انتماء فحب فوطن

لو أن أحداً ما طرح على أي مواطن سعودي سؤالاً حول مدى إحساسه بالانتماء لبلاده لجاءه الجواب بلا تردد أنه بالطبع يشعر بالانتماء لهذا الوطن العظيم، بلاد الحرمين الشريفين ومملكة التوحيد. ولن يكون هذا الشخص مدّعياً. فمن منا لا يشعر بذلك؟! وقد يبدو الأمر هنا على درجة كبيرة من الإرضاء، ولكن ما أن تبدأ بمقارنة جواب هذا الشخص مع مواطن من بلد آخر حتى يدهشك الفرق! وأول أسباب الدهشة هو أنك ربما لن تحتاج لتسأل الشخص الثاني عن عمق إحساسه بالانتماء لوطنه، لأن ذلك يظهر تلقائيا في حديثه الاعتيادي. وهو أمرٌ كان قد استرعى انتباهي منذ فترة طويلة وعززته الأحداث الأخيرة المتلاحقة عربياً ودولياً.




قبل سنوات أخذتني رحلة علمية لمدينة (بانف) في جبال الروكي الكندية، لفت انتباهي يومها تعلق المدينة وسكانها بطبيعتهم وتاريخهم، فالحياة الفطرية بحيواناتها وطيورها لها مكانتها في قلوب سكان المنطقة، ولذلك فليس من المستغرب بعد ذلك أن تحمل بعض الشوارع المهمة أسماء هذه الحيوانات. ولمحت هناك أيضاً رغبة في إحياء التاريخ الأصلي لهذا المكان، أي تاريخ الهنود الحمر وحضارتهم التي أبيدت على يد جدهم الرجل الأبيض نفسه.

الأمر نفسه سيتكرر في أستراليا، حيث يبدو أن عزلتها الجغرافية قد عززت من انتماء الناس لمحيطهم سواء لشواطئ هذه الجزيرة العملاقة أو لغاباتها الكثيفة بسكانها المميزين، يتقدمهم الكنغر مع رفيقه الكوالا، وهذا الأخير سيخبرك أي أسترالي بفخر حين تسأله إن كان هذا الحيوان الجميل يتواجد في بلاد أخرى قريبة مثل نيوزيلاندا قائلاً: كلا إنه رمزنا وهو يتواجد فقط في أستراليا!

وإذا كنا هنا نتحدث عن كندا وأستراليا باعتبارهما دولتين صغيرتين في السن وتملك كل واحدة منهما طبيعة مميزة وثرية، فإن الأمر سيتكرر في دول أخرى بعضها عربية. فالمصريون يتغنون أبداً بنهر النيل وبتاريخ مصر، وقد رأينا كيف حاول شباب الثورة في أوج الأزمة حماية المتحف المصري الذي يحوي ذاكرة الوطن وتاريخهم، وعبارات مثل "حضارة الفراعنة" أو "قدماء المصريين" لا تغيب عن وسائل الإعلام المصرية ولا عن مناهج الدراسة ولا حتى في الحوارات العرضية عن مصر وشعبها. وكذلك لن يفوتك وأنت تتحدث مع عراقي يحكي لك عن بلده أن تستشعر كم هما حاضران (نهر دجلة وشقيقه الفرات) في الكثير من هذه الحكايات، وسيذكر لك ولا شك شيئاً عن بابل وآشور وعن حضارة عمرها آلاف السنين.

بالرغم من وجود الكثير من المشكلات في كل بلدان العالم، إلا أنه حتى وفي أحلك ظروف الحروب أو الأزمات هناك شيءٌ ما يجعل المرء فخوراً بانتمائه لهذا المكان أو لهذا الشعب، بل تجده في الأوقات الصعبة خصوصاً يستلهم من بيئته وتاريخه ما يساعده على تخطي الأزمة. هاهو الياباني في وسط نكبته الطبيعية الحالية يذكر نفسه والعالم بنهوضه التاريخي بعد الحرب العالمية الثانية، ويتحدث عن أشجار الكرز الجميلة التي يتفاءل بها، لأنها تظل تثمر بالرغم من الطقس السيىء.. هذا الأمر هو ما أعتقد بأننا نفتقده.

كم عدد المرات التي تسمع فيها سعودياً يتحدث بفخر وحب عن أرضه وتاريخه؟ هل سمعته يحكي عن الصحراء والبحر والجبل والوادي؟ أو عن الجمل وحبة التمر والنخلة؟ لا أتحدث عن الأغاني الوطنية أو مهرجانات الجنادرية أو الأشعار والروايات، بل عما يقوله المواطن في حديثه اليومي.

بل هل سبق واستمعت إلى مواطن يحكي حكاية عن مدينته أو قريته أو منطقته؟ هل يستطيع أن يخبرنا عن الناس وعاداتهم وعن أبطالهم المحليين أو عن المصائب أو الكوارث الطبيعية التي تعرضوا لها وكيف نجحوا بتوفيق الله ثم بشجاعة الأهالي في تجاوزها؟ ربما تعد حكايات أحداث جدة الأخيرة علامة فارقة يتيمة.

لماذا تبدو علاقتنا مع بلادنا أحياناً وكأنها مادية فحسب؟ فنحن نحبها وندعو الله أن يحفظها حينما تحصل لنا فائدة مباشرة منها: وظيفة، بعثة، منحة أرض، راتب إضافي أو حتى إعفاء من رسوم ما، في حين لو لم يتحقق ذلك نهدد بالهجرة، لأن هناك من لم يقدرنا، والحياة لم تعد تطاق! بالطبع على وطننا حقوق لنا كما له علينا واجبات، ومن حقنا أن نعيش معززين ومكرمين فيه وأن نستمتع بثرواته حين تصرف في محلها، ومن حقنا أن نغضب حين نتعرض لظلم أو إجحاف من أي نوع، أو حين نشعر بأننا لا نتقدم كبلد بالسرعة الكافية للأمام، في حين يتقدم جيراننا بسرعة الصاروخ، لكن ذلك ليس هو معيار حب المرء لموطنه وأرضه لو كان هناك بالفعل إحساس عميق بالانتماء.

يهاجر البعض ويظل بلده حاضرا في قلبه، ليس فقط لدى الجيل الأول، بل والجيل الثاني والثالث أحياناً، في حين أنه قد يعيش مواطنا في بلده وكأنه عابر سبيل غير مكترث لا بماضيه ولا حاضره. هناك إذن خلل ما.. هل هو من الأسرة؟ من الإعلام؟ من المدرسة؟ من المسجد؟ من الإدارات الحكومية المختلفة؟ أم من فهم خاطىء للوطنية؟

الكثير يمكن أن يقال في هذا الخصوص.. والكثير أيضاً قد يكون مما لا يمكن أن يقال، لكن ما هو ثابت عندي أن الحب تفضحه العيون قبل اللسان، وحين يكون الحديث عن ذلك الحب الذي يولد من رحم عمق الإحساس بالانتماء للوطن فإنني ما زلت أفتش في عيوننا عما لمحته في عيون الآخرين.


المقال كما نشرته الوطن

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 25, 2011 06:20
No comments have been added yet.


مرام عبد الرحمن مكاوي's Blog

مرام عبد الرحمن مكاوي
مرام عبد الرحمن مكاوي isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow مرام عبد الرحمن مكاوي's blog with rss.