#هوية_الحجاز

embrace the difference


لا نذيع سراً حين نتحدث عن العنصرية والتحزب في مجتمعنا، فهي موجودة ومحسوسة وتأتي في أشكال عدة، ولكنها في النهاية تصب في اتجاه واحد: التمييز التعسفي ضد الآخر. وقد يكون التمييز اجتماعياً فيُرفض على أساسه خاطب ما، أو مهنياً بحيث تلعب هذه الاعتبارات دوراً في الترشيحات والتعيينات والتقدم الوظيفي. ومع اتفاقنا على عدم خلو أي منطقة من العنصرية، إلا أن حدتها تختلف من منطقة إلى أخرى.


ولطالما عُرفت المنطقة الغربية من المملكة العربية السعودية أو منطقة الحجاز بأنها تسجل علامات جيدة في هذا المضمار، إذ كانت ولازالت بوتقة جميلة انصهرت فيها وتعايشت أعراق ومذاهب مختلفة من داخل وخارج الجزيرة العربية. وبالتالي لم يكن متوقعاً أن يثير مسلسل ذو طابع تاريخي – لم يعرض بعد – كل هذا اللغط ويُنتج عنه وسم بعنوان هوية الحجاز!


فالمسلسل الذي تنوي قناة mbc عرضه، واسمه “حارة الشيخ” هو المتسبب في إثارة هذه القضية، لأنه ظهر وكأنه يحتكر تمثيل تاريخ المنطقة وتراثها، ويحصر المنتمين لها في إطار معين، يمكن التعرف عليه من خلال اللهجة والأزياء. لكن ما غرد به السعوديون ممن أغضبهم “برومو” المسلسل، يشعرنا بأن هناك إحساساً دفيناً بالغبن، وجد فرصته للتعبير عن نفسه بسبب المسلسل. الذي للأمانة لم أفهم من دعاياته أنه يمثل الحجاز كلها، بل حارة متخيلة في مدينة جدة تحديداً.


من يقرأ ما كُتب في الوسم المذكور سابقاً سيتفاجأ لعدة أسباب. فهذه ربما المرة الأولى التي تكون المشكلة فيها بين مكونات المنطقة نفسها. تلك المكونات البشرية التي تعايشت مع بعضها في هذه البقعة الجغرافية منذ أن صدح الحق من جبال مكة العظيمة فساوى بين البشر وجعل ميزان المفاضلة التقوى. ومنذ أن بات سيدنا بلال مؤذن النبي، وهو الذي كان حتى الأمس عبداً حبشياً، ومنذ أن أعلن نبي الرحمة والهداية بأن سيدنا سلمان القادم من بلاد فارس في منزلة آل بيت النبوة، فيما النار والمسد لكفار بني هاشم ومنهم عم خاتم الأنبياء.


العبارات المكتوبة تشير إلى وجود خلل ما لم يأخذ حقه من الاهتمام. فلطالما اشتكى أهل الحجاز من إهمال تراثهم، وعدم صيانة آثار المنطقة كما يجب، وكيف أن بعض الأفكار الدخيلة التي رافقت فترات زمنية محددة قد غيرت الجميل من عاداتهم. لكن هذه المرة فإن واحداً من مكونات من هذا المجتمع نفسه، هو الذي يشتكي طمس عاداته وتاريخه وتراثه. مصدر الغرابة الأساسي هو أن أبناء الحجاز، يعرفون قبل غيرهم، بأن جل أهل المنطقة، حتى وإن كانت أصولهم من خارج الجزيرة العربية، أو من مناطق أخرى منها، إلا أن وجودهم قديم وسابق لتوحيد المملكة. كما أن تراثهم أصيل، وهو جزء من تراث المنطقة والبلاد ككل، فليسوا طارئين ولا مجنسين بالمعنى المتعارف عليه. فلماذا إذاً تطفو مثل هذه القضية الآن على السطح؟


في البداية سأتفق مع بعض هؤلاء بأن هناك لبساً في مفهوم الحجاز أو من هو الحجازي؟ فنجد أن البعض يقصره جغرافياً على مكة وجدة والمدينة، وأحياناً يتوسع ليشمل الطائف وينبع وكافة مدن وقرى الساحل الغربي. وقد يُستخدم لفظ الحجازي ليوصف به بالفعل حاضرة الحجاز فقط، ويستثنى منه أبناء القبائل العربية المنتمية لهذه المنطقة. ولعل هذا الاستخدام بالذات، والذي يقصر اسم المنطقة على فصيل دون آخر، هو ما تسبب في حالة عدم الرضا.


هناك أيضاً تهمة الاستلاب الثقافي، بمعنى بأن اللهجة الحجازية والطعام الحجازي والزي الحجازي، باتوا جميعاً يرمزون لفصيل واحد، خاصة عبر الإعلام، مما يجعل الآخرين يشعرون بأنهم دخلاء. والحقيقة أعجبني تفسير أحد المغردين الذي اعترف بأن ذلك قد يكون صحيحاً، خاصة لجهة التناول الإعلامي، ولكنه غير مقصود، ومرده أن الذين دخلوا المجال الفني والإعلامي منذ بداياته من أبناء المنطقة كانوا من الحاضرة مثل لطفي زيني ومحمد بخش ومحمد حمزة ووجنات الرهبني، فكان من الطبيعي أن يستخدم هؤلاء لهجتهم المميزة فصارت المنطقة تُعرف بها. لكن هذا لا يعني أنه لا توجد لهجات حجازية أخرى. وكل ذلك ثراء ثقافي، وتنوع طبيعي في مدن مليونية، ومدينة لندن على سبيل المثال فيها عدة لهجات، بحسب طبيعة عمل أهل كل منطقة. وها هي عاصمة الضباب تختار ابن مهاجر مسلم وصل بالأمس من باكستان عمدة لها. فالشعوب الناضجة لا تعيش في الماضي، وإنما تتطلع للمستقبل، وتبحث عمن يحقق متطلباتها.


الوسم الذي بدأ بغرض علمي كما قال أنصاره، وهو عرض المكونات الثقافية الأخرى لهذه المنطقة الغالية من بلادنا الحبيبة، والتي يرون أنها لم تأخذ نصيبها من الإعلام، تحول إلى وسم عنصري، يتراشق فيها أبناء بلد واحد ومنطقة واحدة التهم، ويمارسون ضد بعضهم تمييزاً عنصرياً بغيضاً لا يخدم المنطقة ولا تراثها المتنوع الجميل.  لا أعرف لماذا يتصور البعض من الحضر أو أخوتهم أبناء القبائل أن وجوده لا يمكن أن يتحقق إلا بإقصاء الآخر؟ وأن لهجة واحدة أو ثقافة واحدة هي التي يجب أن تحمل لواء تمثيل منطقة عريقة ومتنوعة وثرية ومباركة مثل منطقة الحجاز؟


العنصرية لا تأتِ بخير، في أي صورة كانت، لأنها ترتكز على الإقصاء والتمييز، ولا تحقق المواطنة الكاملة للناس، ولأنها تفرق بينهم ليس وفق معايير الجد والاجتهاد في خدمة وطنهم، وإنما على أسس لم يخترها أحد منهم. فالوطني الحقيقي هو ذلك الذي يسعى لتقوية لحمة المجتمع، ونشر التآلف بين الناس، أما دعوات الفرقة فهي أشد خطراً من العدو الخارجي لأنها تنخر في المجتمع من الداخل، وهذه المكونات الحضرية والقبلية لأي منطقة باقية وستستمر وتتمدد، فلن يستطع أي مكّون اليوم إلغاء المكونات الأخرى، ومتى ما تقبل الجميع هذه الحقيقة وآمنوا بحتمية التعايش، سينشغلون بما هو أهم: بناء الوطن.


آنذاك لن يفلح ألف مسلسل، ولا مائة أغنية، ولا عشرة برامج حوارية، في أن يثيروا مشكلة أو يشعلوا فتنة.


 


د. مرام عبد الرحمن مكَّاوي


Maram.meccawy@gmail.com


 


 

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 06, 2016 00:45
No comments have been added yet.


مرام عبد الرحمن مكاوي's Blog

مرام عبد الرحمن مكاوي
مرام عبد الرحمن مكاوي isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow مرام عبد الرحمن مكاوي's blog with rss.