ومتى تثور الشعوب على نفسها؟

منذ بداية العام الجديد والعالم العربي يغلي على فوهة بركان، فالثورات الشعبية ضد الأنظمة الحاكمة انطلقت شرارتها من تونس وانتقلت عدواها لمصر، ومنهما إلى ليبيا واليمن وسوريا بشكل أساسي مع قيام بعض المظاهرات والاعتصامات الأقل حدة في دول أخرى. القاسم المشترك الأكبر بين هذه الثورات والانتفاضات الشعبية يمكن تلخيصه في أمرين: المطالبة بالحريات الأساسية وبالعدالة الاجتماعية. إنها ثورة المرء إذن ضد الاستبداد من أجل استرداد الكرامة والحصول على لقمة العيش الشريفة بعد أن نفذت كل عقارات الصبر. وإذا كان يستحيل إنكار ما تعرضت له الشعوب العربية منذ الاستقلال حتى اليوم من قمع وإجحاف في توزيع الثورات الوطنية وتغييب عن المشهد السياسي، فإنه يستحيل أيضاً إنكار ما قامت وتقوم به هذه الشعوب نفسها من تهميش أو ظلم ضد فئات بعينها مستضعفة فيها.
لو بحثنا في القضية بشكل عام لوجدنا بأن الرجل لازال يمارس سلطة مطلقة في البيت والمجتمع تنتهي في بعض الأحيان إلى عنف أسري تزداد نسبته يوماً بعد يوم ضد المرأة، ولازالت هذه المرأة مع الرجل يتعسفان أحياناً في معاملتهما للطفل أو الخدم أو العمال. ولو تركنا العموميات ودخلنا في تفصيلات أخرى لوجدنا تمييزاً إجتماعياً على أساس العرق أو الدين والمذهب أو حتى لون البشرة (وهي قضية لازلنا كعرب نتحرج من مناقشتها بصراحة) ونوعية الأعمال الشريفة التي تمارسها فئات معينة في المجتمع العربي. أنا لا أتحدث هنا عن التمييز في قضايا الزواج والنسب، مع اعتقادي الشخصي بأن رفض العائلة لزواج شخصين متراضيين على أسس غير الخلق والدين والنضج السني والقدرة على تحمل أعباء الزوجية غير مبرر، وإنما عن التعامل اليومي مع هؤلاء ومنحهم العدالة الإجتماعية التي يستحقونها، والتي لا يضر حصولهم عليها أحداً. إنما هو كبر النفس والاعتقاد بأفضليتها على ما سواها، في تجسيد معاصر من قبل مجتمعات إسلامية للاعتقاد اليهودي بأنهم شعب الله المختار.
إنه لمن المزعج والمحزن أن تجد كتابات وآراء لفئات متعلمة في المجتمع تبرر للنظام الحاكم نفسه ما يقوم به من إجحاف وتفرقة ضد فئة إجتماعية أخرى، بل تغضب منه وتهدد بالعصيان فيما لو شعرت بأنه بدأ محاولات خجولة لتعديل الأوضاع. والغريب أنه حتى الداعية أو طالب العلم أو إمام المسجد قد ينزلق إلى نفس الهاوية مع المثقف والصحفي والأديب والكاتب والفنان وغيرهم من صفوة المجتمع في تبرير هذه الأوضاع الخاطئة. سبق وأن قرأت كتابات لأحدهم ينتقد بناء حكومته لمدارس حكومية في المناطق التي تسكنها الأقليات، لأنهم حين يتعلمون سيصبحون خطراً على البلاد! أليس التعليم أبسط حقوق الطفل في عصرنا هذا؟
في "مدونة قصي" أطلعت على تدوينة مختصرة كتبها المدون تعليقاً على فيلم مرفق من اليوتيوب حول قضية من هذا النوع بعنوان "نساء الأخدام في اليمن يحكين قصتهن" ، وهي قصة بل قصص تنضح بالمرارة والألم. فهنا شعب عربي ومسلم يقيم في بلد عربي ومسلم (يثور حالياً على نظام حكمه) يتعرض إلى ظلم اجتماعي رهيب يشمل التحقير والإهانة اليومية والاعتداء الجسدي ومصادرة الأراضي وحرق البيوت ومنع الأطفال من الدراسة من قبل إخوة الدم والقبلة والعقيدة في حين لم تحرك السلطات -المتعاقبة- ساكناً فيما يجري. فهؤلاء مواطنون من الدرجة العاشرة على ما يبدو، لأنه يُعتقد بأنه ليسوا عرباً بل ينحدرون من الحبشة، ولأن لون بشرتهم أغمق درجة عن بقية الشعب. وقبل أن يبدأ البعض في كيل التهم للشعب اليمني الشقيق، الذي تعاني شرائح واسعة منه لا سيما في الأرياف من الفقر والأمية، على" لا إنسانيته" هذه، سأطلب من هؤلاء أن يلتفتوا حولهم ويسألوا أنفسهم كيف يتعاملون هم في بلادهم مع من يختلف معهم في اللون أو الدين أو المذهب أو الجنس أو المكانة الاجتماعية أو الجنسية؟ أعتقد أن الكثيرين لن يرغبوا في مشاركتنا بأجوبتهم.
الحاكم في النهاية هو ابن هذا المجتمع، فيه ولد وتعلم وتربى، وبالتالي فهو بشكل عام يستمد الجزء الأكبر من قيمه ومداركه واعتقادته من هذا المجتمع. فلا نتوقع من مجتمعات تكّرس أكثريتها الظلم وتباركه أن تنتج حاكماً عادلاً -إلا فيما ندر-، والعكس صحيح، فالحاكم الظالم سيعمل على تكريس هذا الطبقية والمظالم في مجتمعه، فالعلاقة إذن طردية.
إن محاولة إلصاق كل المشكلات والأمراض التي تعاني منها الشعوب العربية على الأنظمة الحاكمة فحسب هو أمر غير صحيح ولا يفيد المجتمع على المدى البعيد. صحيح أن هذه الأنظمة لم تقم بما يكفي لمعالجة هذه الأمراض سواء بإصدار التشريعات القانونية الرادعة والتأكد من تطبيقها، أو عن طريق التعليم والإعلام والمناشط التوعوية، لكنها لم تكن هي البادئة بنشر فيروساتها في المجتمع، بل كانت موجودة قبلها وستظل باقية بعد رحليها ما لم تتم معالجة أصل الداء.
إننا في ربيع العرب كما يقولون بعد سنوات من فصول متعاقبة من الخريف والشتاء، لم تكن الشبيبة العربية في وقت مضى متوحدة في أقطارها على امتداد الوطن العربي كما هي متوحدة اليوم، لأنها تتوحد من أجل رفع الظلم والحرية والحصول على الحقوق المشروعة، وفي البلدان التي نجحت ثورتها السلمية أو في طريقها إلى ذلك، يجب أن لا ينسى هؤلاء بأن ورائهم مسؤولية أكبر وهمٌ أعظم مما قاموا به من إزالة نظام فاسد، وهي إزالة الفساد والظلم من أنفسهم ومن حولهم، والثورة على كل التقاليد العنصرية البالية، وستكون تلك بحق الثمرة الأعظم لثورتهم وتضحياتهم، وعندها سيحل الربيع الحقيقي إذ سيكون ربيعاً للشعب..كل الشعب.
مرام عبد الرحمن مكاوي's Blog
- مرام عبد الرحمن مكاوي's profile
- 36 followers

