعاصر. بسلي وأوزباي: قصة زعيم ص327. بسلي وأوزباي: قصة زعيم ص304. بسلي وأوزباي: قصة زعيم ص309. Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 54. محمد زاهد جل: التجربة النهضوية التركية ص16. محمد زاهد جل: التجربة النهضوية التركية ص89. برنامج تحت المجهر: "العثمانيون الجدد"، قناة الجزيرة، بث بتاريخ 26/7/2007؛ Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 47. حوار مع عبد الله غل، برنامج حوار خاص، قناة الجزيرة، بتاريخ 22/11/2002. برنامج تحت المجهر: "العثمانيون الجدد"، قناة الجزيرة، بتاريخ 26 يوليو 2007 محمد زاهد جل: التجربة النهضوية التركية ص72. Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 50; Ümit Cizer: The Justice and Development Party, making choices, revisions and reversals interactively, in: Ümit Cizer: “Secular and Islamic Politics in Turkey”, (New York, Routledge, 2008), p. 3. Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. xv; Aydin, Çakır: Political Islam in Turkey, p. 1. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص196؛ Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 46-7. بسلي وأوزباي: قصة زعيم ص303. Ian o. Lesser: Turkey: “Recessed” Islamic Politics and Convergence with the West, in Angel M. Rabasa ... [et al.] “The Muslim world after 9/11” (Santa Monica, RAND, 2004), p175. Menderes Çınar, Burhanettin Duran: The specific evolution of contemporary Political Islam in Turkey and its ‘difference’, in Ümit Cizer: “Secular and Islamic Politics in Turkey”, p. 33. Ümit Cizer: The Justice and Development Party, p. 2.
Published on May 10, 2016 13:22
No comments have been added yet.