مقطع من الجزء الأول من الثلاثية – الفتاة ذات وشم التنين – ترجمة مرام مكاوي

ملاحظة: لحظة كتابة مقالي عن الألفية للقافلة لم تكن أي ترجمة عربية للرواية فاضطررت، بناء على طلب المجلة بأن أقوم بعملية الترجمة بنفسي، وهي تجربة جديدة خضتها..ولم تكن سهلة.  كنت في دبي قبل أسابيع وشاهدت في إحدى مكتباتها ترجمة للجزء الثاني من الرواية ففرحت كثيراً. قام بالترجمة مارك عبود ونشرتها دار سما.



قام بلومكفست بتشغيل هاتفه المحمول ليعرف عما إذا كانت بيرغر في ستكهولم قد أرسلت له أية رسالة..فهو الآن في قرية هيدبي ..فـلم يجد أية رسالة منها. في هذه الأثناء كان العجوز هنريك فانغر ينتظر ضيفه بصبر ليواصلا حديثهما. فجأة تنبه الصحفي المشهور الذي كان شارداً إلى أن مضيفه ينتظر أن يقوم هو بكسر دقائق الصمت هذه حين يكون جاهزاً..فتحدث مطلقاً عبارة نارية :


" وينستروم مغفل "!


ضحك فانغر بصوت عالٍ قبل أن يقول : " ربما هذا صحيح .. ولكن للأمانة فليس هو من صدر عليه حكم بالسجن من المحكمة !" .


فجاءه جواب بلومكفست :" هذا صحيح..ولن يكون هو في مكاني أبداً..إنه لم يقل أي شيء حقيقي أو أصيل وذي معنى ..كان يراوغ ويستخدم كافة المصطلحات التي تمكنه من أن يكذب ويخادع دون أن يتعرض للمساءلة " . عندئذٍ تحدث رجل الصناعة الخبير الذي عركته الأيام : " لقد كونت العديد من العداوات عبر السنين، وإن كنت قد تعلمت شيئاً واحداً فهو أن لا تدخل معركة ضد أحد إذا كنت متأكداً بأنك ستسخر. بالمقابل لا تدع شخصاً أهانك أو أساء إليك يفلت دون عقاب. زايد على الوقت ..واضرب ضربتك حين تكون في موقع قوة..افعل ذلك حتى لو لم تكن هناك منفعة حقيقية وقتها لهذه الضربة الأخيرة. "


" شكراً على قبسات الحكمة يا هنريك..والآن أخبرني عن عائلتك " قالها بلومكفست وهو يضع جهاز التسجيل على الطاولة التي بينهما ويضغط على زر التسجيل.


" ماذا تريد أن تعرف؟ " سأله فانغر.


" لقد قرأت كل ما في الملفات والسجلات التي قدمتها لي عن قصة اختفاء حفيدة أخيك هاريت فانغر وجهود الشرطة والعائلة للعثور عليها..وأحداث ذلك اليوم المتداخلة..والحقيقية أن تلك الملفات تظهر أسماء عددٍ كبيرٍ من أفراد العائلة..وأحتاج إلى مساعدتك لمعرفتهم وفهم علاقاتهم المتشعبة ".



***



لعشر دقائق ظلت ليزبيت سالندر في الردهة الفارغة تنظر إلى الاسم المطبوع على اللوحة :( المحامي  إن.إي بيورمان ) وقبل أن تقرع الجرس..كان قفل باب الدخول قد تحرك. اليوم هو الثلاثاء إنهما لقاؤهما الثاني وليزبيت تساورها مشاعر سيئة عن هذا اللقاء قبل أن يبدأ. لم تكن تشعر بالخوف من بيورمان - فليزبيت نادراً ما كانت تخاف من أحد - لكنها مازلت تشعر بعدم الراحة مع هذا الوصي الجديد. كان سلفه المحامي هولغر بالمقرن مختلفاً عنه بالكلية .. كان دمثاً كريماً. لكنه قد أصيب قبل ثلاثة أشهر بجلطة وأصبح نيلز إريك بيورمان هو خليفته فيما يتعلق بقضية ليزبيت سالندر.


خلال الاثني عشرة سنة التي قضتها سالندر تحت الوصاية ..اثنان منهما في مصح نفسي للأطفال..لم تقم  أبداً بتقديم الإجابة نفسها على السؤال التقليدي البسيط الذي يتكرر يومياً : " حسناً..كيف حالك اليوم؟ "



حين بلغت ليزبيت سالندر الثالثة عشرة من العمر قررت المحكمة أن تضعها في مصح ( سانت ستيفنز ) النفسي للأطفال في مدينة أبسولا . كان القرار مبنياً بشكل رئيسي على حقيقية أنها تعتبر مضطربة اجتماعياً وعنيفة بشكل خطير تجاه زملائها في الصف وتجاه نفسها أيضاً.


فأية محاولات من قبل المعلمين أو أي سلطة رسمية لبدء حوار مع هذه الطفلة عن مشاعرها أو حياتها العاطفيه أو صحتها كانت تقابل بصمت مطبق وتحديق صارم في الأرضية أو السقف أو الجدران مما كان يزيد في إنزعاجهم وغضبهم. كانت تعقد يديها وترفض أن تشارك أو تخضع لأي اختبار نفسي. كانت ترفض أن تخضع لقياس الوزن أو الطول أو أي تحليل نفسي أو حتى تلك الجهود الرامية لتعليمها أي شيء. فباستطاعة الجميع أن يقيدوا هذه الطفلة الهزيلة إلى درجها أو مقعدها ويحبسوها في الفصل كما شاؤوا لكن ليس باستطاعتهم إجبارها على أن تفتح أذنيها لتسمع الدرس ولا أن ترفع قلماً لتخط كلمة واحدة في دفتر واجبها المدرسي !


لقد استطاعت أن تكمل السنوات التسع من التعليم الإلزامي ولكنها لم تحصل على شهادة تخرج.



كل ذلك أدى إلى صعوبة التوصل إلى تشخيص صحيح ودقيق لحالتها العقلية والذهنية..بإختصار لم تكن ليزبيت سالندر فتاة يسهل التعامل معها على الإطلاق.


وحين كانت في الثالثة عشرة أيضاً صدر قرار يقضي بأنه يجب أن يتولى أحدهم أمر الوصاية على ممتلكاتها وحقوقها المالية حتى تبلغ سن الرشد..وهذا الوصي لم يكن سوى المحامي هولغر بالمقرن الذي بالرغم من بدايته المتعثرة معها إلا أن في النهاية نجح بشكل كبير حيث أخفق الأطباء والمدرسون وكافة المسؤولين الذين كانوا يحاولون اختراق جدار الصمت والعزلة التي بنته هذه الصغيرة حول نفسها. فقد استطاع أن يكسب ليست ثقة الفتاة وحسب بل وناله شيء من حبها أيضاً.



حين بلغت ليزبيت سالندر الخامسة عشرة قرر الأطباء في المصح أنها لا تشكل في حقيقة الأمر خطراً لا على الآخرين ولا على نفسها. وبما أنه تم تصنيف عائلتها على أنها غير مؤهلة للقيام برعايتها وليس لديها أقارب يتولون هذه المهمة، فقد تم اتخاذ قرار يقتضي بأن تغادر ليزبيت المصحة في أبسولا ويعاد تأهليها اجتماعياً عبر عائلة بديلة حتى تبلغ سن الرشد. ولكن تلك الرحلة لم تكن أبداً سهلة. فقد هربت من العائلة الأولى بعد أسبوعين فقط ولم تكن العائلتان الثانية والثالثة أوفر حظاً معها. هنا قرر المحامي بالمقرن أن يقيم معها حواراً صريحاً أخبرها فيه بأنه في حال واصلت انتهاج المسار السلوكي ذاته على هذا النحو فسينتهي بها الأمر نزيلة حبيسة في مصح أبسولا من جديد. كان لكلامه هذا تأثير عظيم على الفتاة بحيث أنها تقبلت العائلة المضيفة الرابعة.



لكن ذلك لا يعني بأن ليزبيت التي غدت الآن مراهقة قد تصرفت بشكل سليم منذ خروجها من المصحة. فحين بلغت السابعة عشرة كانت قد اعتقلت  أربع مرات : اثنان منهما لأنها كانت تحت تأثير قوي للكحول انتهتا بها في غرفة العناية المركزة ومرة لأنها كانت تحت تأثر المخدرات.


أما في الحالة الرابعة فقد اتم اعتقالها قبل ثلاثة أسابيع فقط من بلوغها الثامنة عشرة، هذه المرة لم تكن ليزبيت سالندر تحت تأثير المخدرات أو الكحول..بل كانت واعية تماماً إلا أنها قامت بركل شاب عن بوابة إحدى محطات مترو الأنفاق، وقد وجهت لها تهمتي الاعتداء والضرب. هذه المرة دافعت ليزبيت عن نفسها مؤكدة بأن الشاب هو من بدأ بالاعتداء فقد أمسك بها وجذبها نحوه وكان هناك شهود دعموا أقوالها هذه..فاضطر ممثل الإدعاء لإسقاط القضية.



لكن كنتيجة لهذه التطورات الأخيرة فقد أصدرت المحكمة المحلية أمراً يقضي بإجراء تقييم نفسي لسالندر. وبالطبع كعادتها رفضت ليزبيت الإجابة على أسئلة الفحص أو التعاون مع الأطباء، وبالتالي اضطرر الأطباء الذين استعان به المجلس الوطني للصحة والرعاية الاجتماعية لأن يصدروا تقريرها المبني على ملاحظات عن المريضة بدلاً من أن يكون مبنياً على فحص طبي متكامل لها. ولما كان المستحيل ملاحظة أي شيء على شابة صامتة بشكل كلي وتجلس لساعات عاقدة يديها بلا حراك فقد خلص هؤلاء إلى نتيجة مفاداها إن ليزبيت سالندر غريبة الأطوار هذه لاشك تعاني من نوع من الاضطراب العاطفي الذي لا يجب أن يترك مصدره دون علاج، فأصدروا تقريراً طبياً / قانونياً يوصي بأن توضع الشابة ليزبيت سالندر في مصح نفسي مغلق.



أما من ملفها الشخصي السابق فلم يكن في صالحها أيضاً فقد كان من الواضح أنها تعاني من حالات إفراط في استخدام الكحول والمخدرات وأنه ينقصها الوعي الذاتي. وهكذا صار ملف القضية فصار فائضاً بالكثير من كل الصفات السلبية : فهي منطوية وغير متكيفة اجتماعياً ولا تتعاطف مع الآخرين والأنا مترسخة في شخصيتها بشكل كبير ومضطربة عقلياً وأنانية وغير متعاونة أبداً وغير قادرة على التعلم. أي شخص سيقرأ ما جاء في هذا الملف الضخم سيعتقد بأن ليزبيت سالندر هي من دون شك مواطنة معاقة عقلياً بشكل كبير.



نقطة أخرى ضدها كانت شهادة في ملفها من قبل موظف الرعاية الاجتماعية بأنها شوهدت في مناسبات مختلفة مع رجال يكبرونها في السن في منطقة مارياتورغيت.



تحت وطأة كل هذه الأدلة والشهادات والتقارير كان من الواضح أمام المحكمة بأن هذه الفتاة تعاني من الكثير من المشكلات المستعصية ولا بالتالي لا يبقى أمام قاضيها من خيار سوى بأن القبول بالتوصية الطبية والقانوية التي تدفع باتجاه حبسها في مصح نفسي.



في صباح يوم النطق بالحكم تم إحضار ليزبيت سالندر إلى المحكمة من مصح نفسي للأطفال كان قد تم إيداعها فيه منذ يوم الحادثة. كانت ليزبيت تشعر بأنها سجينة في أحد معتقلات النازية : لم يكن لديها أدنى أمل بأنها ستفلت من مصيرها المظلم هذا اليوم. كان أول شخص قابلته في المحكمة هو المحامي هولغر وقد أخذها بعض الوقت لتستوعب بأنه ليس هنا ليلعب دوره كوصي عليها ويدلي بشهادته، وإنما ليمثل قانونياً كمحامي. تفاجأت حين وجدته بلا تردد يقف إلى صفها ويقدم دفاعاً قوياً ومقنعاً ضد فكرة وضعها في المصحة. ولأنها ليزبيت التي لا تظهر مشاعرها في كل الأحوال فلم تظهر هذا الاندهاش سوى بحركة تعجب من حاجبيها لكنها كانت مصغية بتركيز شديد لكل كلمة قالها.



كان محاميها رائعاً خلال الساعتين التي استجوب فيها الطبيب الدكتور جاسبر لوديرمان والذي كان قد وقع على التقرير الذي يوصي بحبس الفتاة في المصح. كل كلمة في التقرير تعرضت للنقد والمساءلة واضطر الطبيب لأن يشرح الأسس العلمية التي تبرر تقريره هذا جملة جملة. وكانت الخلاصة التي أدركها الجميع نتيجة لهذا الهجوم الناجح من المحامي بأنه بما أن المريضة رفضت المشاركة في إجراء أي اختبار أو فحص لقواها العقلية والنفسية والتزمت الصمت المطلق فإن استنتجات الطبيب والتي بنى عليها حكمه وأصدر توصياته ليست سوى تخمينات وتكهنات مبنية على الظن وغير كافية لتسلب سالندر حريتها على النحو الذي جاء في التقرير.



وفي نهاية الجلسة أوضح المحامي بأنه في حال صدر القرار بإعادة سالندر للمصحة النفسية دون وجود أدلة علمية طبية تبرر هذا الأمر فإن قضيتها ستأخذ نصيبها من الإثارة الإعلامية والسياسية وهو ما لا يريده أحد هنا. وبالتالي فمن مصلحة الجميع البحث عن بدائل مرضية لكآفة الأطراف. كانت تلك لغة غير معهودة في مثل هذه الحالات في المحكمة..فساد التوتر أعضاءها.



الحل كان بالفعل وسطياً، فالمحكمة تعتقد فعلاً بأن الصبية ليزبيت سالندر تعاني من اضطرابات نفسية وعاطفية لكن حالتها لا تستوجب إيداعها في مصح. وبالمقابل فإن طلب مدير الرعاية الاجتماعية بأن يعين للشابة ( بعد بلوغها سن الثامنة عشرة ) وصي يتولى أمورها قد أخذ في الحسبان.



وهنا التفت رئيس المحكمة إلى المحامي العجوز هولغر بالمقرن بابتسامة حقوده عارضاً عليه أن يتولى هذه المهمة الشاقة وهو موقن بأن الرجل الذي استمات في الدفاع عنها قبل قليل سيتهرب من المهمة ويرميها لغيره..إلا أنه المحامي تقبل الفكرة تماماً وأبدى استعداداً تاماً لأن يكون الوصي الشرعي لليزبيت سالندر بشرط واحد : أن تقبل الآنسة ليزبيت سالندر بذلك دون ضغوط. التفت المحامي إليها متسائلاً..ليزبيت كانت مرتبكة من تأثير كل هذه النقاشات والجدالات التي دارت خلال هذه الجلسة الطويلة المتعبة.. ومتفاجئة أيضاً ..فحتى هذه اللحظة لم يسألها أحد عن رأيها في أي شيء مما دار عنها..حدقت ليزبيت في المحامي هولغر بالمقرن لمدة طويلة قبل أن تهز رأسها موافقة..وكان ذلك واحداً من أهم القرارات التي اتخذتها في حياتها.



 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 04, 2011 07:59
No comments have been added yet.


مرام عبد الرحمن مكاوي's Blog

مرام عبد الرحمن مكاوي
مرام عبد الرحمن مكاوي isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow مرام عبد الرحمن مكاوي's blog with rss.