كيف نحميهم من الوحوش؟

حين كنت تلميذة صغيرة في السنة الأولى في اسكتلندا، أعطتنا المعلمة ورقة لنلونها كان عليها صورة رجل يتحدث مع طفلة، وبعدها أفهمتنا كيف أنه لا يصح للصغار أن يتحدثوا مع الغرباء حين يكونون بمفردهم، وقد حملنا لاحقاً الورقة التي التي لوناها والتي كُتب عليها "لا تتحدث مع الغرباء" إلى بيوتنا مسرورين. وسيؤكد الوالد علينا الأمر ذاته طوال سنوات طفولتي: لا نثق بأحد لا نعرفه، ولا نركب معه تحت أي ظرف ما لم يسمح لنا أحد أبوينا بذلك. سيمضي وقت طويل قبل أن أفهم أهمية تصرفات والدي وقبل أن أشعر بالامتنان له لحمايتي وحراسة طفولتي بعد الله، وجاءت قضية "وحش جدة" مغتصب الصغيرات لتعيد هذا الموضوع للذاكرة من جديد.
بداية هذه الآفة وهي شهوة ممارسة الجنس القصّر ليست ليست حكراً على مجتمع دون آخر، فهي موجودة في الشرق كما الغرب. وجاءت التقنيات الرقمية ووسائل الاتصال الحديثة لتزيد الطين بلة، فقد صارت هناك تجمعات شبكية عالمية واسعة لأصحاب هذا الشهوة الحقيرة، والذين يطلق على ممارسها بالانجليزية "بيدوفايل" (pedophile)، حيث يتبادل أفراد هذه الشبكات الصور ومقاطع الفيديو الخاصة باغتصاب الأطفال، وربما عناوينهم أيضاً. بل ومن شدة حقارة أعضائها أن بعضهم يقوم بتصوير أطفاله أو طلابه وتبادل صورهم مع الآخرين. فالشخص الذي لديه اتصال مباشر وسهل ومبرر بالأطفال يشكل كنزاً لغيره من الأعضاء ممن لا يُتاح لهم هذا الأمر، وكثيراً ما تم الكشف عن تورط المدرسين والمدرسات في هذا الأمر، ولعل معلمة دار الحضانة (فينسا جورج) البريطانية من أشهرهن مؤخراً.
ولانتشار هذه الآفة، فقد باتت معظم الحكومات في الدول المتقدمة تجاهد من أجل القضاء عليها، فأولاً هناك منع رسمي وصريح لدخول هذه المواقع الإلكترونية أو لتبادل صور أطفال في مثل هذه الأوضاع حتى لمجرد النظر دون الفعل. وإذا صادف ووجد أحدهم في جهازك المحمول صورة واحدة لقاصر عارٍ أو في وضع مخل فستتعرض للسجن، في حين لن يلقي الشرطي بالاً لألف صورة لنساء راشدات عاريات.

قرأت قبل سنة رواية مؤلمة بعنوان (معطوبة) أو (Damaged) كتبتها سيدة ترعى الأطفال عن قصة واقعية لطفلة تعرضت لتحرش جنسي واغتصاب من قبل أهلها وأصدقائهم منذ سنواتها الأولى، فصارت لديها إعاقات جسدية متنوعة وتأخر عقلي مع بلوغها سن الثامنة ستلازمها بقية حياتها مع أنها لم تولد بها، فالتأثيرات النفسية وخيمة وبعيدة المدى تستمر حتى بعد سنوات من إبعاد الطفل عن هذا الواقع المر ما لم يتم علاجه بأسرع ما يمكن وبالشكل الصحيح.
هذه المشكلات تحصل إذاً ولا يجب أن نخجل من الاعتراف بوجودها في مجتمعنا وإنما محاربتها. ما حصل لصغيراتنا في جدة مؤلم جداً، وأقل ما نقدمه لهن هو علاج نفسي تأهيلي كامل حتى يتجاوزن هذه المرحلة، لا فرق في ذلك بين الضحية السعودية واليمنية والأفغانية، فكلهن منكوبات.
ولكن أود أن أطرح هنا سؤالاً لمحاولة معرفة أسباب ما حصل وكيف يمكن تلافي ذلك مستقبلاً، فمن المسؤول عن التقصير هنا؟
فمن ناحية كيف يتكرر هذا الأمر مع ثلاثة عشرة ضحية أو أكثر، من الشخص نفسه، في المدينة نفسها، وبالطريقة نفسها تقريباً، وعلى مدى سنوات دون أن يقع المجرم في قبضة العدالة؟ سؤال نطرحه للأجهزة الأمنية، فهل كانت لديهم شكوك حول الرجل وكانوا ينتظرون فقط الأدلة؟ أم أن المعلومات اللاتي كانت تدلي بها الصغيرات لم تكن كافية؟ وهل أدلت الصغيرات بأقوالهن أصلاً قبل القبض عليه أم أن الخوف من العار والفضيحة كان أقوى في نفوس الأهالي فلم يقدم بعضهم شكوى رسمية؟

من ناحية ثانية أنا متفاجئة قليلاً أيضاً من تصديق البنات الواحدة تلو الأخرى لقصص هذا الرجل لاستدراجهن! أعنى القصص لم تبدو لي محبوكة بحيث تنطلي بسهولة على ابنة العاشرة التي تجاوزت سن التمييز، خاصة من قبل شخص غريب تماماً، ولكن يبدو أنه لم يتم توعيتهن أبداً، لا في البيت ولا في المدرسة بشأن التحرشات الجنسية أو الاختطاف وبشأن التحدث مع الغرباء، وأنهن متعودات على السمع والطاعة. وهذا يبين خللاً كبيراً لدينا يجب أن ننتبه له، سواء على صعيد أسري وعائلي، أو تربوي وإعلامي. فكما كانت هناك لوحات وندوات متكررة في المدارس بشأن العناية بالأسنان، فالأمر يجب أن يكون هكذا وأكثر بشأن العناية بالنفس والمحافظة عليها من الأذى. وأن يتم شرح هذه الأمور بطرق مبسطة للأطفال، دون تضخيم يجعلهم يخافون من خيالهم، فالهدف هو التوعية وليس خلق حالة من الرهاب الاجتماعي لديهم.
نأتي بعد ذلك للمجرم وكيف نتعامل معه ومع من يثبت تحرشهم بالصبيان أو البنات. في الغرب، هؤلاء يجدون عقوبة أكثر من عقوبة القاتل، ومع أنه لا يتم إعدامهم، لأن الإعدام ممنوع في تلك البلدان، إلا أنهم يقضون سنوات طويلة في السجن، وتوضع أسمائهم حتى بعد الخروج في سجل المتحرشين للأبد، ولا يُسمح لهم بالعمل أو السكن في أي مكان قرب الأطفال، وأحياناً يطلب من أحدهم أن يرتدي سواراً في قدمه مدى الحياة يسجل كل تحركاته.
أما نحن فبحمدالله مازال الحد الشرعي لدينا قائماً، وبعد التحقيق وثبوت الأدلة ومحاكمة عادلة، فلا حل لهؤلاء سوى الإعدام بغض النظر عن قرابة الشخص للطفل. فجريمته إفساد في الأرض وإعدام للطفولة واغتصاب للكرامة، فلا يجب أن يكون هناك مجال للشفقة والرحمة.
كما نحن بحاجة ماسة إلى خبراء وخبيرات في قضايا التحرش والاغتصاب والعنف الأسري بالنسبة للأطفال وأسرهم، سواء من الناحية الطبية والنفسية أو الاجتماعية أو الحقوقية، فلعل هذه التخصصات تضاف إلى برنامج الابتعاث ويُشجع الطلبة على التخصص فيها.
أتمنى أن لا تتوقف وسائل الإعلام عن تغطية هذه الجريمة الشنيعة، وأن تبلغنا أولاً بأول بآخر أخبار التحقيقات والمحاكمة، وأن لا يختفي كل شيء فجأة من الإعلام كما يحصل في قضايا العنف الأسري.
أخيراً..ألم يحن الوقت بعد لوضع مسودة واضحة لحقوق الطفل بحيث تحميه وترعى طفولته من الإعتداءات الجسدية والجنسية والنفسية من الأقارب كما الأباعد؟
مرام عبد الرحمن مكاوي's Blog
- مرام عبد الرحمن مكاوي's profile
- 36 followers

